مؤسسات بريتون وودز تُثبت من جديد عداءها لنا
في الفترة من 9 إلى 15 تشرين الأول، عقد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اجتماعهما المشترك السنوي في مراكش المغربية، وكانت المرة الأخيرة التي التقت فيها مؤسستا بريتون وودز هاتين على الأراضي الإفريقية في عام 1973، عندما انعقد اجتماع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في نيروبي في كينيا. حثّ حينها رئيس كينيا جومو كينياتا المجتمعين على إيجاد «علاج مبكر للمرض النقدي المتمثّل في التضخم وعدم الاستقرار، الذي ابتلي به العالم». وقد لاحظ كينياتا، الذي أصبح أول رئيس لكينيا في عام 1964، أن العديد من البلدان النامية كانت على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية تخسر، كل عام، نسبة كبيرة من دخلها السنوي بسبب تدهور شروطها التجارية. ولا تستطيع البلدان النامية التغلب على معدلات التبادل التجاري السلبية في حالة بيعها للمواد الخام، أو السلع المصنّعة بالكاد في السوق العالمية، في حين تعتمد على استيراد السلع التامة الصنع والطاقة الباهظة الثمن، حتى لو قامت بزيادة حجم صادراتها. وأضاف كينياتا «في الآونة الأخيرة، أدى التضخم في الدول الصناعية إلى خسائر كبيرة للدول النامية».
ترجمة: قاسيون
وقال كينياتا: «العالم كله يراقبه. هذا ليس لأن الكثير من الناس يفهمون تفاصيل ما يناقشه، ولكن لأن العالم يتطلع إليه لإيجاد حلول عاجلة للمشاكل التي تؤثر على حياتهم اليومية». لكن تحذيرات كينياتا ذهبت أدراج الرياح. وبعد مرور ستة عقود من الزمن على اجتماع نيروبي، فإن خسارة الدخل الوطني بسبب الديون والتضخم تظل تشكل مشكلة خطيرة بالنسبة للبلدان النامية. ولكن في عصرنا هذا، العالم كله لا يُراقِب. إنّ أغلب الناس لا يعرفون حتى أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اجتمعا في المغرب، وقليلون هم الذين يتوقعون من المجتمعين أن يحلوا مشاكل العالم. ويرجع هذا إلى أن الناس في مختلف أنحاء العالم يدركون أن هذه المؤسسات هي في الواقع سبب الألم، وأنها ببساطة غير قادرة على حل المشاكل التي خلقتها حلولهم وتفاقمت.
وقبيل الاجتماع في المغرب، أصدرت منظمة أوكسفام بياناً انتقدت فيه بشدة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لعودتهما إلى إفريقيا للمرة الأولى منذ عقود، بنفس الرسالة الفاشلة القديمة: خفضوا إنفاقكم، وأقيلوا موظفي الخدمة العامة، وسددوا ديونكم بغض النظر عن التكاليف البشرية الباهظة. وسلَّطت منظمة أوكسفام الضوء على الأزمة الاقتصادية التي تواجه الجنوب العالمي، مشيرة إلى أنّ أكثر من النصف 57٪ من أفقر دول العالم، التي يقطنها 2.4 مليار شخص، سيتعين عليها خفض الإنفاق العام بما مجموعه 229 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة. علاوة على ذلك، أظهروا أن البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط ستضطر إلى دفع ما يقرب من نصف مليار دولار يومياً كفوائد وسداد الديون من الآن وحتى عام 2029. على الرغم من أن صندوق النقد الدولي قال :إنه يخطط لإنشاء «حدود للإنفاق الاجتماعي» لمنع التخفيضات في الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة، فقد وجد تحليل أوكسفام لـ 27 برنامج قروض تابع لصندوق النقد الدولي، أن «هذه الحدود هي مجرد ستار من الدخان لمزيد من التقشف: مقابل كل دولار يشجع صندوق النقد الدولي إنفاقه على الخدمات العامة، يطلب من الحكومات خفض ستة أضعاف ذلك من خلال تدابير التقشف». كما أظهرت منظمة هيومن رايتس ووتش مغالطة «الحدود الدنيا للإنفاق الاجتماعي» في تقريرها الأخير بعنوان: «ضمادة على جرح رصاصة: حدود الإنفاق الاجتماعي لصندوق النقد الدولي وجائحة كوفيد-19.
لنأخذ مثالاً: المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد الباكستاني، مثل: انخفاض الإنتاجية في الصناعة الموجهة للتصدير، وارتفاع تكاليف السلع الفاخرة المستوردة. وبسبب الافتقار إلى الاستثمار في الصناعة، فإن إنتاجية العمل في باكستان منخفضة، وبالتالي فإن صادراتها غير مرغوبة من البلدان الأخرى «مثال: صناعة النسيج في بنغلاديش، والصين، وفيتنام». في الوقت نفسه، فإن استيراد السلع الفاخرة سيكون أكثر تدميراً بكثير للاقتصاد، لولا الدولارات التي تكتسبها التحويلات المالية من العمال الباكستانيين الذين يعملون بجد، ولكن يتم تجاهلهم، وخاصة في دول الخليج. يرجع العجز المتضخم في باكستان إلى حقيقة أن باكستان لم تعد قادرة على المنافسة في السوق الدولية، واستمرت في استيراد السلع والخدمات بمعدل لا تستطيع ببساطة تحمله. علاوة على ذلك، فإن الشروط التي فرضها صندوق النقد الدولي أدت إلى تجفيف الاستثمارات التي تحتاجها باكستان بشدة لتحديث بنيتها التحتية وتسريع عملية التصنيع. ولا يكتفي صندوق النقد الدولي بمنع الاستثمار من أجل التصنيع، بل إنه يفرض تخفيضات على الخدمات العامة، والأهم من ذلك، خدمات الصحة والتعليم. كل الإجراءات التي يأخذها صندوق النقد الدولي من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم الأزمة. ولضمان ديمومة هذه السياسات، تحدّث صندوق النقد الدولي ليس فقط مع حكومة رئيس الوزراء المؤقت أنور الحق كاكار، ولكن أيضاً مع رئيس الوزراء السابق عمران خان.
تمّ عقد صفقات مماثلة مع دول، مثل: الأرجنتين، وسريلانكا، وزامبيا. وفي حالة سريلانكا، على سبيل المثال، وصف رئيس بعثة مؤسسة التريكونتنتال، بيتر بروير، اتفاق صندوق النقد الدولي بأنه «تجربة وحشية»، ولا شك أن العواقب الاجتماعية المترتبة على هذه التجربة سوف يتحملها الشعب السريلانكي، الذي تمكنت قوات الشرطة والجيش من خنق إحباطاته. وكانت هذه الديناميكية واضحة أيضاً في سورينام، حيث قوبلت أعداد كبيرة من الناس الذين خرجوا إلى الشوارع للاحتجاج على نظام التقشف- الذي فرضه صندوق النقد الدولي- بالغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي. منذ بداية جائحة كوفيد-19، تخلفت سورينام ثلاث مرات عن سداد ديونها الخارجية، والتي تُدين إلى حد كبير لحاملي السندات الأثرياء في الغرب، وفي ديسمبر 2021، أبلغت حكومة الرئيس تشان سانتوخي صندوق النقد الدولي أنها ستخفض الدعم الحكومي للطاقة.
وتمثل هذه الاحتجاجات ــ من سورينام إلى سريلانكا ــ أحدث دورة في تاريخ طويل من أعمال التظاهر ضدّ صندوق النقد الدولي، إنّها امتداد لتلك التي بدأت في ليما في البيرو في عام 1976 ثم اندلعت في جامايكا وبوليفيا وإندونيسيا وفنزويلا في السنوات التي تلت ذلك. كانت هذه الاحتجاجات ضدّ العلاج الذي قدمته مؤسسات بريتون وودز: الخصخصة، والتسليع، وتحرير الأسعار. لم يعد جديراً بالمصداقية. وتعكس الاحتجاجات الشعبية- مثل تلك التي شهدتها سورينام- الوعي واسع النطاق بإخفاقات الأجندة النيوليبرالية.
هناك حاجة إلى جداول أعمال جديدة تعتمد على أفكار، مثل: - إلغاء الديون البغيضة، أي تلك التي اتخذتها الحكومات غير الديمقراطية واستخدمتها ضد رفاهية الشعب. - إعادة هيكلة الديون وإرغام حاملي السندات الأثرياء على تقاسم عبء الديون التي لا يمكن سدادها بالكامل. - التحقيق في فشل الشركات متعددة الجنسيات في دفع حصتها العادلة من الضرائب إلى الدول الفقيرة، ووضع قوانين تمنع أشكال السرقة، مثل: التلاعب في تسعير التحويلات. - التحقيق في دور الملاذات الضريبية غير المشروعة في السماح للنخب في الدول الفقيرة بنقل الثروة الاجتماعية لبلدانهم إلى هذه الأماكن، وإجراءات إعادة تلك الأموال للاستخدام العام. - تشجيع الدول الفقيرة على الاستفادة من المقرضين الجدد غير الملتزمين بأشكال الإقراض المتعلقة بالديون التقشفية، مثل: بنك الشعب الصيني، وبنك التنمية الجديد. - تطوير سياسات صناعية موجهة نحو خلق فرص العمل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1146