أوروبا تغرق في التضخم وارتفاع الأسعار
الإضرابات والاعتصامات والتظاهرات تضرب أوروبا بشدّة. في فرنسا نزل الناس إلى الشوارع للمطالبة بزيادة الأجور. في رومانيا أطلق المتظاهرون أصواتهم غاضبين لتركهم فرائس لارتفاع تكاليف المعيشة. في التشيك نزل المتظاهرون وهتفوا ضدّ الحكومة، وطالبوها بإجراءات فورية لتخفيض تكاليف الطاقة، والانسحاب من العقوبات ضدّ روسيا. الممرضات البريطانيات وعمّال الموانئ، وعمّال الخطوط الجوية البريطانية، وكذلك زملاؤهم الطيارون الألمان، دخلوا في إضراب مطالبين بزيادة الأجور. هذه الأحداث هي جزء لا يتجزأ من حالة عدم اليقين المتزايدة لدى العمال في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، حيث ترتفع أسعار الطاقة وتكاليف الإيجارات والرهون العقارية وتدفع بالملايين إلى الفقر.
بعد رفض شركات النفط في فرنسا منح زيادة رواتب بأثر رجعي بنسبة 10٪ منذ بداية العام، بدأ أعضاء النقابة بمقاطعة شحن الوقود من المصافي. ونظراً لأنّ الوضع أثّر بشدة على توافر البنزين، اتخذت حكومة ماكرون إجراءات قانونية لكسر الإضراب من أجل تخفيف النقص في باريس، وفي مناطق أخرى شمال فرنسا. صدرت أوامر لعمال بعض مخازن الوقود بالتهديد بالسجن إن لم يسمحوا لشاحنات الوقود بالمغادرة.
رفض العمّال العرض الذي قدمته الشركات للنقابات بزيادة الأجور بنسبة 7٪، ودعوا إلى المزيد من الإضرابات، ما دفع الاتحاد العمالي للاستجابة لضغوطهم، والدعوة لانتظار تحقق المطالب. جاء هذا بعد تحقيق شركة توتال– واحدة من الشركتين الكبريتين في فرنسا– أرباحاً بقيمة 10,9 مليار يورو في النصف الأول من هذا العام 2022، ودفعها مؤخراً لحاملي أسهمها 2,62 مليار يورو كسلفة على توزيع الأرباح. جذب إضراب 18 تشرين الأول اهتمام ودعم الأحزاب المعارضة، والتي اتهمت ماكرون بتفضيل الأثرياء، وتجاهل مصيبة الطبقة العاملة.
على الرغم من أنّ معدّل التضخم في فرنسا «6,2٪» بقي أدنى ممّا هو عليه في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، فالناس يواجهون صعوبات اقتصادية تتعلّق بعدد من العوامل التي ظهرت على السطح منذ الأشهر الأولى من عام 2020، حيث تسببت جائحة كوفيد-19 بضغوط غير مسبوقة على أنظمة الصحة العامة وسوق العمل.
لا يبدو أنّ الحلّ الأوروبي عبر تخصيص أموال لمساعدة الأعمال، وبعدها الأسر «576 مليار يورو» في التأقلم مع عبء ارتفاع الطاقة، يكفي لتنفيس الاحتقان الشعبي. التضخم محسوباً كنسبة كلية قد تجاوز 9,9٪ على مستوى الاتحاد الأوروبي، والتضخم في التفاصيل محسوباً على أساس السلة الغذائية والخدمات الرئيسية أعلى من ذلك بكثير. يتفق المحللون، أمثال توربيورن سولتفيت، بأنّ التضخم ليس عابراً، وقد يكون أسوأ بكثير في العام المقبل.
إذا ما نظرنا إلى أحد القطاعات الرئيسية في الاقتصاد الأوروبي: صناعة السيارات مثلاً، يمكننا أن نفهم تأثير التضخم غير القابل للعكس على الاقتصاد الأوروبي في الأعوام المقبلة. يعدّ قطاع السيارات وسلسلة توريده بأكملها العمود الفقري للاقتصاد الأوروبي، فهو يؤمن أعمالاً لـ 13 مليون أوروبي، ويشكّل 11,5٪ من العمالة الصناعية في أوروبا، ويؤمن 374,6 مليار يورو كعائدات ضريبية للحكومات الأوروبية، و79,5 مليار يورو كفائض تجاري، ويمثّل 8٪ من الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي. إنّ ارتفاع تكاليف الإنتاج بشكل كبير يقوّض الربحية، ويضع الاستثمارات وبقاء الصناعات داخل أوروبا في حالة خطر. لا يمكن للصناعة الأوروبية عموماً، والسيارات خصوصاً، استيعاب مثل هذه التكاليف الباهظة على المدى الطويل، خاصة في مواجهة المنافسة من الأسواق الرئيسية الأخرى، مثل: الصين والولايات المتحدة.
تعبّر صناعة السيارات الأوروبية اليوم عن عدم قدرة القطاع الصناعي الأوروبي على إعادة تأهيل موظفيه وتطوير مهاراتهم، ناهيك عن إجراء عمليات توظيف جديدة، أو الاحتفاظ بالعمالة التي يملكها. المبيعات المنخفضة التي وصلت نسبتها منذ بداية العام إلى 10٪ تعني أنّ مصانع السيارات الأوروبية، وكامل السلسلة المرتبطة بها، ستمرّ في أزمة قد تمنعها من الاستمرار على المدى المتوسط.
في بريطانيا التي صوتت عام 2016 للخروج من الاتحاد الأوروبي، فشلت حكومة حزب المحافظين- المنشأة حديثاً بزعامة ليز تروس- فشلاً ذريعاً في محاولات تحقيق الاستقرار في الاقتصاد الوطني، الذي وصل فيه التضخم الكلي إلى أكثر من 10٪. دعت تروس في البداية إلى تخفيضات ضريبية ضخمة للأثرياء، مدعية أنّ هذه الإجراءات ستسهل النمو الاقتصادي. لكنّ مبادرات حكومتها خلقت حالة من الذعر داخل الأسواق المالية في المملكة المتحدة وخارجها. تراجعت قيمة الباوند الإنكليزي، بينما اشترى بنك إنكلترا «البنك المركزي» كميات كبيرة من سندات الخزانة بهدف منع الانهيار الاقتصادي الكلي.
لم يمضِ وقت طويل حتّى أقالت تروس مستشارها كواسي كوارتنغ الذي تمّ تحميله وزر السياسة الاقتصادية الكارثية. في 19 تشرين الأول استقالت وزيرة الداخلية في الحكومة البريطانية– سويلا برافرمان المكلفة بالأمن القومي- بعد مهاجمتها لإدارة تروس. في اليوم التالي في 20 تشرين الأول أعلنت تروس استقالتها، بعد أن أمضت ستّة أسابيع فقط في رئاسة الوزراء.
هناك مشكلة تواجه الذين يعيشون خارج أوروبا وبريطانيا، هي عدم الانتباه إلى أنّ التضخم الكلي الذي نتحدث عنه ليس هو ذاته معدّل ارتفاع الأسعار. فإذا ما نظرنا إلى السلّة الغذائية الرئيسية في بريطانيا كعينة على ما يعنيه التضخم، سندرك بأنّ الارتفاع في الأسعار جنوني. فوفقاً لمكتب الإحصاء الوطني، ارتفعت أسعار المواد الغذائية خلال عام واحد كما يلي: «حليب قليل الدسم 42٪، السمن النباتي 30,5٪، الدقيق 29,6٪، منتجات غذائية أخرى 28,9٪، لحم الكبد 28,1٪، المربيات 28,1٪، الزبدة 28٪، زيت الزيتون 27.2٪، الجبنة 23,1٪، منتجات المعكرونة 22,7٪، البيض 22,3٪، الخضروات المفروزة 20,3٪، السمك 15,4٪». وقد ارتفعت تكاليف السكن وخدماته بنسبة 31,4٪.
أصدر المكتب الاتحادي الألماني للإحصاء destatis تقريراً في 21 تشرين الأول جاء فيه: الآن وقد اقترب موسم البرد، فاستمرار ارتفاع أسعار الطاقة يزيد بشكل كبير من تكاليف التدفئة. لكن قبل حتّى أن تبدأ أزمة الطاقة نتيجة الحرب في أوكرانيا، لم يكن الجميع قادراً على تحمّل تكاليف تدفئة مناسبة. هناك 3,2٪ من سكان ألمانيا لم تكن لديهم القدرة في عام 2021 على تحمّل تكلفة تدفئة منازلهم بشكل مناسب، أي أنّ 2,6 مليون شخص قد تأثروا.
كما أورد destatis بأنّ أسعار المنتجات الصناعية في شهر أيلول 2022 قد كانت أعلى منه بنسبة 45,8٪ من العام الفائت، وأعلى بنسبة 2,3٪ عن الشهر السابق. كما ارتفعت أسعار السلع الصناعية الوسيطة، مثل: المعادن والمواد الكيميائية بنسبة 16,8٪، وقد ارتفعت أسعار ما يسمى بالسلع الرأسمالية، مثل: الآلات والماكينات بنسبة 7,8٪، ليصل الارتفاع في بعضها مثل: الهياكل المعدنية إلى 18,4٪.. لم تنجُ السلع الاستهلاكية من الارتفاع الشديد، فارتفعت السلع المعمرة بنسبة 10,9٪، والسلع الاستهلاكية غير المعمرة بنسبة 18,3٪. وكانت أسعار الأغذية عموماً قد ارتفعت بنسبة 24,2٪، لتصل الارتفاعات في بعض السلع كاللحوم إلى 46,3٪، والزبدة إلى 72,2٪.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1093