سورية والجوع: كيف غيّرت الحرب وما سبقها ملامح الزراعة في سورية؟
كان الأمن الغذائي تحدياً استراتيجياً طويل الأمد بالنسبة لسورية على مرّ تاريخها، وهو يعكس ليس فقط قدرة البلاد على إنتاج غذائها محلياً بل أيضاً على تعزيز سيادتها الوطنية. ومنذ الخمسينيات من القرن الماضي، اعتمدت سورية سياسات زراعية تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، مما جعلها واحدة من أكثر الدول استقراراً في منطقة شرق المتوسط من حيث الإمدادات الغذائية. وفي التسعينيات، تمكنت سورية - وفقاً للمعطيات المعلنة - من تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل في إنتاج القمح، وهو المحصول الأساسي الذي اعتُبر ركيزة الأمن الغذائي الوطني. لكن مع دخول الألفية الجديدة، واجهت الزراعة السورية تحديات متزايدة نتيجة التحولات الاقتصادية نحو النيوليبرالية، وضعف البنية التحتية المائية، والجفاف الذي ضرب البلاد في الفترة ما بين 2006 و2010.
أدت العوامل السابقة إلى أزمة غذائية داخلية غير مسبوقة، وذلك حتى قبل انفجار الأزمة السورية في عام 2011. ومع تحول الأزمة إلى الشكل العسكري، كان الغذاء السوري على لائحة أكثر قطاعات الاقتصاد تعرضاً للضرر، وهو ما انعكس في التقارير الدولية الدورية التي تثبت ارتفاعاً غير مسبوق في مستويات انعدام الأمن الغذائي في البلاد، وانضمام مجموعات جديدة من السكان في كل عام إلى عداد المعرضين للخطر الغذائي بشكلٍ خاص.
الأمن الغذائي بعد الاستقلال وتمكين الزراعة
تعود جذور السياسات الزراعية الشاملة في سورية خلال القرن الماضي إلى عقدي الخمسينيات والستينيات، عندما تبنت الحكومات السورية برامج شاملة لما يسمى بالإصلاح الزراعي، ركزت على توزيع الأراضي وتنظيم استخدام الموارد المائية، واستكمال العمل على مشاريع كبرى مثل مشروع الفرات الذي كان حجر الزاوية في الاستراتيجية الزراعية للدولة السورية.
خلال تلك الفترة، تمكنت سورية من تحويل الزراعة إلى أحد محركات الاقتصاد الوطني. كانت مشاريع الري المدعومة من الدولة، إلى جانب تحسين البذور المحلية، من أهم عوامل تعزيز إنتاجية المحاصيل. على سبيل المثال، أدى تحسين بذور القمح بالتعاون مع مركز الأبحاث الدولية في المناطق الجافة (ICARDA) إلى زيادة غلة القمح بشكل كبير. كما قدمت الحكومة دعماً كبيراً للمزارعين من خلال توفير الأسمدة المدعومة والوقود بأسعار منخفضة.
بناءً عليه، شكلت الزراعة في السبعينيات والثمانينيات حوالي ربع الناتج المحلي الإجمالي لسورية، ثم توقف النمو في هذا القطاع تقريباً خلال السنوات اللاحقة، حيث ساهمت الزراعة بنسبة 27% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2001، ووظفت حوالي 17% من القوة العاملة.
السنوات العجاف: قحط الجفاف وقحط النيوليبرالية
في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة، دخلت سورية مرحلة جديدة من التحولات الاقتصادية التي ركزت على تقليل تدخل الدولة في الاقتصاد، وتعزيز دور القطاع الخاص. وكان لهذه السياسات تأثير سلبي على القطاع الزراعي بشكلٍ فائق.
وأحد الأمثلة البارزة على هذه السياسات كان إصدار القانون رقم 56 لعام 2004، الذي سمح لأصحاب الأراضي بإنهاء عقود المزارعين وإبرام عقود مؤقتة بدلاً منها. حيث أدى هذا القانون إلى فقدان الفلاحين لحقوقهم التاريخية في العمل على الأراضي، مما تسبب في نزوح عدد كبير منهم من المناطق الريفية إلى المدن. وتشير التقديرات إلى أن عدد العمال الزراعيين انخفض بنسبة 40% بين عامي 2002 و2008 بسبب سوء إدارة الأراضي والمياه، وهو تحول أثر بشكل كبير على الإنتاج الزراعي المحلي.
في الوقت نفسه، ضرب البلاد جفاف شديد بين عامي 2006 و2010، مما تسبب في واحدة من أسوأ الأزمات الزراعية في تاريخ سورية الحديث. انخفض إنتاج القمح بنسبة 47%، بينما شهد إنتاج الشعير انخفاضاً أكبر بنسبة 67%. وفي المناطق غير المروية، كان الوضع أكثر كارثية حيث انخفض الإنتاج بنسبة 82%، ولم تكن الحكومة - وفق تقاريرها الرسمية - قادرة على تلبية احتياجات السكان الغذائية بشكلٍ كامل، واضطرت سورية لأول مرة في تاريخها إلى الاعتماد على المساعدات الغذائية الدولية، حيث تلقى مليون شخص دعماً غذائياً من وكالات الأمم المتحدة.
قبل الحرب، كانت سورية تنتج حوالي 4 ملايين طن من القمح سنوياً، وهو ما يكفي لتلبية الاستهلاك المحلي وتصدير فائض يبلغ حوالي 1.5 مليون طن إلى دول مثل الجزائر وتونس وإيطاليا. ومع انفجار الأزمة، انخفض الإنتاج بشكل حاد إلى 1.8 مليون طن في 2014. والأمر لم يتوقف عند القمح، فقد انخفض إنتاج الشعير من 747 ألف طن في المتوسط بين 2010-2014 إلى 594 ألف طن في 2014. أما إنتاج الذرة، فقد تراجع أيضاً بنسبة 15% خلال الفترة ذاتها.
استنزاف للمياه وتفاقم في الأضرار البيئية
تعد الموارد المائية واحدة من أهم المكونات الأساسية لتحقيق الأمن الغذائي. وفي سورية، تأثرت السياسات المائية بعوامل جغرافية وسياسية واجتماعية. منذ الخمسينيات، ركزت الحكومات على مشاريع الري الكبرى مثل مشروع الفرات، الذي ساهم في تحويل المناطق الصحراوية في الجزيرة إلى أراضٍ زراعية منتجة. ومع ذلك، أدى الاستخدام المفرط للموارد المائية إلى استنزاف الأحواض الجوفية.
في عام 2007، استهلكت سورية 19.2 مليار متر مكعب من المياه، وهو ما يزيد بـ 3.5 مليار متر مكعب عن معدل التجدد الطبيعي للمياه. كما أن اعتماد الري على الآبار غير المرخصة أدى إلى استنزاف خطير للموارد المائية. على سبيل المثال، جف نهر الخابور، أحد الأنهار التاريخية في سورية، بحلول عام 2001. وهذا الاستنزاف غير المستدام للموارد المائية كان له تأثير مباشر على الإنتاج الزراعي، وأدى إلى تقليل المساحات المزروعة مع مرور الوقت.
وبالإضافة إلى الجفاف، عانت سورية من تدهور التربة بسبب الاستخدام المكثف للأسمدة والممارسات الزراعية غير المنظمة. وفي المناطق الشمالية الشرقية، أدى سوء إدارة مشاريع الري إلى تملح الأراضي، مما جعل مساحات شاسعة غير صالحة للزراعة. كما ساهم تغير المناخ العالمي في جعل الظواهر الطبيعية مثل الجفاف أكثر حدة وتكراراً.
ومع بداية الحرب، تفاقمت هذه التحديات البيئية. حيث تضررت الأنظمة البيئية بشكل كبير بسبب عمليات القصف المتبادل، وحرق المحاصيل في أوقات مختلفة، وعمليات نزوح السكان. كما أن التلوث الناجم عن استخدام المياه الملوثة في الري أدى إلى تفشي الأمراض المنقولة عن طريق الغذاء. وفي الكثير من المناطق الريفية، اضطر المزارعون إلى تقليل استخدام الأسمدة والمبيدات بسبب ارتفاع أسعارها ونقص توافرها، مما أدى إلى انخفاض غلة المحاصيل.
التهجير والنزوح كنتيجة لتضرر الزراعة
منذ عقود، كانت المناطق الريفية تعتمد على الزراعة كمصدر رئيسي للدخل. لكن مع تراجع الإنتاج الزراعي بسبب السياسات النيوليبرالية والجفاف والحرب، ارتفعت معدلات الفقر بشكل حاد في الريف السوري. في منطقة الجزيرة، التي كانت تُعد «سلة غذاء سورية»، وصل معدل الفقر إلى 80% بحلول عام 2010، أي قبل الحرب مباشرة. وتسببت هذه الأزمة في نزوح جماعي للسكان من المناطق الريفية المتضررة إلى المدن الكبرى مثل دمشق وحلب. وتشير تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية الصادرة في عام 2009، إلى أن نحو 300,000 عائلة نزحت من منطقة الجزيرة إلى ضواحي المدن السورية وإلى لبنان، حيث واجهوا ظروفاً معيشية صعبة.
قبل الحرب، كانت منطقة الجزيرة السورية تنتج حوالي ثلثي القمح السوري. لكن الصراع دمّر البنية التحتية للري، وأدى إلى تعطيل سلاسل الإمداد الغذائي. وأصبحت تكاليف نقل القمح من الجزيرة إلى دمشق باهظة جداً، حيث ارتفعت من 130 دولاراً للطن الواحد قبل الحرب إلى حوالي 310 دولارات وبشكلٍ خاص بسبب الإتاوات التي فرضت على عمليات النقل. وشكل هذا الأمر ذريعة للنخب الاقتصادية للانتقال نحو استيراد القمح من الخارج بوصفه «أرخص نسبياً».
الخسائر لا يمكن تعويضها إلا بالتغيير الجذري
بالإضافة إلى الدمار الذي لحق بالبنية التحتية الزراعية، تعاني سورية من تحديات بنيوية في قطاع الزراعة. حيث تشير التقديرات إلى أن نحو 40% من القوى العاملة الزراعية قد فُقدت منذ بداية القرن الحادي والعشرين، بينما انخفض عدد المواشي بشكل كبير. على سبيل المثال، انخفض عدد الأغنام من 15 مليوناً إلى حوالي 9 ملايين فقط. وفي الوقت نفسه، أدى الحفر العشوائي للآبار إلى استنزاف خطير للمياه الجوفية، مما يهدد استدامة الزراعة على المدى الطويل.
وأدت الحرب إلى تدمير واسع النطاق للبنية التحتية الزراعية. فمن بين 140 صومعة حبوب كانت موجودة قبل الحرب، لم يتبق سوى 22 صومعة تعمل بحلول عام 2016. كما فقدت البلاد 70% من قدراتها في طحن الحبوب نتيجة الحرب ونهب المعدات. إضافة إلى ذلك، تضررت مشاريع الري بشكل كبير، حيث أصبح حوالي 50% من الأراضي المروية غير صالحة للزراعة بسبب نقص الوقود وتعطل المضخات.
فوق ذلك، تشير تقارير منظمة الأغذية والزراعة (FAO) إلى أن إنتاجية الأراضي المزروعة تراجعت بنسب تصل إلى 50% في بعض المناطق، بسبب نقص البذور والأسمدة.
واليوم، تتفق معظم البحوث الاقتصادية في العالم حول أن إعادة بناء القطاع الزراعي في سورية تتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية والتغيير الجذري في السياسات بما فيها السياسات الزراعية. ومن الضروري أولاً وقبل أي شيء تعزيز الدعم الحكومي للمزارعين وتطوير تقنيات الزراعة المستخدمة للتغلب على التحديات البيئية والاقتصادية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1203