«اقتصاد السوق الاشتراكي»: وصفة بكين لمزج الدولة بالسوق
من شنغهاي، يقدّم البروفيسور الصيني الشهير تشانغ وي وي، أستاذ جامعة فودان وواحد من أبرز المنظّرين لفكرة «النموذج الصيني»، رؤية شاملة حول الفوارق بين النظامين الصيني والأمريكي، والتحديات الاقتصادية والسياسية التي ترسم ملامح النظام العالمي الجديد. تشانغ، الذي يحظى بمتابعة ملايين الصينيين على وسائل التواصل الاجتماعي، شارك في مؤتمر أكاديمي مؤخراً، وألقى سلسلة من المداخلات التي تناولت قضايا التعددية القطبية، الديمقراطية، الحرب التجارية، والنظام المالي الدولي.
ترجمة: أوديت الحسين
يرى تشانغ: أن «النموذج الصيني» يقوم على مبدأ التوازن الثلاثي بين القوة السياسية، والقوة الاجتماعية، وقوة رأس المال، بحيث يكون التوازن دائماً لصالح الأغلبية الساحقة من الصينيين. ويضع هذا النموذج في مواجهة مباشرة مع النموذج الأمريكي، حيث يميل ميزان القوى هناك لصالح رأس المال والمصالح المالية، ما يخلق اختلالاً بنيوياً في تمثيل مصالح المجتمع.
سياسياً: يصف تشانغ الحزب الشيوعي الصيني بأنه «حزب شامل المصالح»، في مقابل الأحزاب الغربية التي يعتبرها «أحزاب مصالح جزئية وفئوية». ويعود ذلك، حسب رأيه، إلى طبيعة الصين كـ «دولة حضارية» تشكّلت من اندماج مئات الكيانات عبر التاريخ، منذ التوحيد الأول عام 221 قبل الميلاد. ويضيف أن الحزب الحالي هو امتداد لتقاليد صينية قديمة مثل: نظام امتحان الخدمة المدنية، حيث يعتمد على مبدأ «الاختيار بالإضافة إلى الانتخابات». فالقيادة في الصين لا تُنتَج عبر الولاء أو الدعاية، بل عبر المرور بمسار طويل من الاختبارات والخبرة العملية. ويشير إلى أن معظم أعضاء اللجنة الدائمة للحزب، أي القيادة العليا للبلاد، سبق أن حكموا مقاطعات ضخمة تضم أكثر من مئة مليون نسمة، قبل أن يصلوا إلى مواقعهم الحالية، ما يجعلهم أكثر تأهيلاً من نظرائهم في الغرب.
اقتصادياً: يشرح تشانغ أن الصين ابتكرت نموذجاً فريداً تحت مسمى «اقتصاد السوق الاشتراكي»، يجمع بين ملكية الدولة لموارد أساسية– كالأرض والمعادن والبنية التحتية الرقمية– وبين مرونة السوق التي تسمح للقطاع الخاص بالابتكار والتوسع. وكمثال على ذلك، يشير إلى تطبيقات، مثل: «تيك توك» و«شين» و«تيمو»، التي ولدت من شراسة المنافسة الداخلية داخل الصين، ثم غزت الأسواق العالمية. ويعزو نجاحها إلى أن الدولة أنشأت بنية تحتية رقمية هائلة، إذ تم إيصال شبكات 4G و5G حتى إلى القرى الجبلية النائية في التبت وشينغيانغ، بحيث باتت جودة الإنترنت هناك أفضل من باريس، كما يقول. هذه القاعدة الصلبة أتاحت لشركات، مثل: «علي بابا» أن تستثمر وتبني اقتصاداً رقمياً متقدماً.
كما يرى أن ضخامة السوق الصينية تمنحها ما يشبه «اقتصاد سوق حقيقي» قائم على منافسة كاملة، إذ يضم القطاع مثلاً أكثر من 100 مصنع لإنتاج السيارات الكهربائية، ما يخلق منافسة شرسة تخفّض التكاليف وترفع الكفاءة.
اجتماعياً: يرفض تشانغ المقاربة الغربية التي تضع الدولة في مواجهة المجتمع، ويعتبر أن العلاقة في الصين تكاملية، حيث تستجيب الدولة بسرعة وفاعلية للأزمات والكوارث، مما يعزز الثقة المتبادلة.
أما في موضوع الديمقراطية، فينتقد تشانغ ما يسميه بـ«الاختزال الغربي» للديمقراطية في انتخابات دورية تموَّل من الشركات الكبرى، ويقترح بدلاً من ذلك مفهوم «الديمقراطية الشاملة العملية» في الصين، التي تمتد عبر كل مراحل صناعة القرار. ويوضح أن عملية التشريع، مثلاً، تبدأ بإرسال مسودات القوانين إلى مراكز شعبية محلية للنقاش، كما حدث مع قانون مكافحة العنف الأسري الذي عُدِّل بعد ملاحظات من مواطنين اقترحوا إضافة بنود تحمي المسنين من عنف الأبناء. ويرى أن هذه الممارسة تجسد «جوهر الديمقراطية» باعتبارها وسيلة لتحقيق الحكم الرشيد، لا مجرد إجراءات شكلية.
ويضيف، أن التخطيط الخمسي في الصين دليل على هذا النهج. فالتحول إلى الريادة العالمية في صناعة السيارات الكهربائية، مثلاً، جاء ثمرة أربع خطط خماسية متتالية امتدت لعشرين عاماً، بينما لا تزال الخطط الغربية، مثل: «الصفقة الخضراء الجديدة» حبيسة الشعارات.
في معرض المقارنة بين الأنظمة، يلفت تشانغ إلى أن المليارديرات في الصين، على خلاف نظرائهم في أمريكا، لا يملكون نفوذاً سياسياً مباشراً. ويعزو ذلك إلى التوازن الثلاثي في النموذج الصيني الذي يضمن أن تكون القوة السياسية والاجتماعية ورأس المال في خدمة الأغلبية، وليس العكس.
كما استعاد مناظرة جمعته عام 2011 مع المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما، صاحب أطروحة «نهاية التاريخ». آنذاك، توقّع فوكوياما أن تشهد الصين «ربيعاً عربياً» خاصاً بها، بينما ردّ تشانغ مؤكداً، أن ما شهدته مصر سيؤول إلى «شتاء عربي»، وهو ما حدث لاحقاً. وانتقد تشانغ في حديثه اليوم ما أسماه «الرومانسية المفرطة» في أطروحات فوكوياما، مشيراً إلى فشله في التنبؤ بتطورات كبرى، مثل: الأزمة الأوكرانية، وجائحة كوفيد، وحتى الانتخابات الأمريكية.
في الشأن التجاري: أكد تشانغ أن أمريكا خاسرة في الحرب الاقتصادية مع الصين منذ بدايتها عام 2018. فالمجتمع الأمريكي يعتمد بشكل هائل على السلع الصينية، من أبسط الأدوات المنزلية وحتى المعدات الثقيلة، ولا يمكنه استبدال هذه المنظومة في وقت قصير. وأوضح أن الصين بنت على مدى عقود منظومات صناعية متكاملة في مناطق، مثل: دلتا نهر اليانغتسي ودلتا نهر اللؤلؤ، حيث تتواجد سلاسل التوريد الكاملة ضمن نطاق 100 كيلومتر واحد، وهي منظومة لا يمكن إعادة إنتاجها في أمريكا خلال عقود. لذلك وصف محاولات ترامب لإحياء الصناعة عبر الرسوم الجمركية بأنها «ساذجة».
النظام المالي الدولي: عند الحديث عنه، رأى تشانغ أن العقوبات الغربية على روسيا لم تؤدِّ إلى انهيار الروبل، بل دفعت موسكو إلى تحويل «حرب العملة» إلى «حرب بين النقود والبضائع». وأضاف، أن الصين بدورها تستند إلى نفس المنطق: أمريكا تملك المال، بينما الصين تملك البضائع، ومن يمتلك البضائع يكون في موقع أقوى وقت الأزمات.
وأشار إلى أن نظام الدفع الصيني «CIPS» أصبح ينافس شبكة «SWIFT» التقليدية، لأنه أسرع وأرخص وأكثر كفاءة، حيث تنجز المعاملات في ثوانٍ تقريباً وبلا رسوم، مقابل أيام ورسوم مرتفعة عبر «SWIFT». وكشف أن 54% من الشركات الصينية اعتمدت بالفعل على اليوان في تعاملاتها التجارية بحلول آذار 2025، مقابل 41% فقط للدولار. وأكد أن هذا التحول سيستمر، خصوصاً في تجارة السلع، فيما سيظل الدولار أكثر حضوراً في الأسواق المالية.
وفي ختام رؤيته، شدد تشانغ على أن العالم يتجه حتماً نحو التعددية القطبية، لكن لا يزال المطلوب هو صياغة نظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر عدلاً. وميّز بين الموقفين الروسي والصيني، معتبراً أن موسكو تتبنى موقفاً «ثورياً» يسعى لإسقاط النظام الذي تقوده أمريكا، بينما بكين «إصلاحية» تسعى إلى إصلاحه وتقليص عيوبه.
وختم بالقول: «المشكلة مع دونالد ترامب أنه لا يريد النظام الحالي، لكنه يحنّ إلى القرن التاسع عشر وإلى الميركنتيلية. أما نحن فننظر إلى الأمام، إلى المستقبل».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1243