لغة القلم.. ولغة القيم
في خريف عام (1966) حين حطت الطائرة على أرض (أوهير) في (شيكاغو) حملت طفلي وبت أبحث عن زوجي بين المستقبلين، فأشار بيده من بعيد يطمئنني لوجوده.
وهناك استقبلني ورحب بي بعد انتظار طويل، وقال وهو يحمل الصغير بحرص: (تعا يا بابا).. تبسمت وقد حضرني أحد مقاطع (أغنية اللالا) الذي يعبر عن هذا الموقف، وكأنه صيغ له دون سواه والذي يقول:
يا ميت هلا باللي جاي
وحامل طفل عحضينو
لمن ضحك وتبسم
عينين الغزيل عينو
ذكرى دفعتني إلى الوراء، وجعلتني بعد تلك اللحظة أستعيد الكثير من الأغاني الريفية الساحلية القديمة التي كانت لروعتها ورقة وسمو معانيها، تعبر عن حال الإنسان، وترسم على أفق حياته المقبل مروجاً من أحلام، وبحوراً من مشاعر، وحدائق زاهية من أحاسيس، تزقزق عصافيرها، وتتمايل أغصانها، وتصفق أمواجها على وقع أغنية الدلعونا، والليا، واللالا، والهويدلك، والزلف والعتابا، والميجنا، والمواويل، والزغاريد وهنهونات الأطفال.
وتتغير المشاعر لتساير أوجاع القلوب من أغاني المناحة، والسفر، والظلم، والجائحات، والأمراض والمعاناة من الإقطاع والاستعمار، ولكن من الغريب والمفيد في آن معاً أن ذكرى تلك الأطوار التي مر بها الإنسان لم تزل بزوال أزمنتها، بل حفظتها الشفاه غناء، وتناقلتها من جيل إلى جيل، كأنها أمانة ثقافية معرفية لم يشأ الزمان أن يبعثرها، لما بها من الصور القيمة، والذكريات التي تستحضر ماضي الناس بكل ما طواه ومر به.
تستحضر أزمنة الحكايات التي لا تحصى، والأساطير الملونة (المغرقة) في القدم، والحزازير، والأحاجي التي تخاطب العقل، وتختبر الذكاء والإدراك والتمييز.. تستحضر آلاف وآلاف الأمثال التي صدرت عن العقلاء والحكماء من أهل العلم، أو من أهل الخبرة ممن أوجزوا حدثاً كبيراً بعدة كلمات أو بكلمتين. بعضها باللغة الفصحى، وبعضها بالعامية.
هذا بالإضافة إلى عشرات الأغاني المغرقة في القدم بألحانها العذبة، التي استطاعت أن تساير الزمان، وتعبر القرون لتحمل رقة وأحاسيس من صاغوها، معبرة عن ذوقهم الرفيع في مزج اللغة الجميلة مع اللحن.
تراث امتد من زمن أوغاريت الخالدة حتى ستينيات القرن الماضي. فكان أن قمنا بجمعه من مئات السنين ومن مناطق لا تحصى في ثلاثة كتب هي:
الزمن السعيد ـ كنوز منسية ـ البحر الثالث.
وكان يحدونا أمل أن يغدو ما جمعناه بجهد لا يوصف مرجعاً للدارسين والمهتمين، ممن أداروا ظهورهم لتراثنا الجميل الذي يعبر عن ماضينا، واتجهوا نحو تراث الغرب، ولم يبق ما يربطهم بالماضي وصوره سوى ما كتبناه بمداد تعبنا، ولم يكن هذا الجهد طمعاً في ثروة تنتظرنا، ولا مرتبة ترفعنا، ولا ثناء يشجعنا، بل كان مجرد مهمة ربانية خفية، وإيماناً منا بأن هذا التراث يمثل التاريخ الصادق للناس في المنطقة، ويعبر عن سبل حياة الأفراد دون رتوش، ويمثل نمط تفكيرهم، ويصف جميع ممارساتهم الحياتية التي ورثوها عن أجدادهم من لحظة المولد حتى الممات، وما نتج عن تلك المسيرة من ثقافة شفهية شملت الأمور الزراعية، المناخ، الحياة الصحية والعاطفية والسياسية والاجتماعية وما جدّ على حياة الأفراد من أمور منها ما اندثر وغاب مع الزمن، ومنها ما بقي وساد وظل راسخاً في الأذهان.
هذا الإرث كان سفراً استوعب وصف الحروب، المجاعات، النكسات، الأمراض، وتبدل الملوك، وسيادة السلاطين بوساطة اللهجة العامية التي كانت عبارة عن خزائن حفظت المعارف والمعلومات التي التقطنا خيوطها من هنا وهناك بحرص، لنعيد بذلك إحياء التراث الشعبي مفكرة الزمان الغابر. ومعظم هذا كان بواسطة الأغاني العامية. فالريفي سجل كل ما مر في حياته غناء، والأغاني في روعتها وما انطوت عليه من أحداث وأوصاف وصور الزمن المنصرم تداني في قيمة معانيها ما يتركه فحول الشعراء ممن كانوا يقفون بباب الملوك والسلاطين يمتدحونهم فتذر الدراهم عليهم بسخاء من خزينة الفقراء.. ونحن كجامعي تراث لا بد لنا في تغيير الحكاية الموروثة بلغتها، والأغنية بمفرداتها، والأمثال بصيغتها. ومع كل ما مثلته وقدمته العامية نشعر أنها لا ترقى إلى درجة الفصحى، ولن تضاهيها، ولذا ترى كلماتها محجوزة بين قوسين كأنها مكبلة اليدين لا قدرة لها على الانطلاق، أو اختراق حدودها كي تطغى على حدود الفصحى التي سيحفظها الدهر سليمة معافاة من كل الغزاة مادامت هي لغة الوحي والقرآن الباقي مدى الدهر. ولسنا بحاجة لأن نصوّت لها كي تنال الصدارة دائماً. لأنها الأولى بها والأجدر.
أنهي الكلام بأننا لا نستطيع أن نلقي باللهجة العامية في لجة البحر كي تظل الفصحى سيدة الميدان، لأنهما شقيقتان، متلازمتان. اعتادت واحدتهما أن تسير إلى جانب الأخرى، دون أن تطغى العامية بضعفها على الفصحى بقوتها وعلو مرتبتها. ونعود لنشكر إخوتنا أعلام اللغة في مجمع اللغة العربية لشدة حرصهم وعنايتهم بلغتنا الفصحى، راجين منهم تفهم مهمتنا الصعبة كتراثيين، همنا ألا يضيع ما تركه أجدادنا من ثقافة لا يمكن إنكارها، ومن الظلم والخطأ السعي إلى دفنها وهي في عداد الأحياء، وهم أدرى وأعلم بجهود البحث والتنقيب عن كل معلومة تعزز لغتنا، وتثبت غناها وروعتها ولا تمسها بأذى.
■ فريال سليمة الشويكي
باحثة في التراث الشعبي