لإيقاف الظلم: العدالة الاجتماعية شرط العدالة الانتقالية الحقيقية

لإيقاف الظلم: العدالة الاجتماعية شرط العدالة الانتقالية الحقيقية

وفقاً للتعريفات السائدة، تعد العدالة الانتقالية إطاراً مفاهيمياً ومجموعة من الآليات الشاملة التي تتبناها المجتمعات في فترات ما بعد الصراعات أو التحول من الحكم الاستبدادي، بهدف معالجة الإرث الثقيل من الانتهاكات التي تعرض لها المجتمع. وبحسب تعريف الأمم المتحدة، فإنها «مجموعة شاملة من العمليات والآليات» التي تسعى إلى تحقيق العدالة والمصالحة، ومنع تكرار الانتهاكات السابقة. وتتمحور المقاربات التقليدية للعدالة الانتقالية حول أربع ركائز أساسية (المساءلة الجنائية، وكشف الحقيقة، وجبر الضرر والتعويضات، والإصلاح المؤسسي)، وتسعى كل منها إلى تحقيق هدف محدد. ومع أن هذه الركائز تشكل أساساً ضرورياً لأي عملية تحول، فإنها في كثير من الأحيان تصاغ وتطبق ضمن سياقات قانونية وسياسية ضيقة، ما يؤدي إلى إغفال الأسباب الجوهرية التي غذت الصراع في المقام الأول وأدت إلى انفجار الأزمة، حيث أن الاقتصار على البعد الجنائي والسياسي دون النظر إلى الجذور الاقتصادية الاجتماعية العميقة يترك العملية ناقصة وعرضة للانهيار في مراحل لاحقة.

تتسم الحالة السورية بكونها ليست مجرد صراعٍ مسلحٍ أفرز انتهاكات جسيمة فحسب، إنما هي تراكم لعقود من الاستبداد والنهب والفساد الذي تغلغل في جميع مفاصل الدولة السورية. وعند الانطلاق من هذه النقطة بالذات، يسهل فهم أن الانتهاكات لم تستهدف شريحة أو فئة سورية فحسب، بل شملت نظام حكم كامل كرس الظلم، وأقصى الغالبية العظمى من الشعب السوري.

وفي سياق التحول الحالي، يبرز خطاب سائد حول العدالة الانتقالية - تقوده في الغالب ما تسمى بـ«الجمعيات غير الحكومية NGOs» - يميل إلى التركيز بشكل مكثف على الأبعاد القانونية والسياسية، ويصور عملية العدالة على أنها مهمة أساسية لمعاقبة المسؤولين عن الانتهاكات الجنائية، ووضع أسس جديدة «للحكم الرشيد». ورغم أن هذا المسار الجنائي لا غنى عنه، لكن يُعاب عليه أن يُغيّب بشكل خطير جوهر الأزمة التي تسببت في انفجار المجتمع السوري في المقام الأول، وهو غياب العدالة الاجتماعية بكل أبعادها. فالمظالم التي تسببت في الاحتجاجات الشعبية عام 2011 لا يمكن أن تعالج بمجرد محاكمات جنائية أو لجان حقيقة تعنى بالانتهاكات الأمنية والسياسية فقط.

على العكس من ذلك، فإن أي عملية «عدالة انتقالية» في سورية تتجاهل البعد الاقتصادي الاجتماعي محكوم عليها بالفشل مسبقاً كونها عدالة جزئية لا ترقى لمستوى العدالة الشاملة. حيث لن تتحقق العدالة الحقيقية ما لم تكن هناك إعادة توزيع للثروة لصالح الأغلبية المنهوبة من الشعب السوري، ومعالجة شاملة للفساد الذي أدى إلى انهيار النسيج الاجتماعي الوطني.

الطروحات والمقاربات السائدة للعدالة الانتقالية في سورية

تركز معظم المقترحات الحالية للعدالة الانتقالية في سورية، سواء من قبل منظمات دولية أو «جمعيات غير الحكومية NGOs»، على آليات مؤسساتية وقانونية تتماشى مع الركائز التقليدية للمفهوم. وتضع هذه الطروحات، التي تكتسب زخماً في الخطاب السياسي الحالي، خارطة طريق تركز على المحاسبة السياسية والجنائية كهدف رئيسي لضمان «عدم تكرار الماضي».

من أبرز هذه المقترحات، الدعوة إلى تأسيس هيئات مركزية متخصصة. على سبيل المثال، يرى أحد المقترحات ضرورة إنشاء «هيئة وطنية للعدالة الانتقالية» و«لجنة وطنية للمفقودين». وتُناط بهذه الهيئات مهمة توثيق الانتهاكات، وتسجيل حالات الاختفاء القسري، وتوفير الدعم للضحايا. ويعد إنشاء هذه اللجان خطوة أساسية كونها توفر إطاراً مؤسسياً لعمليات البحث عن الحقيقة وجبر الضرر.

هناك أيضاً مقاربات أوسع تدعو إلى دمج «آليات العدالة الانتقالية» في صميم الحكم الجديد. ويقترح أنصار هذا الطرح اعتماد مقاربة «شاملة للحكومة بأكملها»، من خلال إنشاء مكاتب أو وحدات مخصصة للعدالة الانتقالية داخل كل وزارة على حدة. ويبرر هذا الطرح بأن الانتهاكات لم تقتصر على الأجهزة الأمنية فحسب، بل تغلغلت في قطاعات حيوية مثل الرعاية الصحية والتعليم، مما يتطلب استجابة قطاعية لمعالجة هذه التركة المعقدة.

وفيما يتعلق بـ«الركائز الأربع للعدالة الانتقالية»، يتم تناولها في السياق السوري على النحو التالي:

المحاسبة الجنائية: والمقصود بها المحاسبة الجنائية للمسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة. وتطرح رؤى تفصيلية لإصلاح المؤسسة القضائية، بما في ذلك إعادة هيكلة مجلس القضاء الأعلى، وإلغاء المحاكم الاستثنائية، وتعزيز الشفافية في آليات تعيين القضاة.

كشف الحقيقة وجبر الضرر: يجري التعبير عن آليات كشف الحقيقة من خلال لجان التحقيق، لإعطاء صوت للضحايا وتوثيق تجاربهم. ويشمل جبر الضرر اقتراح برامج تعويضية تحدد الفئات المتضررة وطبيعة الأضرار. وتتجاوز بعض الرؤى هذا الطرح لتشمل برامج إعادة دمج واسعة للنازحين والعائدين، وتأهيل قطاعي الصحة والتعليم لخدمة المواطنين.

الإصلاح المؤسسي: المقصود به خطط مفصلة لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وتفكيك الميليشيات الموازية، ودمج الفصائل في جيش وطني موحد. كما تطرح فكرة «تطهير الحياة السياسية والاقتصادية من الفساد» كجزء من هذا الإصلاح، لكنها غالباً ما تظل في إطار المساءلة الإدارية أو تفتقر إلى آليات تنفيذ واضحة لمعالجة الفساد البنيوي.

هذه الطروحات، رغم أهميتها وضرورتها في بعض الجوانب، غير أنها تقع في فخ تصوير العدالة الانتقالية كعملية «تقنية» أو «إجرائية» بمعزل عن سياقها الاقتصادي الاجتماعي. ففي حين أنها تسعى إلى محاسبة مرتكبي الجرائم السياسية والأمنية، فإنها تغفل أو تقلل من شأن الأسباب الجذرية التي ولدت هذه الانتهاكات في المقام الأول، وأهمها النموذج الاقتصادي والمؤسساتي الفاسد الذي كرس انعدام العدالة الاجتماعية بشكل صارخ. وبطبيعة الحال، فإن أي محاولة علاج للعرض دون علاج سبب المرض الحقيقي هي محاولة محكومة بالفشل مسبقاً.

العدالة الاجتماعية المفقودة... وجذور الأزمة

إن النظرة السطحية للأزمة في سورية قد تعتبرها مجرد صراع سياسي أو طائفي، لكن الفهم الأعمق يكشف أن جذورها تعود إلى عقود من الظلم والفساد المنظم، والتي غذت السخط الاجتماعي ومهدت للانفجار في عام 2011. ويعد تفكيك فكرة أن الاقتصاد السوري كان «بخير» قبل عام 2011 خطوة أولى لفهم أبعاد الأزمة الحقيقية.

وفقاً للبيانات المتاحة التي عالجتها «قاسيون» منذ عقود، فإن صورة «الاقتصاد المتخيل» قبل 2011 كانت زائفة بشدة. فقد شهدت البلاد تدهوراً عميقاً رغم كل ما روج له نظام الأسد من نمو كاذب. حيث انخفضت نسبة الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي بشكل حاد من 23.8% في عام 2003 إلى 13.8% في عام 2008. كما أن التحول نحو ما سمي بـ«اقتصاد السوق الاجتماعي» بعد عام 2000 لم يؤدّ إلى تحسين أحوال السوريين بل زاد في إفقارهم كما لم يحدث من قبل. وفي عام 2006، تفوقت استثمارات القطاع الخاص على استثمارات القطاع العام لأول مرة، واستمرت هذه الفجوة في التزايد، ولم ينعكس هذا التحول في تحسين سوق العمل، حيث بلغ معدل مشاركة القوى العاملة 43.5% فقط، وهو من أدنى المعدلات عالمياً، مقارنة حتى بدول مثل مصر وتونس.

1243_h_3

لكن الأرقام الأكثر دلالة تكمن في توزيع الثروة والدخل. في عام 2000، كان الحد الأدنى للأجور لا يتجاوز 3,045 ليرة سورية، بينما كانت تكاليف المعيشة الأساسية لأسرة من خمسة أفراد تصل إلى نحو 18,180 ليرة، أي ما يعادل ستة أضعاف الأجر الأدنى. وفوق ذلك، فإن حصة أصحاب الأجور من الدخل الوطني كانت 21% فقط، بينما ذهبت نسبة 79% من الدخل لأصحاب الأرباح. وقد تفاقم هذا الوضع بشكل صارخ بعد عام 2023، حيث انخفض متوسط حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يقارب سبعة أضعاف ونصف مقارنة بعام 2011. وبناءً على تقديرات الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023، فإن حصة أصحاب الأرباح بلغت 90.8%، بينما لم تتجاوز حصة أصحاب الأجور الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من المجتمع السوري 570 مليون دولار من أصل 6.2 مليار دولار، أي أقل من 10%.

كانت هذه الفجوة الهائلة نتاجاً لنموذج اقتصادي فاسد وغير منتج. وهذا لم يكن مجرد فساد فردي، بل كان فساداً منظماً واستيلاءً على الدولة من جانب شبكات مصلحة تابعة لرموز نظام الأسد، الأمر الذي أدى إلى خسائر فادحة في المؤسسات الحكومية المنتجة.

هذا الظلم الاقتصادي هو ما جعل الانهيار قبل 2011 أمراً حتمياً. وقد تفاقم هذا الظلم خلال سنوات الحرب، حيث أدى «اقتصاد الحرب» إلى خلق طبقة جديدة من الأثرياء الذين استفادوا من التهريب والمليشيات والعمل في قطاعات الاقتصاد الأسود.

وهذا الظلم الجديد، الذي نما على أنقاض الدمار والفقر، زاد من الهوة بين فئة قليلة تسيطر على الثروة والأغلبية التي تعيش تحت خط الفقر. وأي مقاربة للعدالة الانتقالية تتجاهل هذه الحقيقة التاريخية والاقتصادية تكون بمنزلة تجاهل للسبب الجذري الذي أدى إلى الصراع، وهو ما سيجعل أي سلام مفروض هشاً وعرضةً للانهيار في أي لحظة.

لماذا لا يمكن فصل العدالة الانتقالية عن العدالة الاجتماعية؟

تتجاوز مسألة العدالة الانتقالية في سورية مجرد المساءلة القانونية أو البحث عن الحقيقة في انتهاكات الماضي. إنها مهمة شاملة تتطلب النظر إلى جذور الأزمة، وفي صلب هذه الجذور يكمن غياب العدالة الاجتماعية. والتركيز الحصري على المسارات التقليدية للعدالة الانتقالية، مثل جبر الضرر، أو ملاحقة مرتكبي الجرائم، أو حتى الإصلاح المؤسسي، رغم أهميتها القصوى، لن يؤدي إلى عدالة مستدامة إذا لم يتم معالجة الخلل الاقتصادي والاجتماعي العميق الذي أدى إلى انفجار الصراع في المقام الأول. ولكي نتجنب تكرار الأخطاء، يجب أن نأخذ العبر من تجارب سابقة، ربما أبرزها تجربة جنوب أفريقيا.

كانت تجربة جنوب أفريقيا في العدالة الانتقالية، ممثلة في «لجنة الحقيقة والمصالحة»، نموذجاً رائداً في العالم. لقد حققت اللجنة إنجازات لا يمكن إنكارها من خلال كشف الحقائق عن فترة الفصل العنصري (الأبارتايد). ورغم أهمية هذا المسار، فإن العديد من المفكرين والمنتقدين في جنوب أفريقيا اليوم يقرون بأن التجربة كانت ناقصة وغير مكتملة. حيث فشلت اللجنة في معالجة القضايا الاقتصادية الاجتماعية التي كانت تمثل جوهر نظام الفصل العنصري. ولهذا، ظلت الثروة والسلطة الاقتصادية متركزة في أيدي الأقلية البيضاء التي استفادت من النظام، بينما استمرت الأغلبية السوداء في مواجهة الفقر وتدهور الوضع المعيشي.

عدم المساس بالأسس الاقتصادية التي قام عليها الظلم في جنوب أفريقيا أدى إلى استمرار حالة من القهر الاجتماعي، وأبقى على بذور الاضطرابات المستقبلية. وأفضى هذا الفشل في ربط العدالة الانتقالية بالعدالة الاجتماعية إلى بقاء جراح المجتمع مفتوحة، لأن العدالة لم تصل إلى حياة الناس اليومية.

تتطلب العدالة الحقيقية في سورية، إذاً، أن تتعلم من هذا الدرس. لا يمكننا الاكتفاء بإجراء محاكمات وملاحقات لمرتكبي الجرائم فقط، مهما كانت ضرورية. بل إن المهمة الأولى والأساس في سبيل بناء سورية جديدة هي إعادة توزيع الثروة بشكل عادل. وكما قلنا، إن الاقتصاد السوري يعاني من تشوهات بنيوية عميقة، حيث لا يحصل أصحاب الأجور وعموم الشعب السوري سوى على نسبة ضئيلة جداً من الثروة، في حين تستحوذ حفنة من النافذين الفاسدين على الغالبية العظمى من الثروة. وقد كان هذا الخلل الاقتصادي هو الصاعق الذي فجّر الأزمة، وليس مجرد نتيجة لها.

ولذلك، يجب أن تكون أي خطة للعدالة الانتقالية في سورية مبنية على نموذج اقتصادي جديد عادل اجتماعياً. ويجب أن تشتمل على آليات فعالة لاجتثاث الفساد المتحكم في الدولة، وضمان أن تعود الموارد الطبيعية والمؤسسات الإنتاجية إلى ملكية الشعب. كما أن توفير فرص العمل اللائق، وتقديم الرعاية الصحية والتعليم للجميع، وضمان الحق في السكن، يجب أن تكون جزءاً لا يتجزأ من مفهوم العدالة.

العمل على المسارات التقليدية للعدالة الانتقالية، مثل جبر الضرر المادي والمعنوي للضحايا، وإنشاء المحاكم الخاصة، هو أمر لا يمكن التقليل من أهميته، ولكن يجب أن يتم في سياق يضمن ألا تؤدي هذه الإجراءات إلى تجميل واقع اجتماعي غير عادل. فإذا لم يتم تحقيق العدالة الاجتماعية، فإن أي «حل» سيكون مجرد مسكّن مؤقت، وسرعان ما سينفجر الوضع مرة أخرى، لأن الشعب السوري لن يقبل أن يعود إلى نظام يعاني فيه من الظلم الاقتصادي الاجتماعي الذي كان سبباً رئيسياً لسقوط سلطة الأسد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1243