ذكريات المتع الصغيرة
قبل عدة أيام تناقل مستخدمو الفيسبوك، من السوريين تحديداً، مقطع فيديو ترويجي نشر ضمن احتفالية عصير «أبو شاكر» بمناسبة مرور 60 عام على افتتاح محل العصائر الشهير في دمشق
يظهر في الفيلم بائع العصير العجوز وهو يحكي تاريخ عمله في المحل منذ عام 1953، تتقاطع ذكريات البائع مع لقطات لصنع العصير، وصورة المعصرة الحديدية القديمة قبل أن تستبدل بالأدوات الكهربائية الحديثة، لا تختلف ثرثرات أبو شاكر وحكاياته، عن حكايا أي بائع تقليدي: فهو يروي مواقف مضحكةً حصلت معه أثناء العمل. كما لو أن عينيه راقبت طوال تلك السنوات الشارع الذي تغير وحمل معه عابرين جدد، بينما بقي هو مكانه وراء (بسطة) صنع العصير. يبدو (أبو شاكر) الشيخ في الفيديو، كفنانٍ مشهورٍ يلقى التكريم؛ هناك فرقة من العازفين الشباب يعزفون لحناً خاصاً له، ويسارع الأطفال وبعض الشبان لالتقاط الصور التذكارية معه. لا يخفى الغرض الدعائي من الفيلم، فهو في نهاية المطاف إعلانٌ مبتكر لكأس من الكوكتيل! لكن الانتشار الكثيف للفيديو دفع بعض الجهات الإعلامية، كراديو المدينة أف أم، لإجراء لقاءات صحفية مع البائع الذي غدا رمزاً من رموز المدينة.
سيتساءل من لم يعش في دمشق، ولا عبرها يوماً، وتسكع في شوارعها، عن سبب هذا الاهتمام المبالغ به بفيديو ترويجي لمحل عصائر؟! والحقيقة أن دلالات هذا الاهتمام المكثّف بنشر رابط الفيلم من قبل الكثيرين، وفي مقدمتهم من اضطروا للسفر خارج البلاد، تفوق في مغزاها أهمية الفيلم القصير.
أثار بائع العصير العجوز شجون الناس، لأنهم يريدون تثبيت صورة المكان كما كانت، كما يتذكرونها، لأنهم يريدون أن يصدقوا أنهم إذا ما طافوا يوماً في حارات دمشق، عبروا جسري (فيكتوريا) و(الثورة) ، تجاوزوا (ساحة المحافظة) سيصلون إلى الزقاق المرصوف الضيّق الذي يتوضع فيه المحل الصغير ليسقي العطاش الذين يفترشون حافة الرصيف، كما لو أن شيئاً لم يتغير!
ففي الوقت الذي كان لبلدان أخرى (ماكدونالدها) و(كنتاكيها) كان للسوريين، عصير (أبو شاكر)،(بوظة بكداش)، (فلافل بيسان)، (محلات الكنافة النابلسية)، تلك (متعٌ صغيرة) ظّلت متاحة للسواد الأعظم من السوريين في الوقت الذي التهم فيه غلاء الأسعار ما تبقى من رغباتهم وحاجاتهم.
قد يكون مجرد محلٍ للعصير، لكن زبائنه، لا يريدون تصديق ذلك، فهم أودعوه، وغيره من المحال والشوارع ، ذكرياتهم، وحياةٍ اشتاقوها، وأصدقاء طواهم الغياب. هم يريدون تذكر التفاصيل التي توحدهم، وتجمعهم، بعد أن أتعبتهم الانقسامات. للحظة فقط تتراجع الإصطفافات السياسية والدينية والثقافية، ويتذكر الجميع أنهم جلسوا يوماً في الظلام على مقاعد» سينما الكندي «، وشربوا الشاي (الخمير) ذاته في مقهى (النوفرة) أو(الكمال)، وانحشروا في باص النقل الداخلي المكتظ، تلك التفاصيل العابرة الصغيرة، هي التي وحدتهم يوماً وتوحدهم كل يوم، وتجعل منهم بحق أصحاب البلد.