لماذا بريطانيا في وضعٍ كارثي؟
ما يحدث اليوم في بريطانيا هو نتيجة للانحدار الكارثي الذي شهده الاقتصاد البريطاني ومستويات المعيشة بالنسبة لأغلب البريطانيين، إلى جانب تقليص الخدمات العامة والرعاية الاجتماعية. اقتصاد المملكة المتحدة هو الآن تاسع أكبر اقتصاد في العالم من حيث الناتج بالأسعار المعدلة للقوة الشرائية، والسادس عندما يتم حساب الناتج بأسعار الصرف. لكن الإمبريالية البريطانية كانت في انحدار مستمر منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، مما أفسح المجال للإمبريالية الأمريكية كقوة مهيمنة. وبعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت المملكة المتحدة بشكل متزايد «شريكًا صغيراً» خاضعاً لأمريكا. يتجلى الانحدار النسبي في الاقتصاد البريطاني من خلال الانخفاض طويل الأجل في نمو الإنتاجية مقارنة بالاقتصادات الإمبريالية الأخرى، وخاصة في القرن الحادي والعشرين.
بيّن أنجوس هانتون الدور المهيمن الذي تلعبه الشركات الأميركية والتمويل في امتلاك والسيطرة على أقسام كبيرة مما تبقى من الصناعات البريطانية. وقد قبلت الحكومات البريطانية المتعاقبة- من تاتشر المحافظة إلى بلير في عهد حزب العمال- هذا الاستحواذ الأمريكي، بل وشجعته. يُظهِر هانتون أنه في العام الثاني الكامل لتاتشر في منصبها، عام 1981، كانت نسبة 3.6% فقط من الأسهم البريطانية مملوكة في الخارج. وبحلول عام 2020، تجاوز هذا الرقم 56% ومن بين جميع الأصول التي تحتفظ بها الشركات الأمريكية في أوروبا، يوجد أكثر من نصفها في المملكة المتحدة. ولدى الشركات الأمريكية عدد من الموظفين في المملكة المتحدة أكبر من عددهم في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال والسويد مجتمعة. وتبيع أكبر الشركات الأمريكية أكثر من 700 مليار دولار من السلع والخدمات إلى المملكة المتحدة، وهو ما يعادل أكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة.
يعتمد ما يقرب من 1.5 مليون عامل بريطاني رسمياً على أرباب عمل أمريكيين كبار. وإذا حسبنا الموظفين غير المباشرين، مثل: سائقي أوبر وعمال وكالات أمازون، فإنّ ما لا يقل عن مليوني عامل بريطاني لديهم رؤساء نهائيون في الولايات المتحدة «6-7٪ من القوى العاملة في المملكة المتحدة». بحلول عام 2020، كانت هناك 1256 شركة أمريكية متعددة الجنسيات «أي تزيد مبيعاتها الخارجية عن 850 مليون دولار» في المملكة المتحدة.
منذ ثمانينيات القرن العشرين، أصبحت بريطانيا على نحو متزايد ما يمكن أن نسميه «اقتصاد الريع»، حيث أنهت معظم قاعدتها الصناعية، واعتمدت في الغالب على القطاع المالي في مدينة لندن، وخدمات الأعمال المصاحبة لها، مما وفر قناة لإعادة تدفّق رأس المال من شيوخ النفط في الشرق الأوسط، والأثرياء الروس، ورجال الأعمال الهنود، وشركات التكنولوجيا الأمريكية.
خلال هذه الفترة، تراجعت الرأسمالية البريطانية مقارنة بنظيراتها بين اقتصادات مجموعة السبع وغيرها من الدول الأوروبية الأكبر. ولكن بعد الأزمة المالية بشكل خاص، وبعد قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي وجائحة كوفيد، دخل الاقتصاد البريطاني في دوامة هبوطية لم يتمكن حتى الآن من إيقافها. لا يزال نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي أقل بنسبة 20٪ عن اتجاهه قبل عام 2008 - على الرغم من أن هذا التراجع ينطبق على اقتصادات مجموعة السبع جميعها، وإن كان بمعدل أقل.
كان اقتصاد المملكة المتحدة هو الأكثر تضرراً بين اقتصادات مجموعة السبع الكبرى في عام كوفيد. انخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 9.9٪. تعتقد مؤسسة Resolution للأبحاث الاقتصادية، أنّ اقتصاد المملكة المتحدة ربما لم يكن يعاني من «ركود فني، لكننا نشهد أضعف نمو منذ 65 عاماً». وإذا استثنينا النمو السكاني المدفوع بالهجرة، فإنّ المملكة المتحدة لم تشهد أي نمو اقتصادي تقريباً، حيث لم يتجاوز نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي مستوى عام 2007 إلا قليلاً، ولا تزال القدرة الشرائية الحقيقية للمستهلك أقل مما كانت عليه في عام 2007.
ضعف الإنتاجية الحالي والمستقبلي
في الواقع، كان نمو الإنتاجية رهيباً. فقد تباطأت الإنتاجية إلى أقل من 1٪ سنوياً. قبل الأزمة الاقتصادية 2008-2009، نما الناتج البريطاني لكل ساعة عمل بشكل مطرد بمعدل سنوي قدره 2.2٪ سنوياً. وفي العقد منذ عام 2007، انخفض هذا المعدل إلى 0.2٪. من ضمن مجموعة السبع، فقط إيطاليا سجّلت نمواً في الإنتاجية أسوأ من بريطانيا. تشير التقديرات إلى أنّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيؤثر على الإنتاجية فيها على المدى الطويل، حيث سيعمل على خفضها بنسبة 4% مقارنة مع لو بقيت في الاتحاد الأوروبي.
في واقع الأمر، ظلت الإنتاجية في المملكة المتحدة ثابتة على حالها لعقد من الزمان. لذا فإن مستويات الإنتاجية الآن أقل بنحو الثلث من نظيراتها في الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا: «يحقق العامل الفرنسي المتوسط بحلول وقت الغداء يوم الخميس ما لا يحققه العامل البريطاني المتوسط إلا بحلول نهاية العمل يوم الجمعة». والواقع أن متوسط مستوى الإنتاجية في المملكة المتحدة، باستثناء لندن، أقل من متوسط مستوى الإنتاجية في أفقر ولاية في الولايات المتحدة، ولاية ميسيسبي.
إن الفجوة الإنتاجية بين الشركات ذات الأداء الأعلى والأدنى أكبر كثيراً في المملكة المتحدة منها في فرنسا أو ألمانيا أو الولايات المتحدة. كما اتسعت هذه الفجوة الإنتاجية إلى حد كبير منذ الأزمة ــ نحو ضعفين إلى ثلاثة أمثال ــ في المملكة المتحدة مقارنة بأماكن أخرى. وهذا الذيل الطويل المتنامي من الشركات «الثابتة» يفسر لماذا تبلغ الفجوة الإنتاجية في المملكة المتحدة ثلث الفجوة مع المنافسين الدوليين.
لماذا نمو الإنتاجية ضعيف للغاية، وخاصة بين الشركات البريطانية الكبرى متعددة الجنسيات؟ الجواب واضح: انخفاض نمو الاستثمار في الأعمال. كان نمو الاستثمار في الأعمال في اتجاه هبوطي ثابت منذ نهاية الأزمة المالية. كان إجمالي الاستثمار في المملكة المتحدة إلى الناتج المحلي الإجمالي أقل من معظم الاقتصادات الرأسمالية المماثلة، وكان في انخفاض على مدى السنوات الثلاثين الماضية. الاستثمار في المملكة المتحدة أسوأ من أي دولة أخرى في مجموعة السبع. وبالمقارنة مع اليابان والولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا، احتلت المملكة المتحدة المركز الأخير في الاستثمار في الأعمال في عام 2022، وهو المركز الذي احتفظت به الآن لمدة ثلاث سنوات متتالية، ولمدة 24 عاماً من أصل الثلاثين عاماً الماضية.
لا ترغب الشركات بالاستثمار في المملكة المتحدة. تحتل المملكة المتحدة المرتبة 28 من بين 31 دولة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من حيث الاستثمار. وتجتذب دول مثل: سلوفينيا ولاتفيا والمجر مستويات أعلى من الاستثمار في القطاع الخاص مقارنة بالمملكة المتحدة كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي.
إنّ طبيعة رأس المال البريطاني الريعية تتكشف في تقرير معهد أبحاث السياسات العامة:« لقد انخفض الاستثمار في الشركات إلى ما دون معدل الاستهلاك ــ وهذا يعني أن مخزون رأس المال لدينا آخذ في الانخفاض ــ كما أصبح الاستثمار في البحث والتطوير أقل من الاستثمار في الشركات المنافسة الرئيسية. ومن بين الأسباب وراء ذلك النظام المصرفي الذي لا يركز بالقدر الكافي على الإقراض من أجل نمو الأعمال، وقصر النظر المتزايد في قطاعنا المالي والشركاتي. وتحت ضغط أسواق الأسهم التي تركز بشكل متزايد على العائدات القصيرة الأجل، توزع الشركات نسبة متزايدة من أرباحها على المساهمين بدلاً من استثمارها للمستقبل».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1182