لا «محرمات» بعد اليوم: سنصفي صناعات الحكومة ونكافح «الأيديولوجيا السلبية الجامدة»!

لا «محرمات» بعد اليوم: سنصفي صناعات الحكومة ونكافح «الأيديولوجيا السلبية الجامدة»!

منذ ما قبل انفجار الأزمة، كان من الواضح لدى الجميع في سورية أن أصحاب القرار يسيرون بخطى متسارعة نحو تصفية الاقتصاد الوطني، وبشكل خاص القطاعات الحيوية التي تشكِّل العمود الفقري للإنتاج الحقيقي في البلاد. في هذا الجو المستمر حتى اليوم، جاءت التصريحات الأخيرة لرئاسة مجلس الوزراء منسجمة مع هذا المسار، وموحية بتسريعه أكثر، داعية لـ«الجرأة الموضوعية» وكسر «المحرمات» والابتعاد عن «الأيديولوجيا السلبية الجامدة».

في إطار النقاش الذي جرى بين أعضاء الحكومة خلال الجلسة الأسبوعية يوم الثلاثاء 2024/10/8 حول موضوع وزارة الصناعة المتعلق بدمج كل من المؤسسة العامة للصناعات الهندسية والمؤسسة العامة للصناعات الكيميائية، كانت تصريحات رئيس مجلس الوزراء مثيرة للانتباه. فبعد نقاشٍ «تراوح بين التمسك التقليدي بدور القطاع العام من جهة، وضرورة خروج هذا القطاع من مثل هذه الصناعات من جهة أخرى»، أشار رئيس الوزراء إلى «ضرورة الابتعاد عن المحرّمات في طرح الأفكار والرؤى الحكومية»، وشدد على «ضرورة الجرأة الموضوعية في التعاطي مع كل الطروحات أياً كانت، سواء لجهة مقاربة الخروج من بعض القطاعات الصناعية أو تعزيز حضور القطاع الخاص فيها، في حال أظهرت دراسات الجدوى الاقتصادية وجود مصلحة وطنية عليا من خروج القطاع العام منها وتحويلها إلى القطاع الخاص، وفق المزايا النسبية لكل من القطاعين».
وأضاف إن «موضوع شعبوية القرارات الحكومية لن يكون ضمن دائرة معايير تقييم كفاءة هذه القرارات، فمعيار كفاءة القرارات يتوقف على جدواها وعائديتها، من منظور شمولي وطني أولاً ومن منظور إستراتيجي ثانياً... يجب أن نتعامل مع القطاع الخاص بعين مجردة موضوعية بعيداً عن الأيديولوجيا السلبية الجامدة، باعتبار هذا القطاع شريكاً حقيقياً في الاقتصاد الوطني في الواقع الراهن وشريكاً في تطويره، وليس مرشحاً فقط للاستثمار في المشاريع الخاسرة التي يريدها القطاع العام».

عن أية «محرمات» وأية «أيديولوجية» يجري الحديث؟

ليستقيم النقاش، لا بد لنا من «فك شيفرة» المصطلحات المستخدمة في هذه التصريحات: يدرك القاصي والداني في سورية أن التصريحات الرسمية - على الدوام وعلى مختلف مستوياتها - تميل لترسيخ انطباع زائف لدى السوريين مفاده أن الاقتصاد السوري كان يتمتع بهوية «اشتراكية»، ومن شواهد هذه الهوية المزعومة وجود تدخل كبير للدولة في الحياة الاقتصادية كان «يُحرِّم» خصخصة القطاعات الحكومية. وهذه الهوية وما تستلزمه من «مُحرَّمات» هي السبب - وفقاً للرواية - بتراجع الاقتصاد الوطني وعدم مرونته وبتحول القطاع العام إلى قطاع خاسر. واستناداً لهذه الرواية أيضاً، بتنا نسمع تصريحات متطابقة من حيث المعنى لكنها تتراوح في درجة وضوحها، فبعضها يرفض الهوية الاشتراكية المزعومة علناً ويحمِّلها تبعات ما وصل إليه الاقتصاد السوري من تدهور، وبعضها يتبنى الجوهر ذاته لكنه يحوِّل الحديث السابق عن «هوية اشتراكية» إلى «عباءة اشتراكية» لا ينبغي خلعها رغم «الخيارات الصعبة».
بناءً عليه، يتضح أن الحديث اليوم عن «الأيديولوجيا السلبية الجامدة» مقصودٌ منه «التطبيق الاشتراكي» المزعوم في سورية سابقاً، وأن الحديث عن «المحرَّمات» يُقصد به عمليات الخصخصة التي كانت - وفق هذا الزعم - «مكبوحة» في البلاد بفعل «هويتها الاشتراكية».
ناقشنا سابقاً على صفحات هذه الجريدة مسألة هوية الاقتصاد السوري مراراً. ولا بد من التذكير باختصار أن اقتصاد البلاد هو اقتصاد تهيمن عليه علاقات الإنتاج الرأسمالية التي يغلب عليها الطابع الطفيلي، ولا علاقة لحجم قطاع الدولة، سواء كان كبيراً أو صغيراً، بمسألة هوية الاقتصاد. فالسؤال الأساسي الذي يحدد هوية هذا الاقتصاد ليس أين يتم إنتاج الثروة فيه، بل كيف يتم توزيعها بين مختلف الطبقات. وإذا انطلقنا من نمط توزيع الثروة في سورية (وهو في أحسن الحالات 90% منه لأصحاب الربح، و10% لأصحاب الأجور) وأضفنا إليه التخلف والتشوه في شكل علاقات الإنتاج الرأسمالية السائدة، فسوف نصل إلى نتيجة بسيطة، وهي أن ما يسود بلادنا اليوم، من الناحية الاقتصادية، هو اقتصاد السوق المشوه، وأن كل ما يجري الحديث عنه اليوم مقصودٌ منه زيادة سرعة عمليات الخصخصة وتصفية ما تبقى من قطاعات حكومية.
سنتوقف عند هنا في الحديث عن هوية الاقتصاد السوري، وننتقل للمسألة موضوع النقاش:

«الجدوى الاقتصادية» و«الربح الأقصى»: هل تصحُّ كمعايير حكومية؟

خلافاً للانطباع الذي يجري تعميمه اليوم، لا تستند الفكرة القائلة بأن القطاع العام هو حجر الزاوية في الاقتصادات الوطنية إلى «العاطفة» والتمسك بـ«الماضي»، بل إلى نتائج كل من التجربة التاريخية والتجربة الاقتصادية الملموسة اليوم. فالقطاع العام - وبوصفه عامّاً، أي أقرب للعب الدور الاجتماعي - منوط به توفير الخدمات والسلع الأساسية الضرورية اجتماعياً بغض النظر عن مدى ربحيتها، أما الشركات الخاصة، بطبيعتها، تعطي الأولوية للربح الأقصى بغض النظر عن الضرورة الاجتماعية والمصلحة العامة.
وإحدى نقاط الاستناد في التصريح الحكومي المشار إليه آنفاً، هي أن دراسة «الجدوى الاقتصادية» لخصخصة بعض القطاعات ستكون هي المبدأ التوجيهي لصنع القرار، وهذه كارثة بحد ذاتها؛ عندما يجري نسف «المصلحة الاجتماعية» كنقطة انطلاق في صنع القرار ويستعاض عنها بـ«الجدوى الاقتصادية» تتحول الدولة إلى شركة ويعلو منطق الربح على حساب مصلحة الناس.
ويزداد هذا الوضع سوءاً عند تطبيقه على القطاع الصناعي. فهذا الأخير ليس مجرد محرك اقتصادي؛ بل هو ركيزة استراتيجية تدعم زيادة هامش الاستقرار الاقتصادي والتوظيف. وخصخصة القطاعات الأساسية في الصناعة تنطوي على مخاطر هائلة تؤدي إلى فقدان السيطرة الوطنية على الموارد والقدرات الرئيسية، وتجعل البلاد عرضة لتقلبات السوق ومصالح رأس المال والدوافع الربحية.

1196-25

وجدير بالذكر أن السعي الحكومي لتصفية قطاع الصناعة في سورية تكشف عنه الأرقام بوضوح: على سبيل المثال يمكن أن نذكر أنه خلال السنوات القليلة الماضية، وعلى نحوٍ مشابه لجميع قطاعات الاقتصاد السوري، انخفض الإنفاق الحكومي التقديري على قطاع الصناعات التحويلية في الموازنة العامة للدولة من حوالي 543 مليون دولار في عام 2003 إلى ما يقارب 105 مليون دولار في عام 2012، أما في موازنة 2021، فلم يتجاوز 27 مليون دولار، ليعاود الرقم الانخفاض بنسبة كبيرة جداً خلال عام واحد، ليصل في موازنة العام 2022 إلى 17,7 مليون دولار! بكلامٍ آخر، فإن الدولة اليوم تنفق على قطاع الصناعات التحويلية 3.2% مما كانت تنفقه على القطاع ذاته في عام 2003!
وعلى هذا النحو، شهدت سورية تراجعاً حاداً في إنتاج الأدوية، فبينما كانت تنتج ما يقارب 119,527,000 كبسولة و184,164,000 قرص و3,458,000 أمبولة و6,576,000 تحميلة و9,048,000 سيروم طبي في عام 2010، باتت في 2020 تنتج فقط 74,794,000 كبسولة، و114,549,000 قرص، بينما تداعى إنتاج الأمبولات والتحاميل والسيرومات الطبية إلى الصفر! وتراجع الإنتاج في مختلف فروع قطاع الكيماويات الحكومي بنسبٍ مشابهة، حيث انخفض إنتاج مساحيق المنظفات من 6,626 طن في 2010، إلى 268 طن فقط في 2020، وخلال الفترة ذاتها، تراجع إنتاج المنظفات السائلة من 1,316 طن إلى 414 طن فقط.
كما تُظهر الأمثلة التاريخية مخاطر خصخصة القطاع الصناعي دون النظر الواجب إلى المصالح الوطنية الطويلة الأجل. في روسيا خلال التسعينيات، أدت خصخصة الأصول الصناعية إلى تركيز الثروة في أيدي عدد قليل من الأوليغارشيين، بينما دفع باقي الشعب ثمن الانهيار الاقتصادي. كما أدى تفكيك الصناعات المملوكة للدولة إلى انخفاض الإنتاج الصناعي وزيادة البطالة وتآكل القدرات الصناعية الوطنية. وبالمثل، في الأرجنتين، حيث أدت خصخصة الصناعات مثل النفط والغاز إلى فقدان السيطرة على الموارد الطبيعية، مما أعاق في النهاية قدرة البلاد على إدارة سياساتها الاقتصادية والطاقة بشكل فعال وتجعلها في صدارة قائمة الدول المأزومة اقتصادياً ومالياً.

وراء الهجوم على «الأيديولوجيا السلبية»: موقف أيديولوجي!

بعيداً عن القول إن الدعوة إلى التجرد من «الأيديولوجيا السلبية الجامدة» هي بحد ذاتها موقف أيديولوجي يفترض أن القطاع الخاص، المدفوع بالربح وليس بالمصلحة العامة، هو الأكثر فاعلية، يجب أن نسأل: أين الأدلة على مثل هذه الفاعلية في سياقنا السوري؟ البراهين على تأرجح القطاع الخاص في البلاد أكثر من أن تحصى، وربما أكثرها وضوحاً هو ما جرى في سورية خلال الفترة بين 2010 و2022 وأثره على سياسات التوظيف، فجهاز الدولة - على علاته ومشاكله- شهد زيادة طفيفة بنسبة 6.46% في أعداد العاملين فيه، بينما تراجع عدد العاملين في القطاع الخاص بأكثر من 62% (حسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء).
وكان يمكن للسوريين أن يفهموا الهجوم الحكومي الأخير على «المعيار الشعبوي» في اتخاذ القرارات لو أن الطرح البديل المطروح هو إعلاء شأن «المعيار الشعبي» الحقيقي، لكن اختصار معيار فعالية القرارات في ربحيتها يعبر عن تجاهل فعلي للواقع المعيشي للشعب السوري. والربحية لمن؟ بالتأكيد ليست للعامل السوري الذي يبقى راتبه على ما هو عليه، بل ويتضاءل دورياً بفعل تراجع قيمته الحقيقية وقدرته الشرائية، ولا للمزارعين الذين يعانون من ارتفاع تكاليف المدخلات، ولا للتجار الصغار الذين تضغط عليهم الممارسات الاحتكارية لأصحاب النفوذ. المستفيدون من هذه الربحية هم كبار الفاسدين الذين يملكون القدرة على الاستفادة من «المشاريع الخاسرة» التي يراد سلبها من القطاع العام أي سلبها من الشعب السوري. وهذه الربحية ليست إلا تعبيراً عن مصالح فئة خاصة تنتظر بفارغ الصبر للاستيلاء على الممتلكات العامة التي تم بناؤها بعرق وجهد العاملين السوريين.
وبطبيعة الحال، الهدف مما نقوله هنا ليس الدفاع عن الوضع الحالي للقطاع العام السوري وجميع مشكلاته البنيوية التي يدركها السوريون جيداً، بل محاولة لتفكيك ذرائع من يريد إلحاق المزيد من الأضرار والمشاكل بهذا القطاع وصولاً إلى تصفيته تماماً على حساب السوريين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1196