شعبوية حكومية في خدمة رأس المال: بيع قطاعات الدولة بذريعة «العائدية»
لا تزال تتفاعل التصريحات التي أطلقتها رئاسة الوزراء في سورية خلال الجلسة الأسبوعية يوم الثلاثاء 2024/10/8، حيث شدد رئيس الوزراء على أن السياسات الاقتصادية يجب أن تعتمد على «الجدوى» و«العائدية» كأساس لاتخاذ القرارات على المستوى الوطني. وترافق ذلك مع انتقاد مباشر لما أسماه «الشعبوية» التي فسرها البعض بأنها «اتخاذ قرارات اقتصادية ترضي المطالب الشعبية دون تحقيق جدوى اقتصادية فعلية». فهل تبرر الحكومة بهذه التصريحات قرارات جديدة متسارعة تصب في مصلحة رأس المال على حساب الناس؟ في هذا المقال، سنتطرق لهذه الإشكالية ونقيّم وضع «الجدوى» و«العائدية» في الاقتصاد السوري منذ ما قبل مطلع الألفية الحالية.
تأتي تصريحات رئيس الوزراء السوري في ظل أزمة اقتصادية خانقة تمر بها البلاد نتيجة الحرب الطويلة وتدهور البنية التحتية ونهب الفساد الكبير المتواصل والمضي قدماً في تصفية قطاعات الدولة الواحد تلو الآخر. ومن خلال هذه التصريحات، يبدو أن الحكومة تحاول إضفاء الشرعية على المزيد من القرارات المنتظرة في هذا المسار، محاولةً في الوقت ذاته تبرير تخفيض الدعم والحد من الإنفاق الاجتماعي على أساس الفكرة القائلة بأنه «لا يحقق الجدوى الاقتصادية المطلوبة».
«الجدوى» و«العائدية» كمحددات رئيسية
عند الحديث عن «الجدوى» و«العائدية»، فإن أول ما ينبغي لفت النظر إليه هو وجوب التفريق بين مستويين: مستوى الاقتصاد الجزئي (الميكرو) ومستوى الاقتصاد الكلي (الماكرو). فعلى مستوى الاقتصاد الجزئي، تكون الجدوى واضحة ومباشرة، فهي تتعلق بربحية المشاريع الفردية أو القرارات الاقتصادية المحددة. على سبيل المثال، إن مشروع بناء مركز تجاري أو زيادة الإنتاج في قطاع معين قد يبدو مجدياً وذو عائدية مرجوة إذا حقق أرباحاً سريعة. أما على مستوى الاقتصاد الكلي، فتقييم العائدية يقتضي النظر إلى التأثير الشامل للمشاريع الاقتصادية على المستوى الوطني كله. هل هذه المشاريع ستخلق فرص عمل مستدامة؟ هل ستؤدي إلى تحسين مستوى التعليم أو الصحة مثلاً؟ هذه الأسئلة هي التي يجب أن تطرح عند الحديث عن «العائدية» في الاقتصاد الكلي، وهي بعيدة عن معايير الربحية المؤقتة ضيقة الأفق.
والإشكالية التي تثيرها تصريحات رئيس الوزراء هي فكرة أن «الجدوى» و«العائدية» يجب أن تكونا المعيار الحاسم لاتخاذ القرارات الاقتصادية الوطنية. وبالنظر إلى السياق الكامل للأداء الاقتصادي السوري، وما نعرفه من توجهات حكومية، يبدو واضحاً أن المقصود في التصريحات الحكومية الأخيرة هو العمل لتغليب معايير «الجدوى» و«العائدية» بمعناهما الاقتصادي الجزئي والمباشر، أي الربحية السريعة والنتائج المالية المباشرة، وهو ما يتسق مع التوجهات الرسمية في البلاد لتصفية قطاعات الدولة وخصخصتها بزعم أن هذا كفيل برفع عائدية القطاعات التي تتم خصخصتها.
حول أرقام النمو والاستثمار وانخفاض العائدية
وفقاً لبيانات المكتب المركزي للإحصاء، ولأرقام البنك الدولي، كانت نسبة النمو في الناتج المحلي الإجمالي السوري تبلغ معدّل 4.3% سنوياً بين عامي 2000 و2010 (الملفت أن معدّل التضخم السنوي كان أكبر من ذلك، وبلغ وسطياً 4.9%).
وللمفارقة، فقد توازت نسب النمو المنخفضة هذه خلال السنوات 2000 -2010، مع ارتفاعٍ في معدلات الاستثمار: حيث شكّل الاستثمار نسبة 18.3% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2000، وارتفع إلى 19.4% في عام 2001، وواصل ارتفاعه ليزيد عن 24% في أعوام 2007 و2008 و2009. وهذا ما يدفع للسؤال: لماذا ظلت نسب النمو عند مستواها المتدني والمتقارب عبر السنوات، بينما كانت نسب الاستثمار المعلنة في ازديادٍ دائم؟ ولماذا لم تنعكس زيادة نسب الاستثمار هذه ارتفاعاً في نسب النمو الاقتصادي؟
الإجابة البديهية عن السؤال هي أن ارتفاع نسب الاستثمار لن تؤدي بطبيعة الحال إلى ارتفاعٍ في نسب النمو الاقتصادي في ظل العائدية المنخفضة لليرة السورية في الاستثمارات. وقبل الخوض في الأسباب الحقيقية لانخفاض عائدية الاستثمار حالياً في سورية، يجب أن نلقي نظرة على وضع هذه العائدية في الاقتصاد السوري تاريخياً، وهل كانت عالقة دائماً عند حدود النسب الضئيلة التي هي عليها اليوم؟
وفقاً للمتوافر من معلومات اقتصادية، فإن نسبة العائدية وصلت في أحسن أحوالها إلى 42% وذلك في الخطة الخمسية الرابعة (من عام 1971 إلى عام 1975). وبدأت هذه النسبة بالانخفاض التدريجي حتى وصلت إلى حدود 34% وسطياً بين أعوام 1990-1996، ثم انخفضت إلى نحو 29% وسطياً بين أعوام 1997-2003، وصولاً إلى 20% وسطياً بين أعوام 2004-2010، وما نعرفه عن سنوات انفجار الأزمة في سورية أن عائدية الاستثمار في الاقتصاد السوري وصلت في عام 2015 إلى نسبة تقارب نسبة 11.6%، وهي بالتأكيد اليوم أقل من ذلك.
السؤال الأساسي: لماذا نسبة العائدية منخفضة في سورية؟
هنالك في البلاد اليوم من يحاول أن يبسط الإجابة عن هذا السؤال - سواء عن حسن نية أو سوئها - زاعماً أن سبب انخفاض عائدية رأس المال في سورية هو وجود قطاع الدولة والبيروقراطية التي تحكم عمله، في محاولة لتشتيت الانتباه عن السبب الحقيقي الفعلي، وهو الفاقد الاقتصادي بسبب عمليات النهب الكبير التي يتعرض لها الاقتصاد السوري والقطاع العام خصوصاً الذي يشكل عصب الاقتصاد الوطني.
وتصل التقديرات إلى أن حجم هذا الفاقد كان يعادل نحو 30% من الدخل الوطني في سبعينيات القرن الماضي، وظل يرتفع حجمه من ذلك الحين حتى يومنا هذا إلى نسبٍ يمكن تقديرها بما بين 60-70% من الدخل الوطني.
ويؤثر هذا الفاقد الاقتصادي (الذي يشكل النهب الكبير محوره الأساسي، ويقارب نسبة 80% منه) بشكلٍ مباشر على عائدية رأس المال الموظف في الاقتصاد الوطني، ولهذا يمكن القول إنه لن يكون بالإمكان رفع نسب النمو دون رفع عائدية رأس المال الموظف، ولا يمكن رفع عائدية رأس المال الموظف ما لم يجرِ اجتثاث الفساد الكبير، وعليه، يبدو جلياً أن مسألة رفع نسب النمو في الاقتصاد الوطني ليست مسألة اقتصادية بحتة ولا تقنية، بل مسألة قرار سياسي ووطني أولاً وآخراً.
وبناءً عليه، فإن أي حديث عن النمو في سورية لا يصحّ ما لم يقترن بتغيير النموذج الاقتصادي القائم تغييراً جذرياً، والانتقال إلى نموذج اقتصادي جديد قادر على إنجاز مهمة النمو. وبطبيعة الحال، فإن النموذج المطلوب مخالف تماماً للنموذج القائم على تحميل القطاع العام مسؤولية ما وصل إليه الاقتصاد السوري من تدهور.
وما تعتبره الحكومة «جديداً» و«كسراً للمحرمات» في الحديث حول التخلي عن دور الدولة في قطاعات الاقتصاد الوطني، ولا سيما الصناعة، شاهدنا جميعاً نتائجه الملموسة في التجارب المشابهة في دول أوروبا الشرقية ومنطقتنا، حيث تلازم تطبيق الوصفات الليبرالية مع انخفاض نسب النمو إلى ما دون الصفر.
في ضوء ما سبق، يمكن القول: إن حديث الحكومة عن «الشعبوية» في السياسات الاقتصادية وتوخيها تحقيق «الجدوى» و«العائدية» ليس سوى نوع من الشعبوية نفسها لكنها موجهّة لمصلحة أصحاب الربح الكبير. إذ أن تجاهل المؤشرات الاقتصادية الحقيقية والواقع الاجتماعي المتدهور لمصلحة قرارات تخدم أصحاب الربح الكبير لا يعني شيئاً سوى توعّد الشعب السوري بمزيد من الإفقار والتهميش.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1197