BBC تتبنى جورج أورويل
أزيح الستار عن تمثال للروائي البريطاني الشهير جورج أورويل في باحة مبنى هيئة الإذاعة البريطانية الجديد (نيو برودكاستنغ هاوس)، وذلك على بعد دقائق قليلة من مكان عمل أورويل كصحفي إذاعي خلال الحرب العالمية الثانية. لكن ما الذي كان يفعله صاحب رواية "1984" في بي سي سي؟ وهل أحب ذلك؟
على مدى عقود، أعجب موظفو بي بي سي بالرأي الذي يشير إلى أن أورويل استمد فكرته عن الجحيم المطلق من عامين قضاهما في بي بي سي.
فقرب نهاية روايته الشهيرة "1984"، يجد البطل وينستون سميث نفسه محاصرا في الحجرة 101 لوزارة الحب، التي تقع "على بعد أمتار عديدة تحت الأرض".
ويضطر وينستون لمواجهة أسوأ شيء في العالم (وهو ما يتبين أنه فأر).
ومنذ أن صدرت هذه الرواية في عام 1949، أشار البعض إلى أنها تمثل تعليقا من أورويل على حجرة بنفس الرقم في مبنى بي بي سي "برودكاستينغ هاوس" حيث كان يضطر لحضور اجتماعات مُملة لا نهاية لها.
عمله خلال فترة الحرب
تروق هذه الفكرة للكتّاب الذين يحاولون فهم مرحلة ينظر إليها على أنها لم تكن متوقعة في مسيرة أورويل، وهي فترة عمله لدى بي بي سي من أغسطس/آب عام 1941 وحتى نوفمبر/تشرين الثاني عام 1943.
لكن أورويل لم يعمل حتى داخل مبنى "برودكاستينغ هاوس". فعندما كان عمره 38 عاما، عمل في الخدمة الخارجية. وانتقلت بي بي سي وقتها إلى 55 بورتلاند بليس.
وبعد مرور عام انتقل أورويل إلى الخدمة الشرقية الأجنبية وكان يعمل في قبو اشترته بي بي سي خلال فترة الحرب.
كان أورويل بالفعل صحفيا وروائيا ذائع الصيت في ذلك الوقت، لكنه لم يكن صاحب شهرة عالمية كما أصبح لاحقا بعد روايته "مزرعة الحيوان" (عام 1945) وروايته "1984".
يرى دي جيه تايلور، كاتب السيرة الذاتية لأورويل، أن الأخير كان حريصا على الانضمام لهيئة الإذاعة البريطانية. وقال: "كانت صحته قد ضعُفت بالفعل وأصبح واضحا أنه لن يُستدعى مطلقا (للخدمة في الجيش). أعتقد أنه رأى في بي بي سي شكلا من أشكال العمل الحربي".
دعاية بدون أكاذيب
قضى أورويل معظم وقته في بادئ الأمر وهو يكتب تعليقا إخباريا أسبوعيا موجها للهند بشكل رئيسي ليقرأه على الهواء صحفيون هنود يعملون لدى بي بي سي. ونشرت هذه النصوص في الثمانينيات من القرن الماضي بعد إعادة اكتشافها، وتلخص هذه النصوص مجريات الحرب.
وركز تعليق أورويل الإخباري قبل 75 عاما في مثل هذا الأسبوع على أحداث معركة العلمين في مصر. وقال حينها إن "المعركة في مصر انتهت بانتصار كبير للأمم المتحالفة. لم تُدمر قوات المحور بعد، لكنها في خطر عظيم...".
يعتقد تايلور أن أورويل كان مروج دعاية نشطا. ويقول: "قد يبدو ذلك غريبا لأننا الآن نرى في أورويل أنه أكثر الكتاب صدقا. لكنه كان يعلم أن هناك حاجة للفوز بالحرب وأن الدعاية الجيدة ستكون جزءا من ذلك. (لكنه) حينما شعر لاحقا بخيبة الأمل، وهو ما حدث بشكل واضح، كان ذلك لأنه رأى أن هذه الدعاية ببساطة لم تكن فعالة".
وأضاف: "لم يكن لديه مشكلة إزاء مفهوم الدعاية من أجل قضية سليمة من الناحية الأخلاقية طالما أنه لا يقول أكاذيب. لكن كانت هناك سخرية في الأمر إذ كان مروجا للدعاية لصالح نظام في حرب مع نظام آخر، وفي هذا نرى بالتأكيد أصل (فكرة رواية) 1984".
وبعد مرور نحو عام، قرر المسؤولون على ما يبدو أنه سيكون هناك انطباع جيد في الهند إذا اقترن اسم أورويل أكثر بالنشرات الإذاعية لأنه كان معروفا بدعمه لاستقلال الهند . وجعل وجود أورويل الدعاية لا تبدو وكأنها كذلك.
واستضاف أورويل كتابا معروفين أمثال تي إس إليوت وإي ام فورستر لتقديم بث إذاعي لآسيا، وسُمح له بالظهور على الهواء في برامج إذاعية، رغم أن مدير خدمة لغة الماندرين الصينية جيه بي كلارك كتب في يناير/كانون الثاني عام 1943 مذكرة انتقد فيها بشدة صوت أورويل "غير الجذاب" في البث الإذاعي.
وشعر الكثير من مخرجي المواد الوثائقية بالصدمة حينما اكتشفوا أنه لم يجر الاحتفاظ تقريبا بأي من البرامج التي شارك فيها أورويل في أرشيف بي بي سي. ويقول سيمون روكس، الذي يُدير الأرشيف، إن هذا الأمر مُخيب للآمال لكنه ليس مفاجئا.
ويضيف روكس: "في فترة أورويل جرى تسجيل أشياء قليلة جدا، وكانت الإذاعة وسيلة للبث الحي بشكل أساسي. وخلال الحرب بدأت بي بي سي البث لأجزاء أخرى من العالم أبعد بكثير".
معنى الحرية
تُوفي جورج أورويل عام 1950 عن عمر ناهز 46 عاما، ولذا لم تتح تسجيلات صوتية له أمام مارتن جينينغز الذي كلف بتصميم التمثال الجديد للكاتب الشهير.
ويقول جينينغز: "كنت معجبا بأورويل على مدى سنوات ولذا افترض أن معرفتي بكتاباته هي الأساس (في تصميم) هذا التمثال. لكن كنت سعيدا بأن أوكلت لي هذه المهمة من بن وايتكر الذي كان يقف وراء هذه الفكرة بالكامل". كان وايتكر محاميا في حقوق الإنسان وعضوا سابقا في حزب العمال وتوفي عام 2014.
ويضيف: "تبرعت بي بي سي بمكان رائع لكن التمويل جاء كله من متبرعين آخرين. لكن حينما علمت بمكان نصب التمثال، كان لذلك الأمر دلالته".
المكان الذي يقف فيه تمثال أورويل عبارة عن منطقة غير رسمية للتدخين، ولذا فإنه من المناسب أن يظهر تمثال أورويل وهو يمسك سيجارة بيد واحدة. وقد بدا أورويل في التمثال طويل القامة ونحيفا وغير مكترث بملابسه، وهي صفات يرى جينينغز أنها كانت تظهر على الكاتب.
ويقول جينينغز: "لكن مكان وضع التمثال تطلب على ما يبدو وجود كلمات تُكتب على الحائط خلف أورويل. وبدون ذلك (هذه النقوش) كان سيبدو الأمر (وضع التمثال) غير مكتمل. وفي نهاية الأمر فإن بن وايتكر من طرح الاختيار المناسب".
واقتبست هذه الكلمات من مقدمة اقترحت لرواية "مزرعة الحيوان"، وجاءت كالتالي: "إذا كان للحرية معنى على الإطلاق، فإنها تعني الحق في قول ما لا يريد البشر سماعه".
ويضيف جينينغز إن هذا "اختيار مُثير للكلمات ويمثل تحديا كبيرا لهيئة بث عامة".
وتابع: "إنه يبدو كأن أورويل (بهذه الكلمات) يخاطب الصحفيين المعنيين بالقضايا السياسية في بي بي سي، وكأن بي بي سي تعبر (من خلالها عن) القيم التي تدافع عنها أمام عامة الجمهور".