وسائل روسيّة للسيطرة على التضخم دون شلّ الاقتصاد
في اجتماع حول القضايا الاقتصادية، وصف رئيس روسيا انخفاض التضخم بأنه إنجاز مهم. فإذا كان مستوى التضخم في آذار قد بلغ 10.3 % على أساس سنوي، فإنه في نهاية حزيران تراجع إلى 9.4% وبحلول تموز وصل إلى 8.8 %. أمّا في الأسابيع الأولى من آب فقد تسارع هبوط أسعار بعض السلع الاستهلاكية مرات عدّة.
ترجمة: أوديت الحسين
ويؤكد المحللون، أنّه إذا استمر هذا الهبوط، فقد تحلّ الانكماشية محلّ التضخم في آب، فيما لن يتجاوز معدل ارتفاع الأسعار السنوي 6–7 %، وهو ما يتماشى مع توقعات بنك روسيا.
وقدّر «مركز التحليل الكلي والتنبؤ قصير الأمد» مستوى التضخم الأساسي في أواخر الصيف بأنه صغير، وهو ما يُعد إشارة إيجابية للسوق. ويشير خبراء المركز إلى أنّ كبح التضخم لم يتحقق فقط بفضل سعر الفائدة المرتفع الذي حدّده البنك المركزي، بل أيضاً نتيجة إجراءات حكومية غير اعتيادية وعوامل إضافية، من بينها: الركود المتزايد في الطلب، وآثار تقوية الروبل، التي أوجدت للمنتجين والمستوردين فسحةً للتنافس على السوق، عبر خفض مؤقت «أو إيقاف» نمو الأسعار على منتجاتهم.
كل ذلك ينسجم مع المهمة الأساسية التي وضعها الرئيس أمام البنك المركزي وحكومة روسيا الاتحادية لإعادة الاقتصاد الروسي إلى مسار نمو متوازن، وهو ما يفترض خفض التضخم قبل كل شيء، مع الإبقاء في الوقت نفسه على البطالة عند مستوى منخفض مستقر. وكما أشار الرئيس، فإن «حصة المؤسسات التي تعاني نقصاً في الأيدي العاملة تتقلص، وهو بلا شك إشارة بالغة الأهمية». البطالة لدينا عند مستوى قياسي منخفض «2.2 %».
أمّا الأحاديث عن تشكّل مخاطر للاقتصاد «التبريد المفرط = يشير إلى وضع تُبطئ فيه الحكومة أو المصرف المركزي النشاط الاقتصادي بشكل أكبر مما يلزم، ففي التبريد يتم السيطرة على التضخم، أما الإفراط فيشلّ الاقتصاد» بل وحتى الركود فهي مبالغ فيها. فبحسب تقييم الرئاسة الروسية، يسيطر بنك روسيا على الوضع، ويعمل، بما في ذلك، مع المؤسسات بشكل مباشر، ولا يرى اليوم مخاطر كبيرة.
ولكيلا يتم السماح بـ«التبريد المفرط»، يقول بوتين: إنّه ينبغي ليس فقط الإحساس بالتوجهات الجارية في الاقتصاد والتقاطها، بل أيضاً التفاعل معها على النحو المناسب. ولهذا ينبغي للوزارات والهيئات المختصة، وزملائها في الأقاليم، أن تكون في تواصل دائم مع الاتحادات التجارية والمجتمع الريادي، وأن تساعد في حلّ المشكلات الناشئة، وأن تستجيب لطلبات المؤسسات والشركات وعمالها. كل هذا هو ما سيسمح بإبقاء التضخم تحت المرصد.
وفي البنك المركزي، وفي الحكومة، يلفتون الانتباه إلى أنّ التضخم، في ظروف تصاعد ضغط العقوبات على الاقتصاد، يتصرف على نحو غريب. فمن جهة، وبحسب ملاحظات علماء الاقتصاد، تظهر كل أسبوع تقريباً حالة انكماشية واضحة ترافقها «انخفاضات في أسعار المستهلك مقارنة بالمستوى المتوسط طويل الأمد». ومن جهة أخرى «على مستوى التضخم الأساسي لا تُلاحظ انكماشية، أمّا الدينامية فمطابقة للمتوسط طويل الأمد». عموماً، حتى مع احتساب الزيادة في أسعار السلع غير الغذائية «باستثناء المشتقات النفطية والسجائر»، يواصل جدولُ السلع التي تنخفض أسعارها الاتساع.
في الوقت الراهن، يلاحظ علماء «مركز التحليل الكلي والتنبؤ قصير الأمد» «دينامية متدنية جداً للأسعار» على السلع غير الغذائية. الملابس والملبوسات الداخلية، ومواد البناء، لا تزال تواصل الانخفاض. ويربط معدّو التقرير هبوط الأسعار بأثر «الشراء المؤجل»، غير أنّ «أثر التجميد المؤقت لأموال السكان في الودائع» يتراجع تدريجياً مع انخفاض أسعار الفائدة المصرفية. سيحين وقتٌ يصبح فيه الإنفاق، بسبب خفض السعر الأساسي، أجدى من الادخار.
وتأخذ الشبكات التجارية هذا طبعاً في الحسبان، وتحسب أين يمكن تحقيق الربح. ومع كل أسبوع ترتفع أسعار الهواتف الذكية والمكانس الكهربائية وبنزين السيارات. والأسوأ أنّ ارتفاع أسعار الأدوية ومعجون الأسنان و«الخدمات المكلفة» لحشو الأسنان قد استؤنف.
ومع ذلك، وعلى الرغم من التقلّبات السعرية، كان البنك المركزي قد رصد في حزيران هذا العام تباطؤ التضخم. فبعد عامين من النمو وبلوغه في آذار 2025 قيمةً ذُرَوية «10.34 % سنوياً» تحت تأثير عوامل خارجية وداخلية، بدأ التضخم يضعف بصورة ملحوظة تحت تأثير هذه العوامل نفسها، وهو ما أدى إلى خفض السعر الأساسي من 20 % إلى 18 %.
وقد أتاح الروبل القوي للمستوردين شراء السلع في الخارج بسعر مناسب لهم. وبالمناسبة، كما يؤكد روّاد الأعمال، تحسّن الوضع مع المدفوعات للمتعاملين الأجانب «في عهد ترامب» على نحو غير متوقع، مما خفّض تكاليف الشركات الروسية. وقد تعزّز الأثر بسياسة بنك روسيا النقدية المتشددة.
ويحذر المحللون من أنّ توقعات التضخم التي يعتمد عليها البنك المركزي قد ترتفع في النصف الثاني من عام 2025. سيؤثر في الإحصاءات المواتية كلٌّ من ضعف المحصول، والهبوط القوي للروبل، وتعاظم الأكلاف الجيوسياسية، والزيادة غير المخططة في نفقات الميزانية، وعقوبات جديدة من «أمريكا» والاتحاد الأوروبي، والتي قد تُسخّن التضخم، وهو ما لن يكون نافعاً لجيوبنا قطعاً.
وفي تقريرهم، يقترح علماء «مركز التحليل الكلي والتنبؤ قصير الأمد» أن تتخذ الحكومة احتياطها فتُجمِّد مؤقتاً أسعار 24 سلعة ذات أهمية اجتماعية، يدخل في قائمتها: اللحوم والحليب والخبز والخضار والفواكه. وللسلطة حقّ تنظيم أسعارها إذا ارتفعت بحدة «بنسبة 10 % فأكثر خلال 60 يوماً». إلا أنّ المسؤولين يتعاملون بحذر شديد مع تنظيم الأسعار. فخلال 15 سنة استخدمت هذه الآلية مرّتين فقط «لتنظيم أسعار الحنطة السوداء والسكر وزيت دوار الشمس».
ولا يزال تنظيم الأسعار «يدوياً» يثير نقاشات محتدمة. بعض الخبراء يعدّون هذه الخطوة فعّالة، مفسّرين ذلك بأنّ على الأعمال المتغوّلة أن تكبح شهيّتها. ويقول آخرون: إنّ ارتفاع الأسعار اليوم مشروطٌ بزيادة حادّة في تكاليف الأعمال، وأنّ تدخّل الدولة في هذه العملية لن يؤدي إلا إلى تفاقم الوضع، بل وظهور عجزٍ سلعي، وانخفاض الجودة وتنوّع المنتجات، ونموّ السوق السوداء.
ويقف «الاقتصاديون النقديون» ضد أي تدخّل للدولة في الاقتصاد. وتتلخص حججهم في أنّ الزيادة المعتدلة في الأسعار ليست شراً بل خيراً. فإذا رأى المستهلكون والمنتجون أنّ الأسعار تواصل النمو ببطء وبصورة متوقعة، فإن حافزاً قوياً يظهر لديهم للإنفاق والاستثمار الآن لا التأجيل. سترتفع المبيعات، ومن بعدها الإنتاج، فالأجور، ثم الطلب من جديد. وفي هذه الحالة سينتعش الإقراض أيضاً: إذ ستُقبل المؤسسات على الاقتراض للتنمية، وهي تعلم أنّ القيمة الحقيقية لدَينها بعد عام ستنخفض بمقدار التضخم. وفي هذا يكمن معنى «التحفيز الناعم» الذي يحول دون ركود الاقتصاد عندما تعلق الأموال «تحت الوسادة»، ويتجنب المستثمرون الإنتاج.
وفي الحقيقة، فإن مخاوف الاقتصاديين الليبراليين لا محلّ لها: لا أحد ينوي «ترهيب» الأعمال. فالحكومة تسعى إلى استقرار الأسعار لا عبر الحظر أو القيود، بل عبر اتفاقات طويلة الأمد بين المنتجين والمستهلكين يمكن إبرامها بمساعدة الدولة.
ويساعد على كبح التضخم تسريعُ استيراد السلع من الدول الصديقة، والتوريدُ المباشر لمنتجات المزارعين إلى المدن الكبرى، متجاوزين الوسطاء التجاريين، وخفضُ الرسوم على السلع التي باتت تُجلب بكميات أقل، وعلى المواد الخام اللازمة لإنتاجها. كل ذلك لا يعيق العلاقات السوقية الطبيعية.
وعند الضرورة يمكن إشراك قيودٍ على القروض الاستهلاكية، من خلال تقييم صارم للمخاطر عند منح القروض، وتحفيز «اقتصاد العرض» عبر خفض أسعار الفائدة، وخصمٍ استثماري على ضريبة الأرباح، وتقييد نمو تعرفة الاحتكارات الطبيعية بمستوى التضخم. إن التطبيق المركّب لمثل هذه الإجراءات سيساعد، برأي العلماء، على خفض نمو الأسعار بحلول نهاية العام إلى 5–6 %.
وتدعم وزارات الزراعة والصناعة والتجارة بنشاطٍ، اعتمادَ العقود طويلة الأمد، بما يسمى «التسعير وفق الصيغة»، حيث يُحسَب كل شيء «من الحقل إلى الرف». ويُفترض أن تحدد الحكومة قائمة السلع لهذه العقود.
وستتولى وزارة الزراعة مع وزارتي الصناعة والتجارة ومع «هيئة مكافحة الاحتكار» تتبُّع تكوين الأسعار. وقد أيّد مسؤولو الهيئات المختصة والمنتجون مبادرة العقود التي تراعي مصالح الطرفين، المنتجين وشبكات التجارة، والتي تتيح خفض تقلّب السوق. وقد أثبت هذا الميكانيزم نفسه إيجابياً، ويُراد الآن تثبيته على المستوى التشريعي.
ويبدو أنّ الحل الوسط قد وُجد. فستتقلّص أعداد المضاربين والوسطاء، وسيحصل المنتجون المتحلّون بالأمانة على منفذ إلى رفوف المتاجر الكبرى، وسيتمكنون من تطوير الإنتاج بنشاط أكبر دون الغرق في الديون.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1239