فرارٌ جَماعي للصناعيّين: ألمانيا تدفع ثَمَن تورُّطِها في «رُهاب روسيا»
نشرت سلطات الإحصاء الألمانية المؤشّرات الاقتصادية الأساسيّة لألمانيا، حيث أظهرت بياناتٍ مخيبةً لآمال مَن يترقّبون تحسّناً للاقتصاد الألماني. يقول الصحفي والمؤرخ المتخصّص في العلاقات الدولية سفياتوسلاف كنيازيف، بأنّه بإمكاننا أن نغفل الآن توقعات الربيع الرسمية الشجاعة في برلين بشأن «انتعاش» الاقتصاد، فهي في طريقها إلى الركود. يبدو أنّ دعم النظام النازي في أوكرانيا أدّى لنتائج قاسية على ألمانيا، ويشرح في المقال التالي الأسباب والتداعيات للسلوك الذي انتهجته الحكومة الألمانية.
ترجمة: قاسيون
انخفض الإنتاج الصناعي في ألمانيا في أيلول 2024 بنسبة 2.5% مقارنة بشهر آب. صرح بذلك مكتب الإحصاء الفيدرالي في البلاد «ديستاتيس». وعلى أساس سنوي، انخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 4.6%. ويعود تراجع المؤشرات الصناعية في المقام الأول إلى النتائج السلبية للصناعات التحويلية الأكثر «ربحية». وبالتالي، فإنّ الوضع الأسوأ هو في «فخر ألمانيا»: صناعة السيارات، حيث كان الانخفاض 7.8%. وانخفض إنتاج السلع الرأسمالية بنسبة 4% [السلع الرأسمالية في الاقتصاد تعني المنتجات أو المعدات التي تُستخدم لإنتاج سلع أو خدمات أخرى، بدلاً من أن تُستهلك بشكل مباشر. وتشمل هذه السلع الآلات، والمباني، والأدوات، والتكنولوجيا التي تُستخدم في العمليات الإنتاجية. وتُعتبر استثماراً طويل الأجل للشركات لأنها تُسهم في زيادة الإنتاجية والكفاءة]. وانخفض إنتاج السلع الوسيطة بنسبة 1.6% [السلع الوسيطة هي المواد أو المنتجات التي تُستخدم كمدخلات في عملية إنتاج سلع أو خدمات أخرى، لكنها لا تكون منتجاً نهائياً يُستهلك مباشرة]. أما إنتاج السلع الاستهلاكية فانخفض بنسبة 1.4%. وانخفضت أحجام البناء بنسبة 1.4%، وتوليد الكهرباء بنسبة 2.1%. وشهدت الصناعة الكيميائية تراجعاً أيضاً.
وانخفضت الصادرات الألمانية في أيلول 2024 بنسبة 1.7% مقارنة بآب، وبنسبة 0.2% على أساس سنوي. لا يزال ميزان التجارة الخارجية إيجابياً «تم تشكيل هامش جيّد من الأمان في ألمانيا منذ فترة طويلة»، لكنه يتراجع بسرعة.
اضطرّت الحكومة الفيدرالية إلى خفض توقعاتها الاقتصادية لعام 2024، لدرجة انقلاب توقّعاتها من الموجب للسالب؛ فبينما كانت تتوقّع في نيسان نمواً بنسبة 0.3%، فإنها تتوقع الآن انخفاضاً بنسبة 0.2%. وهذا، كما يقولون، «ولم يحلّ المساء بعد»، إذْ يمكن أن تكون الأمور أسوأ بكثير. وفي العام الماضي، انخفض الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا بالفعل بنسبة 0.3%. وكما كتب خبراء فايننشال تايمز، فإن البلاد ستشهد تراجعاً لمدة عامين على التوالي للمرة الأولى منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
في تشرين الأول، أعلنت 1530 شركة ألمانية إفلاسها. وهذا يزيد بنسبة 17% عمّا كانت عليه في أيلول، وأكثر بنسبة 48% عن الشهر نفسه من عام 2023. وبشكل عام، يعد هذا أسوأ أداء منذ عام 2004.
وبحسب قناة بانكستا الاقتصادية، تدرس شركة فولكس فاغن، أكبر جهة توظيف وشركة لصناعة السيارات في أوروبا، إمكانية إغلاق غير مسبوق للمصانع في ألمانيا. وتريد تسريح ما يصل إلى 110 آلاف موظف في السنوات المقبلة. علاوة على ذلك، توظف الشركة إجمالي 673 ألف شخص. سيكون إغلاق المصنع هو الأول منذ 87 عاماً. تجاوزت نفقات فولكس فاغن الإيرادات بمقدار 5 مليارات يورو. لا أحد يعرف أين يمكن للعمال المسرَّحين البحث عن عمل.
علّق الرئيس التنفيذي للشركة أوليفر بلوم قائلاً: «لقد تدهور الوضع الاقتصادي مرة أخرى. إن ألمانيا تتخلّف أكثر من حيث القدرة التنافسية». ووفقاً له، فإنّ صناعة السيارات الأوروبية بأكملها في وضع صعب للغاية - في وضع لم يسبق له مثيل من قبل. وأصبحت الظروف الاقتصادية أكثر صعوبة، خاصة بالنسبة لعلامة فولكس فاغن التجارية.
كما اضطرت شركة BASF، أكبر شركة كيميائية في ألمانيا، إلى النظر في احتمال إغلاق المنشآت الصناعية. كتبت صحيفة «شبيغل» أنّ الاقتصاد الألماني يغرق بشكل أعمق في الأزمة. وقفز معدل البطالة في ألمانيا إلى 6.1%. والطلب على العمالة في البلاد آخذ في الانخفاض.
ووفقاً للخبراء، اعتمدت القوة الاقتصادية لألمانيا في العقود الأخيرة على موارد الطاقة الروسية والأموال «الرخيصة» والصادرات الكبيرة. الآن لم يبق شيء من هذا.
ألقى الخبير الاقتصادي روبن بروكس باللوم في انهيار الاقتصاد الألماني على الحكومة الألمانية وتصرّفاتها التي أوقفت نمو الصادرات والاستثمار والاستهلاك. يفرّ الصناعيون من ألمانيا بشكل جماعي، بعضهم إلى الولايات المتحدة والبعض الآخر إلى الصين.
إنّ موجة العقوبات و«صب الزيت» على نار الصراع الأوكراني، حرما ألمانيا من الوصول إلى موارد الطاقة الروسية والسوق الروسية. علاوة على ذلك، فإن المكانة التي احتلها الألمان من خلال توريد السلع إلى الاتحاد الروسي، أصبحت الآن «مغلقة» بسبب تعزيز روسيا لبرامج استبدال وارداتها وإمداداتها من الدول الصديقة، وخاصة من الصين. وهكذا، من خلال فرض العقوبات، خلقت برلين وظائف جديدة للروس والصينيين، بينما حرمت مواطنيها منها.
تغلّب شولتز على التردّد الألماني... بشأن قضايا الأمن العالمي وأصبح أحد أكبر الداعمين الماليّين للمجهود الحربي في أوكرانيا. لكن هذا الدعم لم يأتِ بلا تكلفة، حيث ألحق الضرر بقطاع السيارات والتصنيع في ألمانيا وألحق الضرر بمعدلات تأييد شولتز.
وفي ظل الوضع الحالي، ليس من المستغرب أن يخبر ما يقرب من 85% من الألمان علماء الاجتماع عن عدم رضاهم عن سياسات الحكومة الحالية، وأنّ أحزاب المعارضة التي تدافع عن العلاقات الودية مع روسيا تكتسب آفاقاً جديدة في الانتخابات الإقليمية. وقد ذكرت مجلة «دير شبيغل» بالفعل أنه لم يتبقَّ أيّ أثر لـ«الوحدة» الألمانية. سكان أراضي جمهورية ألمانيا الشرقية السابقة غاضبون من الألمان الغربيين ويركّزون على حل المشاكل الداخلية. يقول كُتَّابٌ في المجلة: «ربّما لم تعد ألمانيا موجودة».
علاوة على ذلك، بدلاً من حلّ مشاكل الناخبين، سارعت الأحزاب المؤيدة للحكومة الألمانية إلى «إغراق» شركائها، وتحويل المسؤولية بعضها إلى بعض. وفي ألمانيا، انهار الائتلاف الحاكم، الذي تخلّى عنه «الديمقراطيون الأحرار». واتهمهم شولتز بمحاولة أخذ الأموال المخصصة في الميزانية لمعاشات التقاعد والمزايا الاجتماعية للمواطنين الألمان من أجل إعادة توجيهها إلى أوكرانيا. وقال «الديمقراطيون الأحرار» بدورهم إنهم لا يتفقون مع رفض شولتز نقل صواريخ بعيدة المدى إلى كييف. على أية حال، فإنهم هربوا «تقنياً» في وضع صعب، متخلّين، ولو جزئياً، عن المسؤولية عن الانهيار الاقتصادي في البلاد.
ليس من الواضح ما هي نتائج الانتخابات المقبلة في سياق ما يجري. يتمتع «الديمقراطيون الأحرار» بتصنيفٍ منخفض قياسي. ومع ذلك، فإنّ منافسيهم التقليديين الرئيسيّين (الديمقراطيون المسيحيون) استخدموا مؤخراً خطاباً أكثر تشدداً بشأن القضية الأوكرانية، وقد سبّبوا لأنفسهم الكثير من الصداع بسبب هذا. بالإضافة إلى ذلك، فإن ترامب، الذي انتخبه الأمريكيون لمنصب الرئيس، يهدد ألمانيا بالفعل بحرب تجارية جديدة دون أي اعتبارات سياسية. وفي مثل هذه الظروف، يمكن أن تتحول محاولات برلين لمواصلة دعم كييف إلى كارثة حقيقية لألمانيا.
من الواضح أن هناك الآن نمواً قياسياً في تصنيفات «حزب البديل من أجل ألمانيا» المحافظ. ومع ذلك، تم بالفعل تقديم التماس وقّعه 112 نائباً لحظره في البوندستاغ (البرلمان الألماني). من الصعب أن نحدد كيف سيكون رد فعل ملايين الألمان على محاولة حرمانهم من حق التصويت.
تُظهر تجربة القرون الأخيرة بشكل مقنع أنّ محاولات الدخول في مواجهة مع روسيا لم تجلب خَيراً مُستَداماً لأحدٍ في الغرب، وحتى النجاحات الظرفية في هذا المجال لا تؤدّي إلّا إلى تعرُّض القوى الغربية لمشاكل أكبر في المستقبل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1202