السؤال الأساسي حول الدعم النقدي: هل سيُلغى فقر الأجور في سورية؟
لا تزال تتفاعل تبعات الإعلان الحكومي عن التوجه نحو الدعم النقدي كبديل عن الدعم الاستهلاكي الذي كان قائماً في سورية. فمنذ أن أعلنت الحكومة السورية رسمياً يوم الثلاثاء 25/6/2024 نيّتها البدء بعملية إلغاء الدعم الحكومي عن السلع والمواد الأساسية وتحويله إلى دعم نقدي «بشكل تدريجي»، شهد السوريون سيلاً من التحليلات الإعلامية والاقتصادية التي اتفقت بمعظمها على رفض هذا التوجه، ولكن أغلب التحليلات ظلت أسيرة المعالجة السطحية لظاهرة الدعم دون النفاذ إلى جوهرها.
قبل مناقشة سياسة التحول من الدعم الاستهلاكي إلى الدعم النقدي، ينبغي التأكيد على بعض النقاط الأساسية لفهم السياق العام لهذا التحول:
أولاً: ليس خافياً على أحد من السوريين أن السياسات العامة في البلاد - منذ ما قبل انفجار الأزمة عام 2011 بسنواتٍ عديدة - تسير في اتجاه إلغاء الدعم عبر تقليص مبالغ الدعم الحقيقية التي تقدمها الدولة للناس. والبرهان على ذلك حاضر في العديد من الأمثلة: كالانخفاض المتواصل في القيمة الفعلية للمبالغ المرصودة للدعم سنوياً (المبالغ المعلن عنها في الموازنات العامة للدولة كل عام)، وتضاؤل نسب الإنفاق الفعلي على الدعم الاجتماعي (في قطع موازنة عام 2022 مثلاً، وصلت نسبة المبالغ التي قالت الحكومة إنها ستنفقها على الدعم الاجتماعي ولم تنفقها فعلياً إلى نحو 40%). ذلك فضلاً عن إلغاء الدعم عن سلع ومواد أساسية بشكلٍ كامل، إما عبر إيقاف توزيعها عبر «البطاقة الذكية» وإما بالإعلان الرسمي عن إلغاء الدعم عنها.
ثانياً: في كل العمليات التي يقودها أصحاب القرار في البلاد للمضي في مسيرة إلغاء الدعم، يتذرعون دائماً بذريعتين: ارتفاع تكاليف الدعم الذي يعزز من عجز الموازنة، وضرورة «إيجاد أشكال أخرى» للدعم بهدف وضع حد للفساد المستشري في منظومة الدعم. وفي الحالتين، يتجاهل هؤلاء مسألتين أساسيتين: أولاً، أن الفساد يبدأ من المرحلة التي يتم فيها احتساب تكلفة المواد المدعومة، والتي يتم تضخيمها على نحو غير مبرر حتى بتنا نرى تصريحات متناقضة للمسؤولين حول تكلفة دعم بعض المواد وبفروقات شاسعة بين تصريح وآخر. وثانياً: أن العديد من الأصوات السورية أشارت ومنذ وقتٍ بعيد إلى أن تكاليف الدعم الاجتماعي يمكن تمويلها من مصادر إيرادات حقيقية غير تضخمية، وأن هذا ممكن في حال وجود قرار وإرادة سياسية لذلك، لكن رغم ذلك، ظل المسؤولون متمسكون بالذريعة ذاتها متجاهلين تلك الأصوات.
ثالثاً: قرار التحول نحو ما يسمى بالدعم النقدي صدر بطريقة غير واضحة، وكما تبيّن، فحتى المسؤولين الرسميين عاجزين عن تقديم تفسير متماسك له. حيث صدر القرار ليمثل ما يمكن تسميته بـ«إعلان نوايا» دون توضيح شيء، لا مبالغ الدعم نقداً ولا طريقة التنفيذ ولا أي تفصيل آخر من شأنه أن يضع المواطن بصورة التوجه «الجديد».
عودة إلى الأساسيات: لماذا نشأ الدعم في سورية؟
أول ما يلفت النظر أن الدعم في سورية نشأ منذ استقلالها رسمياً، وتوسّع في مرحلة أواخر خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي، ومنذ نشوئه وعلى امتداد مراحله تاريخياً كان الدعم تعبيراً عن أن الأجور التي يدفعها جهاز الدولة غير قادرة على تلبية مستوى المعيشة الضروري للمواطن. وجاء الدعم في حينه كي يعوّض هذا الانحراف الحاصل بين الأجور ومستوى المعيشة الضروري، فبدأت سياسات دعم تستهدف السلع الأساسية مثل الخبز والوقود والسكر، بالإضافة إلى تقديم خدمات صحية وتعليمية مجانية أو مدعومة بشكل كبير.
النقطة التي ينبغي توضيحها هنا هي أن فكرة الدعم في حينه لم تكن تهدف إلى تأمين الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة فقط، بل محاولة لتلبية مستوى المعيشة الضروري للمواطن. على سبيل المثال، فإن وسطي إيجار شقة في العاصمة دمشق في تلك الفترة كان يمثل نسبة بين (20% إلى 38%) من الحد الأدنى الرسمي للأجور في الفترة ذاتها، ومع ذلك كانت الأجور مدعومة. أما اليوم، فإن إيجار أي شقة في العشوائيات يمثل في أحسن الحالات ضعفين إلى ثلاثة أضعاف الحد الأدنى الرسمي للأجور كاملاً.
الدعم النقدي وفقر الأجور في سورية
الفكرة الجوهرية من الدعم إذاً هي تعويض للأجر حتى يتناسب مع مستوى المعيشة الضروري. والآن، مع إعلان التوجه الحكومي لإلغاء دعم المواد الأساسية والتوجه نحو «الدعم النقدي»، فإن اعتراف الناس بهذا الدعم النقدي مرهون بالاعتراف الرسمي بمستوى المعيشة الضروري، وإلا لن يعترف به أحد، ليس لأنه لن يعالج فقر الأجور في سورية فحسب، بل ولأنه سيخفِّض القيمة الحقيقية لهذه الأجور وقدرتها الشرائية وسيزيد من فقرها فقراً.
إذا كان دعم المواد الأساسية تاريخياً هو تعويض عن فقر الأجور. فإن إلغاء الدعم اليوم يجب أن يقترن بإلغاء فقر الأجور. وفقر الأجور لا يُلغى إلا بالاعتراف الرسمي بمستوى المعيشة الضروري للمواطن. والدعم النقدي لن يساوي شيئاً إن كان هو والأجر معاً لا يغطيان مستوى المعيشة الضروري.
الحد الأدنى.. وحدة قياس لسلم الأجور كاملاً
عند الحديث عن الحد الأدنى لتكاليف المعيشة، قد يسيء البعض فهم ذلك بأن الهدف المطلوب هو الوصول بالأجور عموماً لتلبية الحد الأدنى لتكاليف المعيشة كهدف نهائي، وهنا ينبغي التأكيد على أن هذا الحد ليس مجرد رقم ثابت يُحدد للأجر الأدنى، بل هو وحدة قياس لسلم الأجور كاملاً في المجتمع. فالهدف هو ضمان مستوى معيشي كريم للمواطنين، وليس فقط تأمين البقاء على قيد الحياة.
بعبارة أخرى، فإن الحد الأدنى هو المقياس الذي يمكننا من خلاله معرفة ما الذي يجب أن يكون عليه المستوى العام للأجور في البلاد. وعندما يتم رفع الحد الأدنى، فإن ذلك يعني بالضرورة تعديل الأجور في جميع المستويات الأخرى بما يتناسب مع هذا التغيير. وهذا الرفع الشامل يضمن أن جميع العمال، وليس فقط أولئك الذين يتقاضون الحد الأدنى، يتمتعون بتحسين في مستوى معيشتهم.
والهدف من رفع الحد الأدنى للأجور ليس فقط معالجة فقر الأجور في أسفل السلم، بل هو تحسين هيكلي لأجور ومعيشة المجتمع بأسره. فإذا كان الحد الأدنى للأجور يكفي بالكاد لتغطية نفقات المعيشة الأساسية، فإن هذا مؤشر على أن الأجور في المستويات الأعلى هي أيضاً غير كافية لتحقيق حياة كريمة.
لهذا، لا يمكن النظر إلى الحد الأدنى للأجور كهدف نهائي، بل كوسيلة لتحقيق هدف أكبر وهو الوصول إلى مستوى معيشي كريم للجميع. لذلك، فإن الهدف هو تحسين هذا الحد بشكل دوري ومدروس، لضمان أن تكون جميع الأجور عادلة وتعكس القيمة الحقيقية للعمل والقدرة على تلبية احتياجات الحياة الكريمة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1182