معضلة «السجين» التي تصيب الشركات اليابانية
في 6 شباط 2025، تم رسمياً إلغاء اتفاقية «الاندماج المتكافئ» بين شركتي السيارات اليابانيتين «هوندا» و«نيسان»، لتنعكس في العمق أزمة تعاني منها جميع الشركات اليابانية الكبرى تقريباً: «معضلة السجين». فكيف يمكن للشركات أن تخرج من هذه الإشكالية؟
ترجمة: أوديت الحسين
في 23 كانون الأول من العام الماضي، أعلنت «هوندا» و«نيسان» أنهما ستوقّعان «الاتفاقية النهائية» للاندماج في حزيران 2025، لكن في صباح 6 شباط، زار رئيس «نيسان» المقر الرئيسي لـ«هوندا» للقاء رئيسها التنفيذي، وأبلغه رسمياً برفض خطة «تحويل نيسان إلى شركة تابعة لهوندا»، مما أدى إلى إلغاء الاندماج.
عندما تم الإعلان عن اتفاقية الاندماج، جاء الخبر كالعاصفة، لكن قرار الإلغاء جاء بسرعة البرق، وكأن كل شيء قد حدث في لحظة. لكن لماذا كان الاندماج مهماً؟
تشترك «هوندا» و«نيسان» في جزء كبير من أعمال إنتاج السيارات التي تعمل بالوقود التقليدي. أشارت وسائل الإعلام اليابانية إلى أن الاندماج كان سيؤدي إلى زيادة الإنتاج السنوي إلى 8 ملايين مركبة، مما سيجعل الكيان الجديد ثالث أكبر شركة لصناعة السيارات في العالم. كما كان يُعتقد أن التعاون في تطوير البرمجيات الخاصة بالسيارات سيؤدي إلى زيادة القيمة السوقية للمجموعة.
لكن، في الواقع، عندما تندمج شركتان متشابهتان في المنتجات، فإن ذلك يتطلب خفض عدد الطرازات المتشابهة، مما يجعل تحقيق مبيعات 5 ملايين مركبة فقط أمراً جيداً. غالباً ما يؤدي اندماج الشركات الضعيفة إلى تكوين كيان أكثر ضعفاً، مما يقلل من قدرتها على مواجهة المنافسة الشرسة في السوق.
سياق اقتصادي متغير
عندما تصل التكنولوجيا إلى حدودها القصوى، ولا تستطيع الشركات اليابانية توسيع الإنتاج محلياً، فإن الحفاظ على نموذج الإنتاج التقليدي يؤدي إلى الخسائر. هنا تظهر الحاجة إلى خفض الخسائر أو الانسحاب التدريجي، أو البحث عن مسار جديد، كما هو الحال مع تحول صناعة السيارات من الوقود التقليدي إلى السيارات الكهربائية.
في صناعة السيارات، تعاني الشركات اليابانية من مشكلة مزدوجة: عدم امتلاك تقنية بطاريات قوية، وارتفاع تكاليف تطوير البرمجيات، مما يجعل اتخاذ قرار حاسم للتحول إلى السيارات الكهربائية أمراً بالغ الصعوبة.
هذه الأزمة لا تقتصر فقط على «هوندا» و«نيسان»، ولا على صناعة السيارات فقط، بل تشمل العديد من الشركات اليابانية التي تجد نفسها عالقة فيما يسمى «معضلة السجين»: حيث لا تستطيع أي منها التحرك بحرية لحل مشكلاتها.
في نهاية 2024 تم بث مؤتمر صحفي لإعلان الاندماج، ظهر فيه رئيسا «هوندا» و«نيسان». وكان القلق واضحاً في عيني رئيس نيسان رغم محاولات إخفاء ذلك، حيث رأت «هوندا» أنها الشركة الأقوى. وعند العودة إلى التصريحات الرئيسية لرؤساء الشركات الثلاث «مع ميتسوبيشي» خلال المؤتمر، يمكن استنتاج أن كل طرف كان يخفي نواياه الحقيقية. أرادت «نيسان» اندماجاً متكافئاً، و«هوندا» التي رأت نفسها الأقوى فأرادت أن تكون المهيمنة في جميع القرارات، سواء الإدارية أو الإنتاجية. أما «ميتسوبيشي»، فكانت في موقف المتفرج، حيث كانت مملوكة جزئياً لـ«نيسان»، لكنها لم تكن متحمسة للاندماج ووضعت خطة للانسحاب متى اقتضت الحاجة.
معضلة السجين في صناعة السيارات اليابانية
يأتي إلغاء اندماج «هوندا» و«نيسان» في وقت يشهد قطاع السيارات تحولاً غير مسبوق، حيث تواجه الشركات اليابانية صعوبة في التكيف مع التحديات الجديدة، خصوصاً في مجال السيارات الكهربائية والبرمجيات.
حتى لو كان الاندماج قد تم بطريقة متكافئة، أو حتى لو أصبحت «نيسان» شركة تابعة لـ«هوندا»، فإن معضلة السجين تظل قائمة، حيث لا تستطيع أي من الشركات الثلاث التغلب على مشكلاتها الداخلية بالاعتماد على نفسها فقط.
فأين تكمن المشكلة الحقيقية؟ أولاً: أزمة «نيسان» هي عجزها عن تقديم سيارات تنافسية. في 1998، عندما غرقت «نيسان» في ديون بلغت 2 تريليون ين، تدخلت شركة «رينو» الفرنسية وأنقذتها عبر ضخ 643 مليار ين، مما جعل «نيسان» عملياً تابعة لـ«رينو».
لكن اليوم، في ظل أزمة مالية جديدة، لا توجد أي شركة عالمية مستعدة لإنقاذ «نيسان». على العكس، بدأت شركات مثل «فوكسكون»، التي اشتهرت بتصنيع أجهزة «آيفون»، تتطلع إلى الاستحواذ على «نيسان» كما لو كانت طريدة ضعيفة بانتظار افتراسها، وهو أمر يقلق الحكومة اليابانية.
في السوق الأميركية، لا تملك «نيسان» أي ميزة في قطاع السيارات الهجينة، مما أجبرها على خفض الأسعار بشكل مستمر، حتى وإن كان ذلك يعني تقديم خصومات ضخمة للموزعين. ومع ذلك، لم يؤدِّ ذلك إلى تحقيق أي ربح، بل على العكس، ازدادت الخسائر.
ثانياً: «هوندا» وتحولها الصعب نحو السيارات الكهربائية. رغم نجاح «هوندا» في قطاع السيارات الهجينة، إلا أن مستقبل السيارات يتجه نحو الكهرباء بالكامل. في هذا المجال، لم يعد المنافس الرئيسي لـ«هوندا» هو «تويوتا» أو شركات السيارات الأوروبية، بل «تسلا» و«BYD» الصينية. إذا لم تستطع «هوندا» ترسيخ وجودها في الصين، السوق الأكبر للسيارات في العالم، فقد تجد نفسها في دوامة لا نهائية من التراجع.
تعمل «هوندا» على تطوير سيارة كهربائية جديدة باسم «يي» (Ye) للسوق الصينية، لكنها تواجه مشكلتين: قلة الطرازات المتاحة مقارنةً بالمنافسين، وارتفاع التكاليف وضعف القدرة على تقديم أسعار تنافسية.
إلى جانب ذلك، فإن المنافسة الحقيقية لم تعد تقتصر على تصنيع السيارات نفسها، بل انتقلت إلى مجال البرمجيات، حيث أصبحت السيارات الكهربائية تعتمد بشكل كبير على أنظمة تشغيل متطورة.
بالنسبة لـ«ميتسوبيشي»، فعلى الرغم من أنّها كانت من أوائل الشركات التي طرحت سيارة كهربائية صغيرة باسم i-MiEV عام 2009، إلا أنها لم تسوّقها بشكل جيد، مما جعلها تتراجع بالكامل في سوق السيارات الكهربائية.
إذن، لماذا لم ينجح الاندماج؟ باختصار، لم تتمكن أي من الشركات الثلاث من تحقيق مكاسب واضحة من الاتحاد: «هوندا» لم تجد فائدة كبيرة من ضم «نيسان» لأن الأخيرة ليست رائدة في مجال السيارات الكهربائية. «نيسان» رفضت أن تكون تابعة لـ«هوندا» لأن ذلك يعني فقدان استقلاليتها بالكامل. «ميتسوبيشي» لم تكن متحمسة من الأساس، ورأت أن مستقبلها مرتبط أكثر بشركاتها الأم في مجموعة «ميتسوبيشي».
كيف يمكن لشركات اليابان تجاوز «معضلة السجين»؟ مع تراجع الاقتصاد الياباني وتباطؤ النمو الصناعي، أصبحت الشركات الكبرى أكثر تحفظاً في استثماراتها، مما أدى إلى دخول العديد منها في أزمات مشابهة لمعضلة «هوندا-نيسان».
كانت اليابان رائدة في صناعات مثل: النسيج في الخمسينيات، والصلب في الستينيات، والإلكترونيات والأجهزة الرقمية في السبعينيات والثمانينيات. لكن اليوم، لم يعد لليابان تأثير كبير في الصناعات التكنولوجية الناشئة، رغم أنها تمتلك تكنولوجيا متقدمة في البطاريات والبرمجيات، لكنها لا تستثمر فيها بالشكل المطلوب.
نموذج «تويوتا» قد يكون الحل. على النقيض من «هوندا» و«نيسان»، اختارت «تويوتا» اتباع نهج مختلف تماماً. بدلاً من محاولة دمج شركات يابانية، قامت بخطوة استراتيجية ذكية: نقلت إنتاج «لكزس» الكهربائية إلى الصين، مما جعلها أقرب إلى السوق العالمية. أنشأت مصنعاً ضخماً للبطاريات في شنغهاي، لضمان استقرار إمداداتها من البطاريات. استثمرت في الذكاء الاصطناعي وأنظمة التشغيل الذكية، بدلاً من الاعتماد فقط على التصنيع التقليدي.
هذه الخطوات جعلت «تويوتا» تخرج من معضلة السجين التي تعاني منها شركات السيارات اليابانية الأخرى. لكن هل يمكن أن يتكرر سيناريو «تويوتا» مع تبني الشركات اليابانية الأخرى استراتيجية جديدة بدلاً من محاولات الاندماج التقليدية؟
مع تزايد أهمية الذكاء الاصطناعي، قد يكون التعاون مع دول أخرى مثل الصين، وليس الاندماج بين الشركات اليابانية حلّها هو الحل للخروج من الأزمة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1215