ما بعد «بريتون وودز 2»: تغيير جذري لا مجرد إصلاح
في عام 1944، تم إنشاء نظام «بريتون وودز» بحكم الأمر الواقع من بريطانيا والولايات المتحدة اللتين كانتا تتمتعان في ذلك الوقت بالسلطة والموارد اللازمة لفرض إرادتهما على أربع عشرة دولة كانت تدور في فلكهما بها خلال الحرب العالمية. واليوم، مع تفكك الأدوات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية للهيمنة الأمريكية العالمية، يظهر إلى السطح مجدداً التساؤل حول ماذا سيكون بعد نظام «بريتون وودز»؟
في خطابه خلال فعاليات منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي في 16 حزيران 2022، كرّر رئيس شركة «غازبروم» الروسية، أليكسي ميلر، مرات عدّة أن «نظام «بريتون وودز» بنسخته الثانية يتلاشى أمام أعيننا». ووصف هذه العملية بأنها أساسية، وصنفها على أنها واحدة من المحركات الرئيسية التي توجّه تطوير الطاقة العالمية الحديثة والاقتصاد العالمي بأكمله إلى مستقبل مجهول.
ما هو «بريتون وودز»؟
نشأ نظام «بريتون وودز» في المرحلة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية (وتحديداً في عام 1944) نتيجة للمفاوضات بين 44 دولة، بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا. وكان الغرض المعلن من إنشائه هو منع الأخطاء القاتلة المستقبلية في إدارة التجارة والتمويل، مثل تلك التي ارتكبت في معظم البلدان في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي مهّدت الطريق للكساد الكبير والحرب الأكثر تدميراً في تاريخ البشرية.
وكانت مؤسستا «بريتون وودز» الرئيسيتان هما صندوق النقد الدولي (مهمته المعلنة ضمان استقرار العملة وضمان قدرتها على الانتقال) والبنك الدولي (مهمته المعلنة المساعدة في إعادة إعمار الدول التي مزقتها الحروب، وتقديم المساعدة إلى البلدان التي تشرع في طريق إنهاء الاستعمار).
يمكن تقسيم تاريخ نظام «بريتون وودز» إلى مرحلتين. تميّزت الفترة الأولى (1945 - حتى بداية السبعينيات) بتحديدٍ صارم لسعر الذهب بالدولار، وكذلك سعر صرف الدولار أمام العملات الأخرى. وتتزامن هذه الفترة أيضاً مع المرحلة الأكثر حدّة في الحرب الباردة والتي شهدت فترة غير مسبوقة لمعدلات النمو الاقتصادي في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في جميع دول شرق المتوسط وشمال أفريقيا.
أما الفترة الثانية (من بداية السبعينيات إلى الوقت الحاضر)، والتي يسميها كثيرون بنظام «بريتون وودز بنسخته الثانية»، فقد تميّزت برفض الولايات المتحدة تحويل الدولار إلى الذهب بالسعر الرسمي، وإدخال نظام «التداول الحر»، حيث حددت السوق أسعار صرف جميع العملات.
التفكير في مستقبل النظام
في عام 1973، أبرمت الولايات المتحدة بتحريض من هنري كيسنجر صفقة سرية مع السعودية، بقيت بموجبها عمليات بيع النفط تتم بالدولار فقط، حيث كان من المفروض على دول العالم كلها أن تشتري هذا الدولار من الولايات المتحدة لدفع ثمن النفط الذي تم شراؤه من دول أوبك. بمقابل ذلك، وافقت واشنطن على وضع البترودولار في البنوك الأمريكية بكميات غير محدودة، واستثمارها الحر في الاقتصاد الأمريكي، فضلاً عن توفير ضمانات أمنية أمريكية لدول الخليج المنتجة للنفط (مثل نشر قواعد عسكرية كبيرة في المنطقة). وهكذا، حلَّ النفط محل الذهب كنوع من «الغطاء» للدولار الأمريكي، ما يضمن طلباً مستقراً ومتزايداً باستمرار على العملة الأمريكية مع نمو الاقتصاد العالمي.
استمرت الفترة الأولى من تاريخ نظام «بريتون وودز» ربع قرن، واستمرت الثانية ضعف المدة. حيث تمّ ضمان استقرار نظام البترودولار ونظام التعويم الحر للعملات من خلال الأحداث التي تكشفت في ثمانينيات القرن الماضي، وكذلك العولمة المالية التي زادت من الطلب على الدولار الأمريكي، فضلاً عن نتيجة الحرب الباردة التي خرجت منها الولايات المتحدة بخسائر أقل من خصمها السوفييتي، ما أدى إلى ما عُرف لاحقاً بمرحلة «هيمنة القطب الواحد» التي «اختفى» فيها خصوم واشنطن عن الساحة الدولية لفترة وجيزة.
لكن انخفاض القدرة التنافسية للاقتصاد الأمريكي، والنمو السريع للدول الآسيوية، فضلاً عن المواجهة المتزايدة مع الصين وروسيا التي أخذ وزنهما بالارتفاع مجدداً في بداية القرن الحالي، جعلت موضوع التفكك الحتمي لنظام «بريتون وودز بنسخته الثانية» مثار نقاش بشكلٍ دائم، ولا سيما خلال فترات الأزمات في الأسواق العالمية. وعلى سبيل المثال، في خضم الأزمة المالية العالمية عام 2008، وصل الأمر بالرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، في تشرين الأول 2008 أن دعا حل مؤسسات «بريتون وودز» وخلق شيء جديد أكثر فعالية بدلاً منها. لكن بعد «تجاوز» هذه الأزمة مؤقتاً، تم نسيان هذه الدعوة. ليعود النقاش مع الأزمات المحتدمة بشكلٍ جذري وشامل مجدداً حول مستقبل «بريتون وودز بنستخته الثانية»، فما هي أبرز الرؤى حول هذا المستقبل؟
الإصلاحيين «التكنوقراط»
يعتقد مؤيدو هذا النهج، الذين يمثلون مؤسسات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، والأكاديميات الأكثر ارتباطاً بالبنى الغربية، أنه ينبغي الحفاظ على النظام، و«تصحيح» أشكال تنظيم العمل فقط، و«تكييف» هيكل إدارة النظام مع الوقائع الحديثة. وهم يحصرون المسألة بإطار اللامساوة في توزيع القوة الاقتصادية، حيث تتمتع الولايات المتحدة والصين على سبيل المثال بحقوق مختلفة عند اتخاذ القرارات في نظام «بريتون وودز» الحالي: 16% للولايات المتحدة مقابل 6% للصين، رغم أن كفة القوة الاقتصادية الفعلية تميل للصين بشكلٍ واضح.
ومن الانتقادات أيضاً الموقف الذي تتمتع فيه دول مجموعة السبع، التي تمثل نحو 30% من الإنتاج العالمي، بأكثر من 40% من الأصوات في صندوق النقد الدولي.
ويعترف هؤلاء أيضاً بأن توزيع المناصب القيادية في هياكل نظام «بريتون وودز» كما هو الآن (حيث يرأس صندوق النقد الدولي ممثل عن أوروبا الغربية، والبنك الدولي ممثل أمريكي) ينبغي أيضاً أن يُعاد النظر فيه. ويدعون إلى زيادة تمثيل الاقتصادات النامية في هياكل نظام «بريتون وودز» بنسخته الحالية.
باختصار، فإن التعديلات التي يقترحها هذا الفريق - الذي يمكن أن نرى تعبيراته ماثلة في الكم الكبير من المقالات والبحوث «العلمية» في وسائل إعلام الغرب- في النظام ليست مهمة، لأنها غير قابلة للحياة ولا تحل مشكلة، ولا هدف لها سوى محاولة الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة على العالم.
الليبراليون الأكثر تطرفاً
خلال الفترة التي شغلت فيها كريستين لاغارد منصب المدير الإداري لصندوق النقد الدولي (2011-2019)، بذلت محاولة لإدخال جدول الأعمال الليبرالي المتطرف على نطاق واسع في أنشطة المؤسسات العالمية.
يدعو هؤلاء الليبراليون اليوم إلى «إصلاح» النظام يسفر عن ترسيخ نظام لإدارة الاقتصاد الكلي على المستوى العالمي. وستتمثل عناصر ذلك وفقاً لوجهة نظرهم، بما يلي: (1) آليات فعالة للتشاور بشأن سياسات الاقتصاد الكلي وتنفيذها والإشراف عليها على الصعيد المحلي، (2) إنشاء آليات لتقديم المساعدة المالية في المرحلة الأولى من الأزمات، وليس في وقت تتطور فيه هذه الأزمات لتصبح غير تدميرية، (3) إنشاء نظام لسداد الدول لالتزامات ديونها، على غرار النظام المستخدم في إفلاس الشركات الخاص، (4) توحيد المعايير الاحترازية لإدارة المخاطر المالية، فضلاً عن الإشراف المصرفي وإعداد التقارير المالية.
وبالنسبة لهؤلاء، يتعلّق الأمر في جوهره بالاستعاضة عن سياسة «إجماع واشنطن»، التي تسبّبت في موجة من الانتقادات الحادة، بسياسة أكثر ليبرالية يتبناها «إجماع وول ستريت» أي القطاع المالي الأمريكي، والتي تنطوي على زيادة دور التمويل الخاص وتعزيز أدوات السوق التي يستخدمها في «تقديم المساعدة» إلى الدول النامية.
دعاة العودة إلى «الكينزية»
ينتقد مؤيدو هذا النهج بشدّة مؤسسات نظام «بريتون وودز بنستخته الثانية» لالتزامها بـ«إجماع واشنطن» الليبرالي بشكل متطرف، وفرض الإملاءات، أي وضع الشروط السياسية عند إصدار القروض لدول الجنوب العالمي.
ويطالب هؤلاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالعودة إلى الكينزية على نطاق عالمي، من أجل إعادة توزيع مداخيل بلدان الشمال لصالح العمال والمواطنين الأشد فقراً في البلدان النامية.
ومن بين التوصيات التي يقترحونها: (1) تحويل صندوق النقد الدولي إلى بنك مركزي عالمي متكامل يصدر عملة عالمية، ويضمن استقرار سعر الصرف مقابل العملات الوطنية. (2) تحويل البنك الدولي إلى صندوق يسحب الأرباح الفائضة من أغنى دول العالم (الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وألمانيا ودول الخليج) ويعيد توزيعها بين دول الجنوب لتحقيق أهداف التنمية، (3) إنشاء منظمة تجارة دولية جديدة تحل محل منظمة التجارة العالمية الحالية.
وتكمن واحدة من المشكلات الأساسية في هذا الطرح في أنه ينطلق أساساً من وجود «رغبة» لدى دول المركز الغربي في حل الأزمة المستعصية، كما أنه لا يمس تماماً عصب النهب العالمي المستند إلى مؤسسات نظام «بريتون وودز بنستخته الثانية»، ولا يذهب عميقاً في تحليل هذه الأزمة، بل يكتفي بالانطلاق من مؤسسات موجودة يفترض إمكانية تغيير دورها.
دعاة البناء البديل المناهض للهيمنة الغربية
مع مرور الوقت، تميل الصين وروسيا ومعهما دول «بريكس» الأخرى للمضي في بناء آلية دولية بديلة. فلأكثر من عقد من الزمان، كانت دول «بريكس» تنمو من حيث العدد وفي المؤشرات الاقتصادية الرئيسية. وأعرب قادة المجموعة عن استعدادهم لقبول أكبر اقتصادات أمريكا اللاتينية وشرق المتوسط وجنوب شرق آسيا ورابطة الدول المستقلة في صفوفهم.
ويكمن جوهر هذا النهج في الرغبة ببناء نظام من المؤسسات البديلة عن نظام ومؤسسات الولايات المتحدة ودول مجموعة «السبع الكبار». وحتى الآن، تم بالفعل تشكيل نظير لصندوق النقد الدولي لإدارة مجموع احتياطيات النقد الأجنبي، ويجري تشكيل شبكة واسعة من مؤسسات المساعدة الإقراضية مثل بنك التنمية الجديد، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية، فضلاً عن جوانب مبادرة الصين «الحزام والطريق».
تدرك موسكو وبكين، بالتجربة الملموسة يومياً، أنه على المدى الطويل يصبح التعاون مع واشنطن في إطار المؤسسات متعددة الأطراف مستحيلاً. وأن العالم في حاجة ماسة إلى درجة من الاستقرار في هذه الفترة الانتقالية من تاريخه. ولذلك، فإن ترسيخ دول بريكس كعماد أساسي للهيكل السياسي والاقتصادي الجديد للكوكب، هي خطوة مطلوبة طال انتظارها.
كما أنه من الأسهل إنشاء نظام جديد بدلاً من إصلاح نظام مهترئ موجود. حيث يبلغ عمر النظام الحالي ما يقارب 80 عاماً، وتمتع بفصل طويل من التاريخ، لذلك لا يوجد الكثير من السياسيين في العالم القادرين على أخذ زمام المبادرة لإنهاء النظام الحالي وبناء واحد جديد فوق أنقاضه، وهذا ما يبدو أن روسيا والصين تتصدى له.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1080