العزلة المالية: لماذا نشد حبل «سويفت» حول رقاب السوريين؟
في آذار 2012، تم قطع وصول سورية إلى «جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك SWIFT» التي تعتبر العمود الفقري للنظام المصرفي العالمي، تحت ضغط العقوبات الأوروبية ثم الأمريكية التي فُرضت على سورية أثناء سنوات الحرب. وفقاً للتصريحات الغربية، هدفت هذه العزلة المالية إلى «معاقبة» نظام الأسد من خلال قطع شرايينه الاقتصادية، لكنها عزلت عملياً الاقتصاد السوري بأكمله عن النظام المالي العالمي. وكان لهذا القطع آثار فورية وعميقة. كانت سورية - التي تحول اقتصادها إلى اقتصاد استيرادي بامتياز بفعل سياسات النظام - بحاجة ماسّة إلى آلية لتحويل الأموال، لكن البنوك العالمية أغلقت حسابات المراسلة مع البنوك السورية خوفاً من تداعيات العقوبات، ولم يعد بإمكان الشركات السورية الدفع بسهولة للموردين الأجانب أو تلقي الأموال من الخارج عبر القنوات الرسمية. كان الهدف المزيف المعلن هو «خنق التمويل» عن النظام، لكن النتيجة الفعلية كانت حصاراً مالياً شبه كامل على سورية، لم يسبق له مثيل في تاريخها الحديث، وكانت حيتان النظام هي المستفيد الفعلي الوحيد من ذلك.
في مفارقة صارخة، سرعان ما وجد فاسدو نظام الأسد طرقاً لاستغلال العقوبات لصالحهم. وما كان يُفترض أن يكون عقوبة، أصبح فرصة لتحقيق أرباح هائلة للنخب الحاكمة. فمع توقف التحويلات المصرفية الرسمية، ارتفعت تكلفة ومخاطر نقل الأموال، ودخل اللاعبون المرتبطون بالنظام لتولي زمام الأمور: عطّل حظر سويفت للبنوك السورية دفع قيمة الواردات وحتى وصول المساعدات، مما أجبر التجار على اللجوء إلى قنوات غير رسمية، ما أدى وفقاً لبعض التقديرات إلى زيادة تقدر بين 40% و50% في الأسعار. وكان عددٌ محدودٌ فقط من التجار «المحظيين» – وغالبيتهم مرتبطون بدائرة الأسد الضيقة – قادرين على تنفيذ التحويلات المالية الدولية من خلال قدراتهم الالتفافية.
زادت العقوبات الغربية من تشويه الاقتصاد السوري عبر دفع السوق السوداء واقتصاد الحرب، مما أدى إلى سحق قطاعات الإنتاج وتعزيز هيمنة من يعملون في الظل. وابتكر الفاسدون شبكات معقدة لغسل الأموال وضمان استمرار التجارة. على سبيل المثال، تشير بعض التقديرات إلى أن الأموال السورية السوداء – بما في ذلك عائدات المخدرات مثل الكبتاغون – كانت تُنقل عبر شبكات معقدة إلى «الجنات الضريبية» أو «الملاذات الآمنة» مثل جزر العذراء البريطانية وجزر كايمان غير الخاضعة للعقوبات.
وتشير التقارير إلى أن النظام كان يأخذ حصة كبيرة – نحو 40% من قيمة التحويلات – عبر فرض «رسوم» على التجار الذين لا يملكون خياراً آخر. بعبارة أخرى، خلقت العزلة سوقاً احتكارية لدائرة النظام الضيقة التي أثرت نفسها بينما تحمّل الشعب تبعات ارتفاع الأسعار.
ما هو نظام سويفت ولماذا تضررت سورية بسببه؟
لفهم لماذا عانت سورية بشدة من حظر سويفت، يجب أولاً فهم طبيعة هذا النظام وهيمنته الغربية. تأسس سويفت عام 1973 ومقره بلجيكا. والمفترض به أن يوفر نظام رسائل آمن تستخدمه البنوك حول العالم لإرسال تعليمات الدفع. وتعتمد أكثر من 11,000 مؤسسة مالية في أكثر من 200 دولة على سويفت كمركز «محايد» لتوجيه المدفوعات.
لكن الحياد المزعوم لسويفت مجرد كذبة، فالهيمنة الغربية عليه تعني أنه إذا أدرجت الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي بنوك دولة ما في قوائم العقوبات، يمكن طرد تلك الدولة فعلياً من النادي المالي العالمي.
كان لفقدان الوصول إلى سويفت تأثير مدمر على سورية. فسنوات التراجع الاقتصادي ومن ثم تبعات الحرب بعد 2011 دمّرت القدرة الإنتاجية لسورية. وبحلول عام 2012، كانت البلاد تعتمد بشدة على الواردات – من القمح إلى الوقود إلى الأدوية – وكانت بحاجة ماسة إلى التحويلات بعملات صعبة. كما كان النظام المالي السوري بدائياً نسبياً ومغلقاً، وعندما فُرضت العقوبات، لم يكن لدى النظام السوري بديل جاهز عن سويفت. وبينما جربت دول أخرى التجارة بالمقايضة أو الاتفاقيات النقدية بالعملات المحلية، لم يُبذل أي جهد في سورية لخلق أو الانضمام إلى أنظمة دفع بديلة. وعزز هذا الإهمال المقصود في السعي نحو البدائل هشاشة سورية في ظل انقطاع شريان سويفت.
هيمنة الغرب على النظام المالي العالمي عزلت سورية بشكلٍ شبه تام. حيث تعتبر العقوبات التي تقطع وصول دولة إلى البنية التحتية المالية الدولية من أقوى الأسلحة الاقتصادية. فأي نشاط اقتصادي عابر للحدود – من التصدير إلى استيراد السلع وتلقي الحوالات – يتطلب بنوكاً تستطيع إرسال واستقبال التعليمات. وبمجرد أن تم فصل البنوك السورية عن سويفت، وجدت حتى البنوك التابعة لدول أخرى صعوبة في التعامل مع سورية، وكانت النتيجة شللاً مالياً. امتناع النظام عن توفير خطة بديلة – سواء عبر علاقات مصرفية موازية أو حلفاء جدد – جعل سورية تتلقى ضربة كاملة عند إغلاق باب سويفت: كانت سورية مربوطة بخط واحد للأوكسجين المالي تهيمن عليه الدول الغربية وانقطع تماماً.
والنتيجة أن سماء بغداد اليوم لا تزال مليئة بالرافعات الأجنبية التي لم تبنِ منازل للعراقيين، بينما تتدفق عائدات النفط التي تسيطر عليها شركات أجنبية إلى الشركات متعددة الجنسيات.
البحث عن بدائل: هل يمكن تجاوز سويفت؟
مع استخدام العقوبات الغربية كسلاح عبر نظام سويفت، أصبح من الطبيعي أن تتوجه الأنظار نحو شبكات مالية بديلة. وخلال العقد الماضي، قامت قوى كبرى ودول خاضعة للعقوبات بتطوير قنواتها الخاصة لتقليل اعتمادها على النظام المالي الغربي. ومن بين أبرز البدائل:
نظام CIPS الصيني (نظام الدفع عبر الحدود بين البنوك): أُطلق في عام 2015 كبديل صيني لنظام سويفت، ويهدف لتسهيل المعاملات الدولية باليوان الصيني. بخلاف سويفت (الذي يُعد نظام رسائل فقط)، يوفر CIPS خدمة المقاصة والتسوية للمدفوعات بالعملة الصينية. بدأ بعدد صغير من البنوك داخل الصين، لكنه توسع بسرعة. وبحلول كانون الثاني 2022، كان لدى CIPS أكثر من 1280 مؤسسة مالية مشاركة في أكثر من 100 دولة. ويستخدم نفس معايير الرسائل المعتمدة في سويفت، مما يسهل التكامل بين النظامين. وفّر CIPS شريان حياة لدول عدة زادت من استخدام المدفوعات باليوان بعد العقوبات الغربية.
نظام SPFS الروسي (نظام نقل الرسائل المالية): طوره البنك المركزي الروسي بعد عقوبات 2014 عقب ضم القرم، وبدأ العمل به داخلياً عام 2017. كان في البداية موجهاً للبنوك الروسية فقط، لكنه انفتح لاحقاً أمام البنوك الصديقة في دول أخرى. وبحلول عام 2024، كانت هناك 177 مؤسسة مالية من 24 دولة مرتبطة بالنظام. يتشابه SPFS في بنيته مع سويفت ويدعم نفس المعايير، لكنه يعمل على شبكة مغلقة وآمنة. وبعد الحرب في أوكرانيا عام 2022، سُرّع العمل به بشكل كبير بعد أن فُرض الحظر على معظم البنوك الروسية.
الأنظمة المالية الهندية: بنت الهند بنية تحتية مالية قوية محلياً تُستخدم الآن في التبادل الدولي. واجهة الدفع الموحدة (UPI) هي نظام دفع فوري ناجح داخلياً في الهند، يُستخدم عبر الهواتف الذكية ويُعالج مليارات المعاملات شهرياً. أما نظام الرسائل المالية المنظمة (SFMS) فهو أقرب إلى سويفت، وقد أُطلق عام 2001، ويستخدم نفس معايير سويفت. تدرس الهند منذ عام 2019 ربطه مع SPFS وCIPS في إطار تحالف ثلاثي يضم روسيا والصين والهند. ومن التجارب الناجحة، استخدمت الهند نظاماً للدفع بالروبية مع إيران خلال فترة العقوبات، حيث قامت بشراء النفط الإيراني وسداد ثمنه بالعملة المحلية عبر بنك هندي، وهو نموذج قد تستفيد منه سورية. هذا النوع من الترتيبات، الذي يستخدم عملات محلية ويتجنب الدولار واليورو، يساعد سورية فعلياً على مواصلة تجارتها مع العديد من الدول دون المرور عبر سويفت.
خلاصة القول، ثمة توجه عالمي نحو التعددية المالية عبر أنظمة جديدة مثل CIPS وSPFS تنتشر اليوم، وتختبر دول العالم آليات دفع إبداعية. ورغم أن هذه البدائل ما زالت محدودة النطاق، فإنها تثبت أن العقوبات الغربية، رغم قوتها، ليست ولا راد لها. لسورية أن تستفيد من هذه الأدوات الناشئة عبر شراكات ذكية، ويمكنها بناء شريان مالي بديل يحد من سطوة الحصار المالي الغربي. لكن ذلك يتطلب إرادة سياسية، وعلاقات دبلوماسية فعالة مع الدول التي ترغب ولها مصلحة بذلك.
ما بعد الأسد: اقتصاد مشلول بحاجة إلى حلول جديدة
بعد أكثر من 14 عاماً على انفجار الصراع، لا تزال العزلة المالية من أهم العوائق أمام تعافي سورية، فحتى مع هدوء المعارك العسكرية، تستمر الحرب الاقتصادية وتتسارع تبعاتها، حيث لا تزال آثار العقوبات والاستغلال قائمة. ومن اللافت أنه حتى مع تغيير السلطة في سورية، لا يزال الغرب يتباطأ في رفع العقوبات عن سورية، ضارباً بعرض الحائط جميع حججه السابقة من أن هذه العقوبات تستهدف النظام لا الشعب السوري.
دون إعادة الانخراط في النظام المالي العالمي أو إيجاد بدائل ذكية، لا يمكن للاقتصاد السوري أن يتعافى. لقد أظهرت تجربة العقد الماضي أن العقوبات الشاملة، دون توفير بدائل اقتصادية، تؤدي إلى تمكين الفاسدين وتقويض قطاعات الإنتاج الوطني. وما لم يتغير شيء في الذهنية التي تحكم الاقتصاد السوري، ستبقى سورية مشلولة فعلياً. وفي مثل هذا المناخ، يزدهر الفساد والتطرف: فعندما يُخنق النشاط الاقتصادي الشرعي، تبقى السوق السوداء وحدها قادرة على العمل.
بالنسبة لسورية الجديدة، فإن انتظار رفع العقوبات ليس خياراً معقولاً، ولا يجوز أن يبقى الشعب السوري رهينة للابتزاز السياسي. فحتى عمليات تخفيف العقوبات الأوروبية التي نشهدها اليوم لا ترقى إلى مستوى الرفع الكامل، وتظل دون جدوى عملياً في ظل استمرار العقوبات الأمريكية.
السعي نحو استراتيجيات مالية بديلة بات ضرورة ملحّة. يمكن للسلطة السورية أن تسعى لعقد شراكات مع دول تمتلك أنظمة دفع بديلة – مثل CIPS أو SPFS – لتسهيل استيراد السلع الأساسية. كما يمكنها عقد اتفاقيات ثنائية لاستخدام العملات المحلية أو نظام المقايضة. وتعزيز العلاقات المصرفية الإقليمية أمر أساسي أيضاً: فإذا أمكن إقناع مؤسسات مالية عربية أو آسيوية بالانخراط عبر حسابات خاصة أو صناديق محمية من العقوبات، فقد يُعاد ربط سورية تدريجياً بالتجارة والاستثمار.
الأكيد أن العقوبات سيظل لها أثر على سورية، لكن بيد السوريين أن يخفضوا تأثيرها على مستقبل سورية إلى الحد الأقصى. ومن شأن كل قناة جديدة أو وسيلة التفاف أن تُقلل من سطوة الحصار وتمنح السوريين القدرة على العمل مجدداً.
إعادة إقلاع الاقتصاد الوطني تتطلب الانخراط مجدداً في العالم، ولا طريق لذلك سوى الانضمام أو إيجاد بديل للأنظمة التي تُشغّل الاقتصاد العالمي. إعادة الاتصال الاقتصادي بالعالم أمر ضروري للتعافي على المدى الطويل. ولهذا فالمسألة شديدة الوضوح: على صانعي السياسات الاقتصادية في سورية أن يفكروا خارج الصندوق الذي فرضته العقوبات. سواء من خلال تبني تقنيات مالية جديدة، أو بناء تحالفات غير تقليدية، يجب على سورية السعي لاستعادة حياتها الاقتصادية مع العالم. ودون هذا العزم، ستبقى العقوبات ورقة في يد الغرب تمنع تعافي سورية. وقد حان الوقت منذ زمن طويل لتقليص تأثير هذه الورقة، وفتح مسارات بديلة لتدفق المال والتجارة. عبر هذا الطريق فقط يمكن للسوريين أن يبدؤوا بإعادة بناء اقتصادهم المنهار وفق شروطهم، لا وفق شروط الآخرين.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1225