اللحاق بالتجربة الصينية الروسية: هل للعملات المشفرة مستقبل؟

اللحاق بالتجربة الصينية الروسية: هل للعملات المشفرة مستقبل؟

بعد عشرين عاماً على انطلاقتها، تحوّلت العملات المشفرة من ظاهرة تكنولوجية صغيرة إلى إحدى أكثر فئات الأصول الرقمية شهرةً، وبدأت تحتلّ مكانة خاصة في الاقتصاد والتمويل العالميين، بل وتنافس البنوك وأنظمة الدفع في مجال المدفوعات العابرة للحدود، وبلغ الأمر ببعض المتحمسين للعملات المشفرة حدّ الإدعاء أنها تلعب دور «الذهب الرقمي» رغم أنها لا تؤدي جميع جوانب الدور الوظيفي للنقد الحقيقي.

تتصاعد الانتقادات الموجهة ضد العملات المشفرة اليوم، وبشكلٍ خاص أن أداة بلوك تشاين Blockchain ليست مرتبطة بعملية إنتاجية حقيقية (مثل الطابعات ثلاثية الأبعاد أو أنظمة التحكم الصناعية أو الاتصالات الرقمية أو الصور والفيديو.. إلخ)، كما أن أثرها البيئي سيئ جداً، حيث تستهلك كميات هائلة من الطاقة الكهربائية لإنجاز التسويات تصل أحياناً إلى تسعة أضعاف كمية الكهرباء التي يستهلكها نظام مدفوعات فيزا Visa. وفوق ذلك، فإن أجهزة الكومبيوتر الفائقة القادرة على إجراء معالجات بسرعة هائلة (والتي تملك الصين وحدها ما يقارب 48% من الموجود منها عالمياً) تهدّد الأساس «المتين» الذي قامت عليه العملات المشفرة.

مخاطر الأصول المشفرة بالجملة

وفقاً للكثير من خبراء الاقتصاد، يمكن للتشفير (عملية تحويل الأموال إلى العملات المشفرة)، أن أن يقلل من قدرة البنوك المركزية على إدارة السياسة النقدية. كما يمكن أن يشكل مخاطر على الاستقرار المالي للأسواق والاقتصادات النامية. حيث تساهم زيادة الطلب على الأصول المشفرة في تدفق رأس المال إلى الخارج، ما يؤثر بدوره على سوق صرف العملة المحلية. كما أن إخفاء هوية المتعاملين (وهو أمر مشكوك به بالمناسبة) بالأصول المشفرة يخلق فجوات في البيانات، ويمكن أن يفتح أبواباً غير مرغوب فيها لغسل الأموال، وكذلك تمويل الإرهاب. كما أن الأصول المشفرة تساهم في التهرب الضريبي. والمخاطر التشغيلية والمالية المرتبطة بالأصول المشفرة وبورصات التشفير والمحافظ في سوق التشفير أعلى بكثير مما هي عليه في السوق المالية المنظمة.
وفوق ذلك، فإن «تعدين» العملات المشفرة، الذي يتطلب تكاليف طاقة هائلة ويحوّل الموارد الحقيقية بعيداً عن الاقتصاد العالمي في وقتٍ تشهد فيه أوروبا وجنوب شرق آسيا أزمات طاقة خطيرة، يثير الرفض والانتقاد ليس فقط بين أتباع «حماية البيئة» بل وكذلك من جانب الحكومات والمجتمعات.
كما أن العملات المشفرة التي تسمح بالمدفوعات المجهولة هي أداة فعلية للجماعات الإجرامية المتورطة في بيع المخدرات والابتزاز والاتجار بالأعضاء البشرية وغيرها من العمليات غير القانونية. حيث تم استخدام محافظ «البيتكوين» الإلكترونية من جانب جماعات إرهابية في أفغانستان والعراق وليبيا وسورية. وتظهر الإحصاءات العالمية للمخدرات زيادة حادة في استخدام العملات المشفرة لشراء المخدرات في دول الاتحاد الأوروبي.

تنظيم ما لا يمكن تنظيمه

استناداً للمشكلات المذكورة آنفاً، ثمّة دعوات كثيرة اليوم للحكومات والبنوك المركزية كي تأخذ دورها في «ضبط» العملات المشفرة، إلا أنه من الصعب جداً على هذه الجهات تنظيم الأنظمة الرقمية اللامركزية، التي تم إنشاؤها في الأصل لتجنب سيطرة الدولة.
ومن الأصعب تطوير نهج مشترك للعملات المشفرة للدول ذات الأوزان الاقتصادية والسياسية المختلفة. ففي الدول الكبرى، تبلغ أصول الأنظمة المصرفية التقليدية عشرات التريليونات من الدولارات، وتتجاوز بشكل كبير حجم سوق العملات المشفرة العالمي، ولكن سوق العملات المشفرة في العالم أكبر أيضاً بعدة مرات وأحياناً بعشرات المرات من المعروض النقدي لبعض البلدان النامية.
وترى بعض الحكومات أن العملات المشفرة تشكل تهديداً للسيادة المالية لدولها، وخطراً على الأنظمة المصرفية التقليدية والمواطنين، بما في ذلك مخاطر الاحتيال والسرقة والقرصنة، وبالتالي توصلت إلى اقتراح حظرها تماماً. بينما يعتقد آخرون أنه يكفي فقط «مراقبة» سوق العملات المشفرة حتى لا تهدِّد الأسس الثابتة للاقتصادات القائمة.
ويمكن اعتبار العملات المشفرة أداة محتملة لما يسمى بـ«الثورات الملونة»، حيث تسمح العملات المشفرة، في حالة حدوث أزمة شرعية في إحدى الدول، لمجموعات معيّنة بتمويل العمليات السياسية وإجراء المعاملات دون علم السلطات.
لهذا، ونظراً لأن المواقف تجاه سوق العملات المشفرة تختلف بين الدول المتقدمة والنامية وبين الأنظمة غير المستقرة والدول المستقرة، فسيكون من الصعب للغاية تكييف القواعد التنظيمية لبلد ما في بلد آخر.

ماذا في جعبة المؤسسات العالمية؟

يعتقد صندوق النقد الدولي أن الإطار التنظيمي العالمي ينبغي أن يتضمن ثلاثة عناصر رئيسية على الأقل: الترخيص الإجباري، والمتطلبات التنظيمية الموحدة لمقدمي الخدمات، ومتطلبات رأس المال والسيولة الموحدة للمؤسسات المالية. حيث يجب أن يكون مقدمو خدمات تخزين وتسوية ونقل الأصول المشفرة مرخصين ومصرح لهم، ويجب أن تكون معايير الترخيص دولية وشائعة.
وينبغي - وفقاً لهذا الطرح- أن تخضع خدمات ومنتجات الدفع لمتطلبات مماثلة لتلك المتعلقة بالودائع المصرفية لمؤسسات الائتمان التي تشرف عليها البنوك المركزية أو السلطات التي تنظم الإشراف على الدفع. ويجب على البنوك والأوراق المالية والتأمين والمعاشات التقاعدية تحديد متطلبات رأس المال والسيولة للمؤسسات المالية الائتمانية وغير المصرفية، ووضع حدود لأنواع مختلفة من الأصول المشفرة. وبغض النظر عن الصلاحيات الموجودة، يجب أن تحصل جميع السلطات الإشرافية للدول، بما في ذلك البنوك المركزية، على سلطات مراقبة الأوراق المالية، وسلطات إضافية لتنظيم الأصول المشفرة وتنسيق إجراءاتها على المستوى الدولي للقضاء على المخاطر الناشئة.
كما يرى صندوق النقد الدولي أن النظام المصرفي التقليدي بحاجة ماسة إلى السيطرة على سوق الأصول المشفرة بسبب التهديد الذي يشكله التمويل اللامركزي، حيث ينتقل التمويل من البنوك إلى أيدي الأشخاص والكيانات القانونية التي تعمل خارج المجال القانوني. ويحذر الصندوق أيضاً من أن بعض الدول قد تميل إلى اتخاذ قرار أسهل بقبول الأصول المشفرة كعملات وطنية إضافية، حيث أن العديد من العملات المشفرة آمنة نسبياً وسهلة التعامل بها. ولكن في معظم الحالات، تفوق المخاطر والتكاليف الفوائد المحتملة.

1081-1

وهنا سنتطرق إلى بعض الطرق التي تعاطت فيها الدول المختلفة مع ظاهرة العملات المشفرة:

الولايات المتحدة الأمريكية

في الولايات المتحدة، العديد من الوكالات الفيدرالية مثل هيئة الأوراق المالية والبورصات (SEC)، ولجنة تداول السلع الآجلة (CAEC)، ودائرة الإيرادات الداخلية (IRS)، ومكتب المراقب المالي للعملة (OCC)، وشبكة إنفاذ الجرائم المالية (FinCEN)، تسلّط الضوء على الأصول المشفرة.
في الوقت نفسه، لا يوجد في الولايات المتحدة تعريف واحد لماهية العملة المشفرة. من منظور قانوني، فإن استخدام تعريفات غامضة مثل «الأصول الرقمية» يمنح المشرعين والمنظمين مجالاً أكبر للتنظيم والإشراف. فالصلاحيات الرئيسية هي في أيدي هيئة الأوراق المالية والبورصات، التي تتحكم في إصدار وإعادة بيع أي أصل رقمي. وتعتبر هيئة الأوراق المالية والبورصات أن أي رمز سيتم إصداره له «فائدة»، ما يعني أنه يعتبر ورقة مالية ويخضع للتنظيم. والجهة التي تصدر رموز العملة المشفرة ملزمة بتسجيل ما تصدره. وتتمتع هيئة الأوراق المالية والبورصات بسلطة تسجيل أو رفض تسجيل الجهات المُصدرة للعملات المشفرة. وعلى سبيل المثال، رفضت تسجيل تلغرام Telegram و كيك إنترآكتيف Kik Interactive Inc وشركة ميتا (فايسبوك).
وتراقب شبكة إنفاذ الجرائم المالية الكيانات التي تقدم خدمات مالية لتبادل وتخزين أصول العملات المشفرة. وهنالك عقوبات على عدم الامتثال للقواعد، بما في ذلك الغرامات والملاحقة الجنائية، وتنطبق هذه العقوبات على الأجانب أيضاً. ويراقب هذا من قبل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية (OFAC).
فعلى سبيل المثال، فرضت الشبكة غرامة قدرها 100 مليون دولار على واحدة من أكبر بورصات مشتقات العملات الافتراضية، BitMEX، لانتهاكها قانون السرية المصرفية (BSA) ولتحديها لوائح FinCEN.
وتعتبر دائرة الإيرادات الداخلية (IRS) الأصول المشفرة ملكية تخضع للضريبة على أية أرباح من العملات المشفرة، بغض النظر عن مدى افتراضيتها.

الصين

فرضت السلطات الصينية حظراً على المعاملات المالية عبر العملات المشفرة، وتجري معركة مستمرة ضد تعدين الأصول الرقمية. في أيلول 2021، أعلن بنك الشعب الصيني أن جميع معاملات العملة المشفرة غير قانونية. وتعتقد الهيئة التنظيمية الصينية أن مثل هذه الأنشطة «تهدد بشكل خطير أمن ممتلكات الناس». ويؤكد بيان صادر عن بنك الشعب الصيني أن الأنشطة التجارية المتعلقة بالعملة الافتراضية هي «أنشطة مالية غير قانونية» وغير مقبولة.
وأصدرت اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح في جمهورية الصين الشعبية (NDRC) إشعاراً يقول إن البلاد ستتخذ تدابير صارمة ضد تعدين العملات المشفرة كجزء من جهودها للحد من انبعاثات الكربون. وينصّ حكم اللجنة على أن أنشطة مثل التعدين، وأي مشاريع تعدين «يجب القضاء عليها».
وفي الوقت نفسه، تستعد الصين لإطلاق يوان رقمي، والذي سيكون أحد أشكال العملة الوطنية الصينية إلى جانب اليوان النقدي وغير النقدي.

الاتحاد الأوروبي

العملات المشفرة هي أصول قانونية في الاتحاد الأوروبي ويتم تنظيمها حسب إرادة الدول الأعضاء بشكل منفصل. وتختلف الضرائب المفروضة على العملة المشفرة في كل بلد ويتراوح معدل الضريبة على الدخل المستلم من 0 إلى 50%.
في عام 2015، قضت محكمة العدل الأوروبية بأن التبادلات بين العملة التقليدية والعملات المشفرة أو العملات الافتراضية يجب أن تكون معفاة من ضريبة القيمة المضافة لأن العملات المشفرة هي خدمات وليست سلعاً. وفي عام 2021، نشرت المفوضية الأوروبية حزمة من المقترحات التشريعية لتنظيم تحويلات الأموال وبعض الأصول المشفرة لحماية مواطني الاتحاد الأوروبي والنظام المالي من غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
يقترح الاتحاد الأوروبي إدخال نظام خاص لمزودي الأصول المشفرة، بما يتماشى مع تنظيم الأسواق في الأصول المشفرة (MiCA) وقانون المرونة التشغيلية الرقمية (DORA). ويشير المجلس الأوروبي على موقعه على الإنترنت إلى أن الهدف من تنظيم الأسواق في الأصول المشفرة MiCA هو إنشاء إطار تنظيمي للسوق يدعم الابتكار ويستخدم إمكانات الأصول المشفرة بطريقة تحافظ على الاستقرار المالي وتحمي المستثمرين. ويتمثل هدف DORA في إنشاء إطار تنظيمي للمرونة التشغيلية الرقمية، والذي يجب على جميع الشركات من خلاله التأكد من قدرتها على تحمل جميع أنواع الاضطرابات والتهديدات المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات من أجل منع التهديدات السيبرانية والتخفيف من حدتها. وبمجرد تمرير هذه القوانين واللوائح، سيسمح فقط لمقدمي الخدمات المرخصين بتقديم العملات المشفرة وتشغيل بورصات العملات المشفرة في الاتحاد الأوروبي.

اليابان

يعرف القانون الياباني «الأصول المشفرة» بأنها طرق دفع غير مقومة بالعملة الورقية ويمكن استخدامها من قبل أي شخص. ولا توجد قيود على امتلاك العملات المشفرة والاستثمار فيها.
في اليابان، يتم الإشراف على مقدمي خدمات تبادل الأصول المشفرة من جانب وكالة الخدمات المالية (FSA) التي تتعاون أيضاً مع منظمتين في صناعة العملات المشفرة: جمعية تبادل العملات الافتراضية اليابانية (JVCEA) وجمعية عرض الرموز الأمنية اليابانية (JSTOA). وتركز JSTOA على مشاريع إصدار الرموز المميزة وأحداث التمويل الجماعي. أما JVCEA فهي مخولة بإنشاء قواعد تنطبق على بورصات العملات المشفرة.
ومنذ عام 2021، تخضع الأصول المشفرة في اليابان لنظام مكافحة غسل الأموال، وتخضع العملات المشفرة لـ«قانون منع تحويل العائدات الجنائية».

ما الذي يمكن استنتاجه؟

لا يوجد نهج واحد لتنظيم الأصول المشفرة حتى الآن. حيث تقتصر المعايير التنظيمية المطبقة على الأصول المشفرة في مختلف الدول بشكل أساسي على غسل الأموال والمقترحات للسيطرة على المخاطر المالية. بينما تصر المؤسسات العالمية للإدارة المالية على إدخال معايير موحدة وعلى تطبيق اللوائح الحالية التي تحكم الأوراق المالية وأنشطة الصرف والبنوك على مجال العملات المشفرة.
بالإضافة إلى ذلك، في المستقبل القريب، ستبدأ البنوك المركزية في الدول المتقدمة في إطلاق إصدارات رقمية من عملاتها الورقية في التداول، وربما لن تتسامح مع المنافسة الآتية العملة المشفرة. ثم سيتبع النظام المالي العالمي مسار حظر الأصول المشفرة، على غرار ما فعله بنك الشعب الصيني أو البنك المركزي الروسي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1081