«نسيان» برنار نويل كما يستعيده محمد بنيس بالعربية
ظلّ الشاعر والروائيّ والناقد الفرنسيّ برنار نويل(1930) مخلصاً لصدمته من وحشيّة الإنسان ونزعته المتطرّفة في عمل كلّ ما هو مدمّر في سبيل محو طبيعة الإنسان في دواخله.
كلّ كتاب جديد له هو كتاب نهائيّ عن كيفية العودة إلى ذلك الكائن الطبيعيّ ذي الأحاسيس والمتحدر حضارياً، وفي عمله الجديد «كتاب النسيان»، نجد تأمّلات شعريّة وفلسفيّة جديدة سمّاها نويل بلعبة لغويّة «ملاحظات». فهي تأتي كأنّها حديث يوميّ شفهيّ، ولكن في عناية تفكير فلسفيّ طويل. تتراكم التأملات كأنها ملاحظات أو تخطيطات مثل مواجهة الإنسان للنسيان الذي يفترسُ عادة ما نغفل عنه: «ما يفعله النسيان في ممارسة الكتابة هو ما يسعى المؤلّف إلى النظر إليه من زوايا مختلفة».
يقول الشاعر والمترجم المغربيّ محمّد بنّيس الذي دأب على ترجمة اعمال نويل الى العربية، في مقدّمته الثريّة والعميقة عن «كتاب النسيان» الصادر حديثاً عن دار توبقال، إنّ نويل شرع في كتابته عام 1979، ولم ينشر في فرنسا إلاّ في العام 2012.
يُذكّرنا هذا الكتاب بتأمّلات الفلاسفة، وكذلك بالشذرات التي كتبها أولئك الشعراء الذين حاصروا الشعر في زوايا الفلسفة وعلم النفس والذهنيّة، كإميل سيوران على سبيل المثل وليس الحصر. الشعر كجسد وعقل وحواس وأفكار عظمى تفتّت عظام البشريّة المتوّحشة. كذلك الشعر في وحدته والشعر في الحرمان. من جهة أخرى يذهب «كتاب النسيان» إلى «تأريخ» النسيان كعِلم، وإلى تأريخه من خلال تأملات نويل الإبداعيّة سواء في تجربته الشخصيّة ككاتب، أو في تجارب الآخرين الإبداعيّة، ومحاكمتها بالاتكاء على التيّارات النقديّة أو الفنية أو المعرفيّة التي اعتنت بمفهوم الكتابة وتاريخها منذ العصر اليونانيّ، وصولاً إلى المدارس النقديّة الحديثة في الكتابة.
شاعر قلق بامتياز مثل نويل، من الحروب والقتل والاضهاد والقنابل الذرّية والدمار والوحــشيّة، لن ينظر إلى النسيان كمحوٍ أو فراغ بل ككتلة، أو ربما كمادة لها وجودها وأحجامها وأبعادها وحياتها كذلك، حتى يصل إلى النظر إليها كعضوٍ ملازم، وغير مبتور، من أعضاء الجسد. والمقصود بالجسد هنا المادة الأثيرة لدى نويل. واستعمال الجسد والعناية به بالاستقلال عن المواد التي تحيط به، والتي لها وجودها وكتلتها، مثل الاسم والموت على سبيل المثل أيضاً. هو الذي قال: «في اسمي/ جدار شفاف يفصلني عن نفسي». وكذلك «لو كنتُ حاضراً في اسمي/ لما كان لاسمي معنى». إنه «شديد العطش إلى المعنى/ لقد شُرب المعنى/ والمستقبلُ راكد». إضافة إلى كلّ ذلك الجسد، وما حوله، يُضيف إليه عضواً جديداً قلّبه نويل في عقله ولسانه ونظراته وتأمّلاته، طوال أكثر من ثلاثين عاماً تقريباً، ألا وهو النسيان.
يصوّر نويل الذي نشر أكثر من أربعين كتاباً، توزّعت بين الشعر والرواية والنقد الأدبيّ والنقد التشكيليّ، كيفيّة اشتغال الكاتب على النسيان والمواد الأخرى المتعلّقة به، من خلال الصور الشعريّة، ومن خلال التحليل والتشريح أيضاً.
لم تُجمع تأملات نويل في هذا الكتاب فحسب؛ بل إنها موجودة في كلّ كتبه ومقالاته تقريباً. ظلّ صاحب ديوان «هسيس الماء» كما ارتأى له عنواناً محمد بنيس، ملاحِقاً للمعنى في كلّ مكان، مطارداً الجسد والاسم والموت، وهو يحفر كلّ شيء ومادة بالنظرات العميقة. «يسمح الاسم بما لا يحدّده الموت»، يقول نويل، وكذلك «الخوف من الاسم». «الاسم ليس وجهاً، بل حفرة». «أكتب لأبدو نفسي في اسمي». وفي النهاية «أكتب/ أحقّق موتي».
لا يجتهد نويل في «كتاب النسيان» منفرداً؛ بل يذهب من خلال تصوّرات سابقة لعلماء النفس والفلاسفة وتحليلاتهم وكتبهم وسيَرِهم أيضاً. ولكن من خلال «نسيان كلّ ذلك» في التجربة الشخصيّة للكتابة، أو أثناء التفرّس في تجارب الآخرين، حيث يبحث عن الصفاء العالي للذاكرة والصفاء العالي للنسيان أيضاً، حيث «النسيان هو مسقط الرأس».
في علوم كثيرة يتمّ الحديث عن الذاكرة وطبقاتها، وعن النسيان ولكن ليس عن طبقاته. فهي أيضاً لا تعترف بوجود النسيان التام، بمقدار ما تتكلّم عن ذاكرة متراكمة تخنق الذكريات التي باتت في الأسفل، كلّما تقدّمت ذكرياتنا في السنّ، أو تقدمنا نحن في السن.
هذا التراكم يجعل الوصول إلى الذكريات الأبعد كما البحث في منطقة معتمة. ولكن يمكن العثور عليها، أو على أجزاء منها بسبب حادث ما أو قراءة كتاب أو الالتقاء بشخص ما أو مشاهدة فيلم سينمائيّ مثلاً... أمّا الحادث أو السبب هنا فهو الكتابة.
يطرح «كتاب النسيان» الكثير من المفاهيم بطريقه تُنير كتلة النسيان المعتمة، من خلال طرق عدّة من بينها الشعر. ولكي يحفّز القارئ على كتابة ضد النسيان، يقول تلك الجملة الذهبيّة التي ينطلق منها هذا الكتاب الغريب «لا يضيع شيء مع النسيان».
المصدر: الحياة