أوروبا: تجارة المخدرات تتحوّل إلى جحيم
إيغور فيريميف إيغور فيريميف

أوروبا: تجارة المخدرات تتحوّل إلى جحيم

تبدو أوروبا اليوم وكأنها تتجاوز أمريكا الجنوبية نفسها في حجم نشاط تجارة المخدرات غير المشروعة. وتحت عنوان لافت «كوكايين، فساد ورشاوى: ميناء ألماني محاصر من قبل كارتلات المخدرات الأوروبية»، نشرت صحيفة ذا غارديان البريطانية مؤخراً تقريراً مطوّلاً يكشف كيف تحوّلت ألمانيا، ذلك البلد الذي كان يُعرف بهدوئه ونظامه الأبوي، إلى مركز عالمي لتهريب المخدرات.

ترجمة: قاسيون

تُظهر الأرقام أن ما بين عامي 2018 و2023، ارتفعت كمية الكوكايين المُصادرة في البلاد بنسبة مذهلة بلغت 750%، ما جعل من ألمانيا لاعباً رئيسياً في تجارة المخدرات المتسارعة على الساحة الأوروبية. غير أن تدفّق هذه المواد لا يزيد فقط من معدلات الإدمان، بل يغذّي أيضاً فساداً مستشرياً بدأ يمسّ مفاصل الدولة، التي طالما اعتُبرت واحدة من الأقل فساداً في العالم. الأسوأ من ذلك أن هذا الانهيار الأخلاقي لا يقتصر على عصابات دولية، بل وصل إلى مراتب رفيعة داخل أجهزة الدولة.

ففي واقعة صادمة، ذكرت الصحيفة أن «النيابة العامة في هامبورغ، وبعد مصادرة 16 طناً من الكوكايين عالي النقاء، وجدت نفسها في مأزق بعدما تبيّن أن أحد أبرز وكلائها متّهمٌ بتلقّي أموال من العصابة التي كان من المفترض أن يُحاكمها».

دانيال برومباخر، مدير المكتب الأوروبي «للمبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود»، يوضح أنّنا «نشهد اليوم تغلغل مافيا المخدرات في البنى التحتية لميناء هامبورغ، وشراء الذمم داخل الشرطة، بل وحتى داخل النيابة العامة، حيث تنتظر إحدى الشخصيات القضائية محاكمة بتهمة تسريب معلومات حساسة حول قضايا الكوكايين».

في واحدة من أكبر عمليات المصادرة في أوروبا، عثرت الشرطة في هامبورغ على 16 طناً من الكوكايين النقي، مخبأة داخل 1700 علبة طلاء تم شحنها من باراغواي في عام 2021. لكن المفاجأة كانت أن المدعي العام المسؤول عن التحقيقات متهمٌ اليوم بأنه كان يتقاضى 5000 يورو شهرياً من العصابة مقابل تحذيرها من عمليات الاعتقال، وتسريب معلومات عن سير التحقيقات.

تم توقيف المدعي العام في تشرين الأول الماضي، بعد أن تمكنت الشرطة من تتبّع مراسلات مشفّرة بينه وبين عناصر العصابة. وعندما اقتحمت الشرطة منازل المشتبه بهم في هامبورغ، كانت الشخصيات الرئيسية قد فرّت إلى دبي. وتقول الشرطة: إن هذا المدعي العام قد سرب معلومات مماثلة إلى عصابات أخرى، لكنه ينفي كل التهم الموجهة إليه.

وبينما يشهد العالم زيادة قياسية في إنتاج الكوكايين في كولومبيا، فإن الطلب عليه في أوروبا الغربية يشهد هو الآخر ازدهاراً غير مسبوق، وهو ما يدرّ أرباحاً هائلة للعصابات الإجرامية. إذ يُباع الكيلوغرام الواحد من الكوكايين في كولومبيا بـ 2000 دولار، بينما يصل في السوق الأوروبية إلى ما يقارب 40 ألف دولار. هذا الفارق السعري الهائل يموّل سيارات فيراري وفيلات فاخرة، لكنه يُستخدم أيضاً لرشوة المسؤولين، وتأمين مرور شحنات المخدرات القادمة.

وفقاً «ليوروبول»، يُعتبر ميناء هامبورغ، ثالث أكبر ميناء في الاتحاد الأوروبي، محطةً مفضّلة لدى مهربي المخدرات. بعض المتورطين، والذين يُعرفون بـ«العاملين من داخل الميناء» hafeninnentäter، يشملون عمالاً، وحراس أمن، وسائقي شاحنات. هذا الشهر فقط، صدر حكم بالسجن بحق عاملَين في الميناء ساعدا في تمرير 480 كيلوغراماً من الكوكايين القادم من الإكوادور، وسمحا بالاعتداء على زميل كان يهدد بكشف العملية.
وفي محاولة لمواجهة هذه الموجة، أطلقت الشرطة الألمانية حملة توعية لحماية عمال الموانئ من الترهيب، أو الإغراءات المالية التي يمارسها كارتل المخدرات، فيما طالبت أجهزة أمن ميناء هامبورغ بمنحها بنادق رشاشة لتتمكن من الدفاع عن نفسها.

أما آثار تجارة الكوكايين، فلم تعد محصورة بالموانئ، بل باتت واضحة على شوارع هامبورغ. «كارل»، حارس سابق في حي الدعارة الشهير بالمدينة، يقول: إن مظاهر الثراء الناتج عن الكوكايين أصبحت سافرة: «كل عطلة نهاية أسبوع ترى شباناً في سيارات فيراري ولامبورغيني وسيارات رباعية الدفع ثمنها 150 ألف يورو. هذه ليست أموال دعارة أو احتيال، بل تجارة كوكايين».

قضايا الفساد التي كُشف عنها حديثاً أزاحت الستار عن شبكة معقدة داخل جهاز الشرطة الألمانية: ضابط من ولاية بادن-فورتمبيرغ اعتقل هذا الشهر لتعامله مع المافيا الإيطالية «ندرانغيتا»، وضابط كبير في هانوفر اعتقل في كانون الثاني الماضي بتهمة تقاضي رشاوى من شبكات التهريب، وضابط في قسم مكافحة المخدرات أوقف قرب فرانكفورت، وآخر في بون اتهم بتسريب معلومات سرية إلى المافيا الهولندية-المغربية.

يؤكد برومباخر: أن «حمّى الكوكايين التي اجتاحت ألمانيا وباقي دول الاتحاد الأوروبي خلال العقد الأخير أغرقت المافيا بموارد مالية غير مسبوقة. لم يسبق أن امتلكت العصابات هذا الكم من رأس المال الاستثماري، ولم يكن لها من قبل هذا الحافز الهائل للرشوة».

العنف المرتبط بالمخدرات

المشكلة، كما تقول زورا هاوزر، عالمة الجريمة من جامعة كامبريدج ومؤلفة كتاب «تمدد المافيا»، أعمق بكثير: «عجزت ألمانيا طويلاً عن الاعتراف بوجود مشكلة مع الجريمة المنظمة، وحتى اليوم، لا تزال في حالة إنكار. وحده تدفّق الكوكايين جعل المشكلة تطفو على السطح». وتضيف أن «ضعف أداء الشرطة، وتراخي المشرّعين، وغياب قوانين صارمة لمكافحة غسيل الأموال، إلى جانب الحماية المفرطة للبيانات الشخصية، جعل من ألمانيا جنّة للعمليات الإجرامية».

وما يجري في فرنسا لا يقل خطورة. إذ تدور هناك «حروب مخدرات» طاحنة، يُقتل فيها أطفال ومراهقون برصاص أو طعنات أو حتى حرقاً، بينما يتمكن زعماء العصابات من الهرب من السجون. أعلن وزير الداخلية الجديد برونو ريتايو، المعروف بتشدّده الأمني، عن «حرب شاملة» ضد العصابات، بعد حادثة إطلاق نار في مدينة بواتييه يوم الأول من تشرين الثاني، أسفرت عن إصابة مراهق يبلغ من العمر 15 عاماً كان ماراً في المكان. لكن لم تمضِ 24 ساعة على مغادرة الوزير، حتى قُتل شاب يبلغ من العمر 19 عاماً طعناً في منطقة موربا، المعروفة بانتشار الجريمة المنظمة فيها.

ويعيش الفرنسيون تحت وقع أخبار دامية متتالية: منذ 2023، وقعت 16 حادثة خطرة على الأقل مرتبطة بالمخدرات، من نيم إلى باريس، حيث يلفظ العنف أنفاسه في شوارع المدن كل يوم. وباتت اشتباكات العصابات منتشرة ليس فقط في مرسيليا، بل أيضاً في غرونوبل وبواتييه وكليرمون-فيران وفالانس وفيلربان. ففي فالانس، قُتل شاب وأُصيب اثنان خلال حفلة عيد الهالوين، وفي اليوم التالي قُتل شاب في أحد أحياء المدينة. أما في فيلربان، قُتل رجل بالرصاص، وفي كليرمون-فيران يرقد مراهق في العناية المركزة بعد إصابته برصاصة في الرأس.

مدينة غرونوبل، التي روّج لها في مطلع العام كمركز للتكنولوجيا الفرنسية، وُصفت بعد أشهر بأنها واحدة من أخطر المدن في البلاد، بعد أن شهدت 19 عملية إطلاق نار بين عصابات تتنازع السيطرة على سوق المخدرات.

وما زالت مرسيليا، بما لها من ماضٍ طويل في تهريب الهيروين نحو أمريكا منذ ستينيات القرن الماضي، بؤرة الكوكايين الأوروبية، حيث تصل مبيعات بعض نقاطها إلى 85 ألف دولار يومياً. وسجّل فيها هذا العام 17 جريمة قتل مرتبطة بالمخدرات، بعد أن بلغ عددها العام الماضي 49. أما المشاهد المروعة، فبلغت ذروتها عندما قُتل فتى عمره 15 عاماً بـ50 طعنة، ثم أُحرق حيّاً، بينما استُخدم طفل آخر يبلغ من العمر 14 عاماً كقاتل مأجور.

في آذار الماضي، أطلق الرئيس إيمانويل ماكرون حملة «مكان نظيف» لمحاربة تجارة المخدرات، شارك فيها المئات من عناصر الشرطة، لكن النتائج كانت مخيبة: فالمخدرات لم تغادر الشوارع، بل صارت الحرب عليها أشد، والضحايا أكثر.

حتى في هولندا، وبعد أن أنفقت الحكومة أكثر من 524 مليون يورو لتعزيز أمن الموانئ في مواجهة موجة الاغتيالات المرتبطة بالكوكايين، لجأت العصابات ببساطة إلى موانئ في فرنسا وإسبانيا والبرتغال والدول الإسكندنافية والبلطيق.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1226