صراع الأجيال مع الحرب

صراع الأجيال مع الحرب

أنظر حولي إلى الأصدقاء، وجوهٌ شابةٌ تغضنّت قبل أوانها. أفكر كيف أن الحرب أفقدتنا صوت الضحكات العالية، وترف البحث عن الأرانب البيضاء في غيوم السماء، والمشي ساعات دون هدى، التذمّر من روتين الحياة وترقب «المجهول»

أفكر بأن ليس عدلاً أن تسلبنا الحرب شبابنا، لن نستطيع أن نكون شباباً مرةً أخرى، كان لها أن تمهلنا القليل من الوقت، كي ننهي بعض القضايا العالقة، قبل أن تحسم هي بصرامة أبٍ جميع قراراتنا المصيرية وتجبرنا على الامتثال.

لا نكف نحن الشباب عن تخيّل وتقليب السيناريوهات التي كانت سترسم حياتنا لو أن الحرب لم تكن. وكيف أنها حددت مسارنا عند كل منحنى ومنعطفٍ من الطريق. نتخيّل أنفسنا شيوخاً كباراً كثيري الشكوى، نحرص على إخفاء كل قطعة من الخردة خوفاً من «الأيام السوداء»، كما لو أننا لا نصدق أن الحرب انتهت ولن تعود.
أنظر إلى جدي، الوجه الذي تغضّن في أوانه. مازال يلبي نداء الفجر ليزرع كل يومٍ شجرةً جديدة، ينكب على تقليب التراب ولا يسمع نداء جدتي الغاضب حين تدعوه لتناول الغداء. أتساءل بماذا يفكّر؟ وهو الذي ظنّ الحرب انتهت. شارك في حرب 48 وهو شابٌ عشريني، عاش حقبة الاحتلال الفرنسي ونشوة الاستقلال، وشهد تقلبات الوحدة. وحرب تشرين. ربما ظنّ أنه أنهى حصته من الحروب، من مشاهدة البلاد وهي تتلقى الضربات وتعاود الوقوف مرةً أخرى. ربما أراد أن يريح أقدامه المتعبة بجانب المدفأة، يرتدي نظارات مدورة العدسات كي يقلّب أرشيف الصور أو قصاصات من جرائد قديمة. ربما أراد أن يبدأ رحلةً جديدة، يزرع أرضاً جديدة.
يخرج جدي من مستودعه الخفايا فخوراً بأنه أحسن التدبير، لم يغر «بالهدوء النسبي» الذي بدا مطلقاً. يذهب إلى السوق ويعود غاضباً وهو يقلب في رأسه أسعار السلع ويقارنها بأسعار «الزمن الجميل»، ينظر بعينيه الصغيرتين إلى التلفاز، ويشيح بوجهه حزيناً، هو يقرأ ما بين سطور نشرة الأخبار، ويدرك كم يلزم من الوقت لبناء ما تهدّم. يكيل الشتائم واللعنات لمن خرّبوا البلاد كما كان يعنّف أحفاده حين يدوسون الزرع الغض، ويسامح بحكمة الأجداد وعطفهم. كم كانت البلاد عادلة وخضراء لو سلمّت مقاليدها لجدي! المحارب القديم، الذي يستيقظ كل يومٍ مع الفجر ليحارب مرةً أخرى.
الأطفال بوجوههم الغضّة يلونون رسوماتهم بالأحمر والأسود. تطوف البيوت فيها في كل مكان سابحة في الصفحة البيضاء. يرسمون المعارك كمراسلٍ صحفي، يزرعون أعلام الكبار وشعاراتهم. يرسمون أباً مسجّى. ينظر «الأخصائي النفسي» بقلق للوحات، يتنبأ بشخصيات قلقة، وكوابيس ليلية، وأزمات حادة وندوبٍ لن تزول. يتخيّل في سرّه يدين طويلتين، لا نهائيتين قادرتين على احتضان الأطفال البلاد جميعهم، لو أن الحلم ممكنٌ!  
أحاول جاهدةً أن أقرر من كان الخاسر الأكبر في هذه الحرب؟ الشباب؟ الشيوخ؟ الأطفال؟ ولا أكاد أصل إلى إجابة. كما لو أن الحرب كرة نقذفها من جيّلٍ إلى آخر.
هل كان يجب أن تنتظر الفتيان حتى يشيخوا؟ أو تباغتهم صغاراً؟ هل كان لها ألا تأتي يوماً؟!