«ثلاث عشرة ليلة وليلة».. قناع الراوي في لعبة البوح المعكوس
عبد الأمير المجر عبد الأمير المجر

«ثلاث عشرة ليلة وليلة».. قناع الراوي في لعبة البوح المعكوس

بكلمات شعرية معبّرة وأخّاذة، يدخلنا الروائي سعد سعيد عالما جديدا من خلال روايته الاخيرة "ثلاث عشرة ليلة وليلة" لنجد انفسنا في منطقة حساسة، كثيرا ما كتب عنها، لكن الجهوية والعاطفة ظلت مسيطرة على جميع الكتابات في الغالب.. منطقة، نجزم ان السرد العراقي لم يطأها عاري القدمين من قبل، ونعتقد انه لم يفعل ذلك في المستقبل القريب!

•مدخل من داخل المتن .. خارجه!

 

"... سكون الليل يثير صبابة المحب، وحزن المهجور .. يبعث على رضا المهتدي، وندم الضال ان ارعوى، في سكون الليل تجود قريحة الشاعر بالصور وتتوالد الافكار في ذهن الكاتب .. في سكون الليل ينتصر المنطق او يطغى الجنون، وفيه تتجسد الآلام ويعيش الانسان رؤاه وكأنها حقيقة عندما يجد نفسه وحيدا ازاءها، لا صديق يخفف عنه وحدته فيعينه بذلك على التشاغل عنها، ولا حبيب يطغى عليها بوجوده، فتتلاشى ..." الرواية ص9

 

•تجوال في المتن

 

بصراحة وجدت صعوبة في ايجاد مدخل مناسب للكتابة عن هذه الرواية، ذات البعد الرمزي المتداخل، لانها تتناول حقبة زمنية شائكة في تاريخ العراق، حقبة اختلفت الاراء في وصفها والموقف منها، ليس لان الاحداث التي رافقتها عاصفة فقط، بل لانها ايضا متشابكة، ويصعب على الانسان البسيط استخلاص اللون المطلوب من بين الوانها المتعددة والمختلطة، فبطل القصة (يسار)، والاسم هنا له رمزية مقصودة تماما في الرواية، يكون هو المحور الذي اراد الروائي، ان يوصل رسالته من خلاله، ليس بوصفه شخصا، بل بصفته بؤرة قضية، سيفصح عنها سعد سعيد، من خلال استعارة تاريخية، هي الاخرى - حكاية شهريار وشهرزاد - استخدمها بتصرف، وجاءت بقصدية لا تخلو من ذكاء، بقدر ما يسرت للروائي مهمته على مستوى الاسلوب السردي الذي سيكون استرجاعيا، يبدأ من زمن الاحتلال الاميركي، ويعود الى الاحداث التي اوصلت البلاد اليه، اي الدخول الى المشغل السياسي في المرحلة الممتدة من سبعينيات القرن الماضي الى ما بعد 2003 او الوصول الى الخيبة الكبرى، التي وقف عندها الجميع، وراحوا يتأملون ماحصل بدهشة، او بالأصح يتأملون مافعلته ايديهم، او هذا ما اراد الروائي ان يقوله، وهو يغوص في عوالم ابطاله، الذين شتتهم الصراع الايديولوجي، قبل ان يقفوا على حقائق مهمة اجتهد الروائي ان يقولها بحيادية، لاتخفي انحيازا لقضية وطن اسهمت هذه الايديولوجيات والصراعات في تضييعه!

 

محور الرواية، شاب عراقي (يسار محمد محمود)، يأتي من احدى المحافظات، او من الريف الى بغداد ليواصل دراسته في كلية الادارة والاقتصاد (الجامعة المستنصرية) ليقع في حب فتاة جميلة جدا، زميلة له في الكلية، (زها) وقصة الحب هذه ستكون بؤرة اخرى مهمة في الرواية، لانها تنطوي على قيمة رمزية سيكتشفها القاريء لاحقا، لانها لم تعد مجرد فتاة، بل وطن وحلم ضائع، (انا لا اعرف لم نسمح لهواجسنا ان تزري بنا احيانا.. لا، انا لا اقول ان أمر العثور على زها ليس مهما، ولكن بامكاني ان احقق شيئا من دون ان اريق ماء وجهي، ولكني أرقته في تلك الايام) ص 190.

 

لقد كانت عودة (يسار) الى بغداد بعد الاحتلال، هي الاضاءة الكاشفة لفحوى النص الروائي الذي كانت مقولته النهائية، ضمنية حرص سعد سعيد ان يتركها للقاريء اللبيب، اي انها ختام مغامرته السياسية التي بدات بانضمامه الى الحزب الشيوعي، وتعرضه الى الملاحقة بعد انهيار الجبهة الوطنية نهاية السبعينيات، ومن ثم هروبه الى الشمال، وانضمامه الى ما يعرف بتنظيم (الانصار) الذي كان يقاتل الجيش العراقي هناك، ويمر بمواقف مختلفة، تطرح امامه اسئلة مربكة.

 

وهنا يسبر الروائي اغوار هذه الشخصية المركبة، التي القى عليها حمولة تلك المرحلة بطريقة لم تخل من ذكاء، عندما يرينا مقدارالقلق الذي يساور البطل، قلق تتداخل فيه رؤى مختلفة، وطنية وانسانية، لشعوره بانه يقاتل اخوانه وابناء بلده ممن ليس له خلاف معهم .. (ولكن من هم اعدائي؟! ذلك هو السؤال الذي خطر لي في لحظة ما، فهز كياني ..عجيب .. اقسم لك اني لم انتبه للامر في البداية، فقد كان حقدي يحركني، ولكنه بدأ يفرض نفسه عليّ بعد انقضاء الاشهر الاولى .. كيف اقتل عراقيا لاأعرفه اذا ما تواجهنا؟ انا اعرف الان ان السؤال كان يجب ان يكون، كيف اقتل انسانا، ولكني حينها كنت شابا يافعا وتكفيني حيرة السؤال...) ص159- 160 .

 

منوهين هنا الى انه عندما غادر الى الشمال كان يريد الانتقام لخاله الذي اعدم لانتمائه السياسي، وبعد تجربته القصيرة مع (الانصار) هذه، يقرر الهجرة الى السويد، وهناك يتعرف الى شخص عراقي (كريّم) الذي يساعده في الوصول الى ثراء مادي، لم يشبع حاجته النفسية والروحية، ولعله يبيح بذلك ضمنا الى (العقيد عباس محمود زكي)، عندما اوقف بعد العام 2003 لسبب غير سياسي، ودخل السجن، حيث يقول له، (نعم انا سويدي الجنسية الان، ولكني عراقي حد النخاع .. ماعليك من الجنسية، فهي لا تعني شيئا، انا ولدت عراقيا، واحببت عراقيتي، وسابقى كذلك، حتى لو حصلت على جنسيات العالم كلها .. ولكن الحق يقال سأشعر براحة اكبر هنا)!

 

لم يجد (يسار) حبيبته (زها) بعد استقراره في بغداد، والتي يكلف سكرتيره بالبحث عنها، وهذا سيخبره بانها ماتت، بعد ان ضربها اخيها على راسها في حادث عابر، وانهم وجدوا في بطنها جنينا، بعد الوفاة، ولعل قاريء الرواية، الذي يطلع على ما دار بين يسار وزها، وكيف انها سلمته نفسها، عندما كانا طالبين في بغداد، او في الجامعة المستنصرية، سيدرك ان الجنين هو الحلم الاول له، الذي مات وراءه، في داخل الحبيبة، برمزيتها كوطن، قبل ان يموت الحلم الاكبر بفقدانها هي، والتي تغدو داخل العمل، الطيف الذي يشد القاريء للبحث مع البطل عنها، لكنه لم يجده، وان هذا العقيد الذي يقص عليه البطل (يسار) حكايته، في ثلاث عشرة ليلة، بعد ان يدخل الموقف اثر حادثة اعتداء بسيطة، كان يعرف (يسار) كونه كان مسؤولا عنه في السجن الذي دخله بسبب انتمائه السياسي قبل الاحتلال! بينما هو لا يعرفه، وبعد ان يكمل حكاياته الثلاث عشرة الى العقيد، يكون قد اكمل الروائي رسالة العمل الذي استغرق نحو 350 صفحة، ظل حلالها يؤصل لابطاله، ليحتوي أبعادهم الفكرية والسياسية روائيا، وبطريقة غير مباشرة، فالحبيبة التي ماتت من قبل، سيتبعها الحبيب العائد الذي يموت هو ايضا بالنوبة القلبية، والموت هنا، يأخذ رمزيته الطاغية من عمق الحدث الذي يأخذنا اليه الروائي، بصفتيه الواقعية والرمزية، ونهاياته التي نعيشها اليوم، لأن الرواية استنفدت مقولتها، واوصلت رسالتها، التي تستحق كلاما اكثر، لكننا اثرنا ان نأتي على خلاصتها، في هذه السطور، ونأمل ان نكون قد وفقنا، لانها رواية حساسة، ويختلف عندها التلقي، بحكم كون الحدث مازالت ذيوله ماثلة امام الجميع وكل ينظر اليه من زاويته ومرجعياته الفكرية والسياسية الخاصة.

 

•الخلاصة

 

لاشك ان الاحداث المتشابكة والخطوط العديدة، جعلها ليست سهلة التلقي، وربما ساحت بيد الروائي اكثر مما ينبغي، اذ كان بالامكان اختزالها، لكن يبدو ان الروائي اراد ان يفرغ كل ما في جعبة ابطاله، ولعلها اصبحت اكثر شدا بعد الليلة السادسة، ودخولها الذروة على مستوى الحدث الذي يأخذ بالتصاعد، حين يلج البطل قلب اللعبة التي يستدرج الروائي قرّاءه اليها، وان سعة الاحداث يجعل من الصعب التطرق اليها كلها، مكتفين بالخلاصة او المقولة التي انتهت اليها، ووفق رؤية الروائي وقراءته للحدث التي استدعت تجواله بنا في مناطق عديدة، هي بالتاكيد ميدان الحدث الواقعي، الذي نأمل ان يكون اليوم ميدانا لحوار وطني جاد، بعيدا عن كل اشكال الاقصاء، ولو من خلال الأدب في هذه المرحلة الحساسة.

 

"ثلاث عشرة ليلة وليلة"، رواية زاوجت بين الواقع والخيال، مجترحة رموزا تاريخية مختلفة، وانها تعد مرآة معكوسة، رأينا فيها افعالا استعار لها الروائي وجوها واسماء، تخفت خلف ابعادها المعروفة للجميع، وان اختلف الجميع بالموقف منها، كما اشرنا، لكن احدا لم يستطع الاختلاف على اننا نغرق اليوم بنتائجها!

الرواية صدرت عن (منشورات ضفاف) و (منشورات الاختلاف) وهي العمل الادبي السادس للروائي سعد سعيد.

 

المصدر: ميدل ايست أونلاين