كيف مهدت السياسات الاقتصادية طريق الانفجار في سنوات ما قبل 2011
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عاش الاقتصاد السوري مرحلةً من التحولات الاقتصادية الكبرى التي تم تقديمها تحت شعار «اقتصاد السوق الاجتماعي». وهو الشعار الذي كان يُفترض - بحسب الداعين إليه آنذاك - أن يجمع بين «مبادئ السوق الحرة» و«مبادئ العدالة الاجتماعية»، إلا أن التطبيق العملي له كان بعيداً جداً عن تحقيق أهدافه المعلنة. وفي واقع الأمر، تحولت التغييرات التي جرت في بنية الاقتصاد السوري في ذلك الوقت لتلعب دوراً محورياً محرِّكاً لتفاقم الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية، مما أدى إلى ارتفاع مستويات الفقر بشكلٍ غير مسبوق، وزيادة الاعتماد على الاقتصاد الريعي وبداية تصفية القطاعات الإنتاجية.
تطابقت هذه السياسات من حيث الجوهر مع السياسات الليبرالية الجديدة التي، وبدلاً من تحقيق «تنمية مستدامة» منشودة، عمّقت التناقض الاقتصادي الاجتماعي، وأضعفت البنية الإنتاجية المحلية، وقلصت دور الدولة في توفير الحماية الاجتماعية.
ورغم الوعود الكثيرة برفع مستوى معيشة المواطنين، إلا أن هذه التحولات مهّدت الطريق لأزمة كبرى تفجّرت في عام 2011. في هذا المقال، نستعرض بعض جوانب السياسات الاقتصادية السورية بين عامي 2000 و2010، مستعرضين بعض جوانب دورها في تمهيد الطريق للأزمة وانفجارها، وتأثيراتها على مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وسنسلط الضوء على ما كتبته «قاسيون» حينذاك عندما دقت جرس الإنذار مبكراً منبهةً لمآلات السياسات الاقتصادية التي اتبعت في سورية.
السياق السياسي والاقتصادي للتحول الليبرالي في سورية
كان التحول نحو الاقتصاد الليبرالي في سورية جزءاً من موجة أوسع اجتاحت العديد من دول العالم الثالث خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين. دفعت المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الحكومات نحو سياسات السوق المفتوحة وتقليل دور الدولة في الاقتصاد. وسورية، التي عرفت في العقود السابقة نظاماً اقتصادياً يشهد دوراً كبيراً للدولة في الحياة الاقتصادية، بدأت خلال التسعينيات وبداية الألفية الثالثة في التخلي عن هذا النموذج تدريجياً، والتسريع في التوجهات المعاكسة. إلا أن أكثر ما يلفت الانتباه في هذه المسألة، هو أن الاقتصاد السوري سرّع من التوجه نحو هذه السياسات في الوقت الذي كانت تثبت فشلها في جميع أنحاء العالم، حيث اضطرت الكثير من الدول إلى اتخاذ سياسات معاكسة تزيد من دور جهاز الدولة في الحياة الاقتصادية.
في افتتاحية العدد 254 لعام 2005، كتبت «قاسيون»: «إن تجارب من سبقنا على طريق الخصخصة قد راكمت لدى الشعب السوري وطبقته العاملة ما يكفي من معرفة وخبرة لصدّ وردع من يريد خصخصة وطننا، فمواجهة الخصخصة وأصحابها وإفشال مخططاتهم هي مهمة ليست ذات طابع اجتماعي واقتصادي، اجتماعي يسعى للحفاظ على حد أدنى من العدالة الاجتماعية، واقتصادي يهدف إلى تأمين أرضية نموٍ عالٍ من أجل مواجهة التحديات الكبرى، من بطالة وتحسين مستوى معيشة ودور فاعل على المستوى الإقليمي، بل هي أيضاً، والأهم من ذلك كله اليوم، مهمة وطنية من الدرجة الأولى».
الانفتاح وتحرير التجارة: إغراق السوق ومفاقمة المشاكل
أحد أبرز جوانب التحول في الاقتصاد السوري كان تحرير التجارة الخارجية ورفع جانب من القيود عن حركة رؤوس الأموال. حيث فتحت الحكومة السورية أسواق البلاد أمام السلع الأجنبية وقلصت الرسوم الجمركية، مما أدى إلى إغراق السوق المحلي بالمنتجات المستوردة. وكان هذا التحرير بمثابة ضربة قوية للقطاعات الإنتاجية المحلية، التي لم تكن قادرة على منافسة السلع الأجنبية الأرخص (سبب رخصها في كثير من الحالات كان يعود لوجود دعم لهذا الإنتاج في بلده الأصلي، بينما جرى تقليص الدعم للإنتاج المحلي السوري).
ورغم أن الحكومة برّرت هذه السياسات بأنها ستجذب الاستثمار الأجنبي وتدعم الاقتصاد، إلا أن الواقع أظهر عكس ذلك: لم تتمكن الصناعات المحلية، وخاصة الصغيرة والمتوسطة، من الصمود أمام هذه المنافسة. على سبيل المثال: قطاع النسيج، الذي كان يعد من أبرز القطاعات الصناعية في سورية، شهد تراجعاً كبيراً بسبب دخول المنتجات الآسيوية التي أغرقت الأسواق المحلية.
السياسات النقدية وتحرير القطاع المصرفي
في إطار ما سميّت بـ«الإصلاحات» آنذاك، أقدمت الحكومة على تحرير القطاع المصرفي وسمحت بإنشاء بنوك خاصة بعد عقود من السيطرة الحكومية على النظام المالي. كما خفضت الحكومة أسعار الفائدة «بهدف تشجيع الاستثمار المحلي». ولكن، بدلاً من توجيه الأموال نحو الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، استغل رأس المال هذه التسهيلات في تحويل الأموال إلى الخارج.
تشير بيانات بنك التسويات الدولية إلى أن حجم ودائع السوريين في البنوك الأجنبية وصل إلى حوالي 24 مليار دولار بحلول عام 2008، ما يعكس جزءاً بسيطاً من حجم رأس المال الذي تم تهريبه خارج البلاد. وبدلاً من تحفيز النمو الاقتصادي، أدت هذه السياسات إلى تعميق الفجوة الطبقية وتكريس هيمنة الفساد الكبير على الموارد الوطنية.
في نهاية عام 2005، حملت افتتاحية «قاسيون» للعدد 261 الخلاصة التالية: «لا بد من تسمية الأمور بمسمياتها، ووضعها في نصابها الصحيح: ليس بسياسة اقتصادية كهذه، وليس بإجراءات مالية نقدية كالتي يجري اتخاذها الآن، تدار معركة المواجهة، والتي أصبحت أمراً واقعاً بل إن هذه الإجراءات وقياساً على نتائجها، تسير في الاتجاه المعاكس لخط المواجهة السياسي...».
تخفيض الإنفاق الاجتماعي: طريق الجحيم
كانت السياسات المتبعة قبل انفجار الأزمة في البلاد مصحوبة بتقليص الإنفاق الحكومي على القطاعات الاجتماعية الأساسية مثل التعليم والصحة. وكان ذلك جزءاً من خطة أوسع لتقليل دور الدولة في الاقتصاد، حيث رفعت الحكومة تدريجياً الدعم عن العديد من السلع والخدمات الأساسية، مثل الوقود والمواد الغذائية. وفي ضوء ذلك، انخفض الإنفاق على الصحة مثلاً من 7% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2005 إلى 5% في عام 2010.
وفي عام 2008، رفعت الحكومة سعر لتر المازوت بنسبة 275% من 7 ليرات سورية إلى 25 ليرة سورية، وسعر ليتر البنزين بنسبة 100% من 20 ليرة إلى 40 ليرة، ما أدى إلى زيادة تكاليف النقل والإنتاج وبالتالي ارتفاع أسعار السلع الأساسية. وأثر هذا القرار بشكل كبير على الأسر ذات الدخل المحدود التي لم تكن تملك أي أدوات لحماية نفسها من هذه الزيادات. ورغم الوعود الحكومية بتقديم تعويضات نقدية للأسر المتضررة إلا أن هذه التعويضات لم تنفذ بشكل فعال، ما زاد من معاناة الفقراء. والحجة دائماً كانت عدم وجود موارد للدعم الاجتماعي.
في افتتاحية العدد 320 للعام 2007، تساءلت «قاسيون»: «السؤال الذي ينتصب بشدة هو لماذا البحث فقط في جيوب الفقراء عن هذه الموارد؟ أليست هنالك مطارح أخرى لزيادة موارد الدولة؟ أليس التهرب الضريبي مورداً هاماً؟ أليست أموال الفساد مورداً أساسياً؟ أليست موارد الخليوي التي لا تحصل الدولة إلا على جزء يسير منها مورداً كبيراً؟ أم أن مصالح أصحاب هذه الموارد المحجوبة عن الدولة والمجتمع، وهم قلائل مقارنة مع الجماهير الشعبية التي سيصيبها ضرر رفع الدعم، هي أهم من مصلحة الأكثرية الساحقة في المجتمع؟».
ارتفاع معدلات الفقر والبطالة
أدى تراجع دور الدولة ومهمتها في توفير فرص العمل وتقلّص الاستثمارات العامة إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر. ووفقاً للتقارير (المتفائلة) آنذاك، بلغ معدل الفقر في سورية حوالي 33.5% في عام 2007، بينما وصلت النسبة إلى 62% في المناطق الريفية التي تعتمد بشكل كبير على الزراعة. في الوقت ذاته، ووفقاً لبيانات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، فإن بلغ إجمالي عدد الأشخاص الذي كانوا تحت خط الفقر الأعلى (90 ليرة سورية للفرد في اليوم) أكثر من ستة ملايين شخص في عام 2010.
في الوقت نفسه، ارتفعت معدلات البطالة، خاصة بين الشباب المتعلمين الذين لم يتمكنوا من العثور على فرص عمل في السوق الرسمي. ودفعت هذه الظروف بالكثير من الشباب إلى القطاع غير الرسمي الذي يوفر فرص عمل غير مستقرة ومحدودة الدخل، أو إلى الهجرة بحثاً عن حياة أفضل. وأظهرت أكثر التقديرات تحفظاً أن معدل البطالة في سورية تراوح بين 15% و20% بحلول عام 2010 (تقديرات أخرى وصلت إلى تخوم 37%)، وهي نسبة مرتفعة تعكس عجز الاقتصاد عن توفير فرص عمل كافية للعدد المتزايد من الداخلين إلى سوق العمل. بينما انخفض معدل المشاركة في القوى العاملة للأفراد الذين تبلغ أعمارهم 15 عاماً فأكثر من 51% في عام 2000 إلى 43% في عام 2010.
التراجع في الإنتاجية: التأسيس لمرحلة انهيار القطاعات الإنتاجية
تراجعت القطاعات الإنتاجية الرئيسية في سورية مثل الزراعة والصناعة بشكل كبير خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. كانت الزراعة، التي مثلت حوالي 25% من الناتج المحلي الإجمالي في التسعينيات، تمثل أقل من 10% بحلول عام 2010. وقد ساهمت عدة عوامل في هذا التراجع، بما في ذلك الإهمال الحكومي، والجفاف المستمر، وغياب الدعم للفلاحين.
أما القطاع الصناعي، فقد عانى من نقص الاستثمارات وتراجع الإنتاجية. الصناعات الصغيرة والمتوسطة، التي كانت تشكل جزءًا كبيرًا من الاقتصاد، أغلقت أبوابها بسبب عدم قدرتها على منافسة المنتجات المستوردة. وانخفض معدل تكوين رأس المال الثابت الإجمالي في الصناعات التحويلية من 27% في عام 2005 إلى 21% في عام 2009، مما يدل على تراجع دور الدولة في دعم هذا القطاع الحيوي. أما مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي فلم تتجاوز 3% خلال العقد 2000-2010. وقد ركزت هذه الصناعة بشكل كبير على إنتاج المواد الغذائية والمنسوجات، مما يعكس غياب التنويع الصناعي والاستثمارات في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية.
وفوق ذلك، انخفض معدل نمو الإنتاجية لكل عامل إلى 1.4% سنوياً بعد عام 1990، مقارنة بـ 3.7% خلال الستينيات والسبعينيات عندما كانت السياسات الاقتصادية تعتمد على التخطيط المركزي ودعم القطاع الصناعي.
ورغم زيادة دور القطاع الخاص، إلا أنه لم يتمكن من ملء الفراغ الذي تركته الدولة. حيث استثمر رجال الأعمال السوريون بشكل رئيسي في القطاعات ذات العوائد السريعة مثل العقارات والخدمات، بدلاً من الاستثمار في القطاعات الإنتاجية طويلة الأجل مثل الصناعة أو التكنولوجيا.
في افتتاحية العدد 397 للعام 2009، أكدت «قاسيون»: «كيف يمكن حماية الزراعة والصناعة في الظروف الحالية دون سياسات حمائية وتحفيزية وتشجيعية؟ هل يمكن حماية الزراعة والصناعة بسيل البضائع التي تتدفق من الخارج دون أي ضوابط أو حواجز حقيقية؟ ألن يؤدي ذلك إلى خروج مئات الآلاف من المرتبطين بالعملية الإنتاجية إلى خارج دائرة الإنتاج نفسه؟».
النتيجة المنطقية: اتساع الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء
ساهمت السياسات الاقتصادية في زيادة التناقض بين الأغنياء والفقراء. فبينما استفادت النخبة الاقتصادية والفساد الكبير من تحرير السوق والسياسات الضريبية التي خفضت العبء على الشركات، تحملت الفئات الفقيرة العبء الأكبر من الضرائب غير المباشرة وارتفاع الأسعار. ويكفي أن نذكر هنا أن الحكومة خفضت معدلات الضرائب على أرباح الشركات بشكل كبير من 63% في 2003 إلى 15-27% في عام 2005، وهي من بين أدنى المعدلات عالمياً.
في المقابل، شهدت حصة الأجور الحقيقية من الناتج المحلي الإجمالي انخفاضاً واضحاً خلال الفترة بين عامي 2000 و2010: في عام 2000، شكلت الأجور 32% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن بحلول عام 2010، انخفضت هذه النسبة إلى 25% فقط، مما يعكس تقلص حصة العمال والموظفين في الاقتصاد الوطني.
ووفقاً لأرقام البنك الدولي، قامت الحكومة السورية بخلق أموال إضافية بقيمة 26.5 مليار دولار بين عامي 2000 و2010. ومن إجمالي هذا المبلغ، ذهب 4.9 مليار دولار فقط لدفع الأجور، أي أقل من خمس القيمة الإجمالية. بينما استحوذ رجال الأعمال والنخب الاقتصادية الكبرى على النصيب الأكبر من الأموال التي استُخدمت لتضخيم أصولهم وتحقيق مكاسب من خلال المضاربات وتحويل الأموال إلى الدولار.
باختصار، كانت السياسات الاقتصادية السورية بين عامي 2000 و2010 أحد الأسباب الرئيسية التي مهدت الطريق لانفجار الأزمة. فبدلاً من تحقيق «التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية» التي كانت الشعارات المرفوعة في تلك المرحلة، ساهمت هذه السياسات في زيادة الاحتقان الاقتصادي الاجتماعي وتدهور البنية الإنتاجية وتفاقم الفقر والبطالة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1202