المستقبل السوري... هل تُنهِض المشاريع الصغيرة والمتوسطة اقتصاداً دمرته الحرب؟

المستقبل السوري... هل تُنهِض المشاريع الصغيرة والمتوسطة اقتصاداً دمرته الحرب؟

أدت الحرب السورية التي انفجرت في 2011 إلى تدمير شامل للبنية التحتية والاقتصاد السوري، تاركة البلاد في حالة من الخراب. ومع سقوط سلطة بشار الأسد، تقف سورية على أعتاب مرحلة جديدة تتيح إعادة بناء الدولة والاقتصاد لمصلحة السوريين. وفي خضم النقاشات حول النموذج الاقتصادي الأمثل لسورية المستقبل، تُطرح في بعض الأوساط فكرة الاعتماد بشكل رئيسي على المشاريع الصغيرة والمتوسطة، مع تقليل التركيز على المشاريع الكبرى. ويُجادل بعض مؤيدي هذا التوجه بأن المشاريع الصغيرة والمتوسطة أكثر مرونة وقدرة على التكيف، فضلاً عن دورها في تعزيز التنمية المحلية. ومع ذلك، يتجاهل هذا الرأي في كثير من مطارح النقاش التحديات البنيوية التي تواجهها سورية، ولا يأخذ في الاعتبار التعقيدات الموضوعية أمام عملية إعادة بناء اقتصاد مدمَّر بفعل الصراع العسكري وتركة السياسات الاقتصادية للسلطة الساقطة.

يستحق التوجه نحو التركيز على المشاريع الصغيرة والمتوسطة كخيار رئيسي للبناء الاقتصادي فحصاً دقيقاً، خاصة في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها سورية. ففي حين أن هذه المشاريع قد تبدو كحل سريع ومباشر لخلق فرص العمل وتحفيز النشاط الاقتصادي المحلي، إلا أنها تواجه تحديات كبرى في دول ما بعد الصراع.
أولا: تعاني سورية من انهيار كبير في البنية التحتية، مما يجعل من الصعب على المشاريع الصغيرة والمتوسطة أن تعمل بكفاءة. فبدون كهرباء مستمرة، وطرق آمنة، وشبكات اتصال فعالة، تصبح هذه المشاريع عاجزة عن تحقيق إنجازات فعلية.
ثانياً: يعاني القطاع المالي السوري من ضعف شديد، مما يحد من قدرة أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة على الوصول إلى التمويل اللازم لتأسيس أو توسيع مشاريعهم.
باختصار، لا يمكن إنكار فكرة أن تلعب المشاريع الصغيرة والمتوسطة دوراً ما في بناء الاقتصاد السوري، إلا أنه بالتأكيد ليس الدور الأساسي.

1215-7

هل تستطيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة بناء اقتصاد قوي؟

تعاني المشاريع الصغيرة والمتوسطة من مشكلات بنيوية جوهرية تجعلها غير قادرة على المشاركة الفاعلة في عملية إعادة بناء الاقتصاد الوطني أو ضمان نمو مستدام طويل الأمد. تشير تقارير البنك الدولي إلى أن أكثر من نصف الشركات الصغيرة في الدول الخارجة من النزاعات تعتبر نقص التمويل أكبر عائق أمام توسعها، مما يعني أنها تعاني من عجز مزمن في القدرة على الاستثمار في التكنولوجيا الحديثة، أو تطوير عملياتها الإنتاجية، أو حتى توظيف كوادر مؤهلة. ودون مصادر تمويل مستدامة، ستبقى هذه الشركات محدودة النشاط وغير قادرة على المساهمة الجدية في التنمية الاقتصادية.
وغالباً ما تحجم المصارف في الدول الخارجة من النزاعات عن تقديم القروض للشركات الصغيرة بسبب ارتفاع مخاطر التعثر. ونتيجة لذلك، تبقى العديد من الشركات الصغيرة محصورة في نطاق أعمال منخفضة الإنتاجية وغير قادرة على توسيع نطاق عملياتها. ويتكرر هذا النمط في دول ما بعد الأزمات، حيث تبقى الشركات الصغيرة عالقة في دورة اقتصادية ضعيفة، غير قادرة على التحول إلى مؤسسات قادرة على المنافسة.
وإلى جانب مشكلة التمويل، تواجه الشركات الصغيرة والمتوسطة تحدياً آخر يتمثل في عملها ضمن القطاع غير الرسمي، وهو ما يجعل مساهمتها في الاقتصاد محدودة وغير مستدامة. تشير تقارير منظمة العمل الدولية لعام 2022 إلى أن 70% من الشركات الصغيرة والمتوسطة في الاقتصادات النامية غير مسجلة رسمياً، مما يعني أنها لا تدفع الضرائب، ولا تساهم في الإيرادات الحكومية، ولا تملك أي حماية قانونية تضمن استمراريتها، وهذا ما يجعل هذه الشركات عرضة للإغلاق المفاجئ نتيجة التقلبات الاقتصادية، كما أنه يحرمها من القدرة على التعامل مع البنوك أو الاستفادة من برامج الدعم الحكومي والاستثمارات الكبرى.
وتمثل الإنتاجية المنخفضة تمثل تحدياً آخر يمنع الشركات الصغيرة والمتوسطة من أن تكون ركيزة أساسية للاقتصاد. وفقاً لدراسة صادرة عن معهد ماكينزي عام 2019، فإن الشركات الصغيرة والمتوسطة تحقق إنتاجية تقل بنسبة 40% عن نظيراتها في القطاعات الكبرى. وضعف الإنتاجية سببه استخدام التقنيات القديمة، وضعف الابتكار، وعدم القدرة على تحقيق وفورات حقيقية. وبسبب ذلك، تكون هوامش الربح منخفضة، ما يؤدي إلى عدم القدرة على دفع أجور مرتفعة أو تحسين بيئة العمل، مما يحد من قدرة هذه الشركات على جذب العمالة الماهرة أو المنافسة مع الشركات الأكبر.
وضعف قدرة الشركات الصغيرة والمتوسطة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي يجعلها أكثر عرضة للتقلبات والأزمات المالية. وفقاً للبنك الدولي، فإن 50% من الشركات الصغيرة في الدول الخارجة من النزاعات تغلق أبوابها خلال أول خمس سنوات من إنشائها، مما يعكس هشاشتها أمام الأزمات الاقتصادية وضعف قدرتها على التكيف مع المتغيرات. وفي الأزمات المالية العالمية، تكون الشركات الصغيرة هي الأكثر تأثراً، حيث لا تملك الاحتياطيات النقدية الكافية أو البنية الإدارية القادرة على التعامل مع الصدمات الاقتصادية. في الأزمة المالية لعام 2008، اضطرت آلاف الشركات الصغيرة إلى الإغلاق، بينما تمكنت الشركات الكبرى من إعادة الهيكلة والتكيف مع الأوضاع الجديدة.

1215-12

لماذا لم تعتمد التجارب المعتبرة على المشاريع الصغيرة والمتوسطة؟

عند دراسة تجارب الدول التي نجحت في إعادة بناء اقتصاداتها بعد الحروب، نجد أن النمو الاقتصادي المستدام لم يتحقق عبر دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، بل من خلال التركيز على الصناعات الكبرى، والاستثمارات الضخمة، والتخطيط الاقتصادي بعيد المدى. فالدول التي استطاعت تحقيق تحول اقتصادي بعد فترات النزاع لم تعتمد على منشآت صغيرة ذات قدرة محدودة على التوسع والتنافسية، بل قامت بتوجيه مواردها نحو إنشاء بنية تحتية اقتصادية قوية تعتمد على الشركات الكبرى القادرة على دفع عجلة الإنتاج وتعزيز الصادرات وزيادة الإنتاجية.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كان الاتحاد السوفييتي يعاني من دمار واسع النطاق، حيث فقد أكثر من 30% من بنيته التحتية الصناعية والزراعية، وانهارت مدن بأكملها تحت وطأة الغزو النازي. ومع ذلك، لم تعتمد الدولة السوفييتية على دعم المشاريع الصغيرة كحل لإعادة الإعمار، بل ركزت على إعادة بناء المصانع الكبرى، وتوسيع الإنتاج الصناعي، وتعزيز دور الدولة في قيادة الاقتصاد. وعليه، تم تبني خطة خمسية طموحة بدءاً من عام 1946، والتي ركزت على إعادة بناء الصناعات الثقيلة مثل الصلب، والهندسة، والتصنيع العسكري، والطاقة، مع تقليل الاعتماد على المشاريع الصغيرة التي لم تكن قادرة على تلبية الاحتياجات الاقتصادية الضخمة للبلاد.
خلال الفترة من 1945 إلى 1950، شهد الاقتصاد السوفييتي أحد أسرع معدلات التعافي في التاريخ، حيث ارتفع الإنتاج الصناعي بنسبة 75% مقارنة بمستويات ما قبل الحرب. وكان هذا النمو مدفوعاً بالاستثمارات الضخمة في البنية التحتية والمشروعات الصناعية الكبرى، التي كانت قادرة على تحقيق إنتاجية عالية وتوفير ملايين الوظائف المستقرة.
وحتى في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان الاقتصاد الألماني يعاني من دمار شامل، وشهدت البلاد انهياراً في القطاعات الإنتاجية الرئيسية، لم يكن دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة كافياً لإعادة تشغيل الاقتصاد، ولذلك ركزت الدولة على إعادة بناء المصانع الكبرى، وتحفيز الاستثمار في البنية التحتية، ودعم القطاعات التصديرية. والسياسة ذاتها جرى اتباعها في كوريا الجنوبية بعد الحرب الكورية، وفي فيتنام بعد عقود من الحروب والصراعات الاقتصادية.

1215-14

ما هو النموذج الاقتصادي الأفضل لسورية؟

إذا أرادت سورية تحقيق نمو اقتصادي مستدام بعد سنوات الحرب، فلا يمكنها الاعتماد على الحلول المؤقتة التي تركز على دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة فقط، بل تحتاج إلى استراتيجية اقتصادية طويلة الأمد تستند إلى تطوير البنية التحتية، وتعزيز القطاعات الإنتاجية الكبرى، والتخلص من الفساد الذي أضعف الاقتصاد السوري لعقود.
العنصر الأول في هذا النموذج هو الاستثمار المكثف في البنية التحتية، والتي تعد المحرك الأساسي لأي نهضة اقتصادية. لا يمكن لأي دولة أن أو تحفز الإنتاج المحلي دون شبكة متطورة من الطرق، والمواصلات، والكهرباء، والمياه، والاتصالات. وفقاً حتى لدراسات البنك الدولي، فإن كل دولار يتم استثماره في البنية التحتية يولد ثلاثة دولارات من الناتج الاقتصادي، مما يعني أن إعادة تأهيل وتوسيع البنية التحتية في سورية يجب أن يكون أولوية قصوى. اعتمدت الدول التي خرجت من الحروب ونجحت في إعادة بناء اقتصاداتها بشكل أساسي على مشاريع البنية التحتية الضخمة التي خلقت فرص عمل، وجذبت الاستثمارات، وحسّنت الإنتاجية في مختلف القطاعات. في الحالة السورية، فإن إعادة بناء شبكات النقل، وتأهيل محطات الكهرباء، وإنشاء المناطق الصناعية الحديثة سيشكل حجر الأساس لأي خطة نمو مستقبلية.
إلى جانب تطوير البنى التحتية، يجب أن يتم توجيه الاستثمارات نحو القطاعات الإنتاجية الكبرى مثل الصناعات التحويلية، والطاقة، والزراعة الحديثة، فهذه القطاعات ليست فقط قادرة على خلق وظائف مستقرة، ولكنها أيضاً توفر إيرادات مستدامة للدولة، وتحسن الميزان التجاري عبر زيادة الصادرات وتقليل الاعتماد على الاستيراد. في فيتنام مثلاً، أدى الاستثمار المكثف في التصنيع إلى تحول البلاد من اقتصاد زراعي متواضع إلى مركز صناعي قادر على التمتع بهامش منافسة عالمياً.
ويمثل قطاع الطاقة في هذا السياق عنصراً حاسماً في أي نموذج اقتصادي لسورية. فمع امتلاك سورية لموارد طبيعية مهمة، يجب أن يتم دفع قطاع الطاقة ليكون محركاً رئيسياً أولياً للتعافي الاقتصادي. تجارب دول مثل النرويج وكازاخستان أظهرت أن إدارة قطاع الطاقة بطريقة استراتيجية تساهم في بناء اقتصاد متنوع ومستدام، بينما الاعتماد عليه كمصدر ريعي دون تطوير القطاعات الأخرى يؤدي إلى أزمات اقتصادية طويلة الأمد.
لكن أي نموذج اقتصادي طموح لا يمكن أن ينجح دون القضاء على الفساد والنهب الكبير الذي كان أحد العوامل الرئيسية في إضعاف الاقتصاد السوري لعقود. حيث كان الفساد عملياً أكبر معيق لعمليات الاستثمار المطلوبة والضرورية في سورية، ما أدى إلى احتكار الأسواق من قبل نخب فاسدة بدلاً من توجيه الموارد نحو المشاريع الإنتاجية.
النموذج الاقتصادي الأمثل لسورية يجب أن يعتمد على إبداع السوريين في صياغة نموذج خاص لإعادة بناء البنية التحتية، وتطوير الصناعات الإنتاجية الكبرى، ومحاربة الفساد بشكل جذري. ولا يمكن تحقيق أي تقدم اقتصادي حقيقي إذا بقيت سورية تعتمد على مشاريع صغيرة غير قادرة على تحقيق تحول اقتصادي واسع النطاق.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1215