شبح «الركود التضخمي»… يحوم قبل معركة أوكرانيا
تسبب الارتفاع المتواصل في أسعار الطاقة منذ العام الماضي، وتفاقمها بالتزامن مع المواجهة العسكرية التي استثارها الغرب في أوكرانيا، في تذكير العالم بشيءٍ مما عاشه في سبعينات القرن الماضي، حينما احتدم الركود التضخمي في المملكة المتحدة بداية الأمر، مطلقاً شارة البدء لركودٍ مثيل في باقي أجزاء العالم.
في أواخر شهر أيار الماضي، قال رئيس البنك الدولي، ديفيد مالباس، في فعاليةٍ استضافتها غرفة التجارة الأمريكية: «بينما ننظر إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي... من الصعب الآن أن نرى ما هي الآلية التي تسمح لنا بأن نتجنب الركود… فكرة مضاعفة أسعار الطاقة كافية لإثارة الركود في حد ذاتها».
وقبل أسبوع، وعلى هامش مؤتمر وزراء مالية مجموعة «السبع الكبار»، قالت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، إن «ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة سيكون له آثار على شكل ركود تضخمي، أي انخفاض في الإنتاج والإنفاق وارتفاع في معدلات التضخم في جميع أنحاء العالم»، وهذه التصريحات تأتي بالطبع في سياق العمل الغربي المحموم لربط ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، رغم أن هذا الارتفاع سابق للعملية ذاتها بوقتٍ طويل.
تضخم وركود... وفي آن معاً
من وجهة نظر الاقتصاد البرجوازي الذي تم تلقينه للمتعلمين في المدارس والأكاديميات الغربية على امتداد العقود السابقة، فإن مصطلح «الركود التضخمي» هو حالة «من المستحيل أن تصيب الاقتصاد» وذلك لما يجمعه المصطلح من ارتفاع حاد في الأسعار وتباطؤ في نمو الناتج المحلي الإجمالي.
ويقال إن هذا المصطلح صاغه السياسي البريطاني المحافظ، إيان ماكلويد، الذي شغل منصب وزير الصحة في عهد تشرشل ووزير العمل في عهد إيدن، وكذلك وزير الدولة للمستعمرات في عهد ماكميلان. ولم يكن خبيراً اقتصادياً على الإطلاق، لكنه ارتكز إلى موهبته في الشعر، للوصول إلى هذه المصطلح في عام 1965، عندما كان وزير الخزانة في حكومة الظل، حيث قال في خطابٍ ألقاه في مجلس العموم: «لدينا الآن أسوأ ما في العالم، ليس التضخم فقط، أو الركود فحسب، ولكن كلاهما معاً. إن لدينا نوع مما يمكن أن نطلق عليه تسمية: الركود التضخمي». ومع ذلك، اكتسب المصطلح شهرة حقيقية في العالم بعد وفاة ماكلويد في منتصف سبعينيات القرن الماضي، عندما واجهت الاقتصادات المتقدمة حظراً عربياً على إمدادات النفط على خلفية حرب تشرين عام 1973 بين مصر وسورية من جانب، والكيان الصهيوني من الجانب الآخر.
ثم، وبسبب توقف إمدادات النفط العربي إلى الولايات المتحدة واليابان وكندا وأوروبا الغربية، انخفض إنتاج أوبك بنسبة 25%، وقفزت أسعار النفط في السوق العالمية على الفور بحوالي أربعة أضعاف. وعانت الدول المستوردة من نقصٍ حاد في الوقود، واضطرت إلى اتخاذ تدابير تقشفية مختلفة. وعلى الرغم من رفع الحظر بعد 5 أشهر، استمرت أسعار النفط في الارتفاع طوال السبعينيات.
أزمات الطاقة سابقاً وأزمات اليوم
ما يحدث الآن يعيد إلى الأذهان بعضاً من الأحداث التي وقعت في العالم قبل 50 عاماً. حيث أن الحظر المفروض على موارد الطاقة الروسية اليوم يتم فرضه من جانب الدول المستهلكة لموارد الطاقة هذه، والتي تقدّم المساعدة العسكرية لحكومة أوكرانيا، وهذا من شأنه أن يخلّف تداعيات وتغيرات كبرى على المستوى العالمي لا يمكن لأحد أن يتوهم أن بإمكانه أن يضع لها سقوفاً من الآن.
جدير بالذكر، أن إحدى تداعيات أزمات النفط في سبعينيات القرن الماضي تجسدت في إدخال خطوط أنابيب غاز ضخمة تربط الاتحاد السوفيتي بأوروبا الغربية، والتي كانت تهدف إلى تقليل اعتماد أوروبا الغربية على النفط العربي. وفي الوقت نفسه، كان يتم التخطيط لمشاريع بناء محطات الغاز الطبيعي المسال في القطب الشمالي لتنظيم توريد الغاز المسال السوفييتي إلى الولايات المتحدة للهدف ذاته، وهو زيادة أمن إمدادات الطاقة من خلال تنويع الموردين. لكن ما يسمى بـ«الانفراج» في العلاقات السوفيتية الأمريكية انتهى قبل أن يبدأ أصلاً، حين تأهبت إدارة ريغان في الثمانينيات بشراسة ضد بناء خط أنابيب الغاز السيبيري لتوصيل كميات كبيرة من الغاز من غرب سيبيريا إلى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والنمسا. وهو ما يحدث بشكلٍ شبيه اليوم، حيث تتأهب الولايات المتحدة لعرقلة الترابط الطاقي بين روسيا وأوروبا، وتستعد للقتال من أجل هذه العرقلة حتى آخر جندي أوكراني أو حتى أوروبي.
ارتفاع الأسعار سابق للحرب في أوكرانيا
رغم التشابه المذكور آنفاً، إلا أن هنالك أيضاً اختلافات كبيرة وجذرية. فالحقيقة هي أن أسعار الطاقة بدأت في الارتفاع قبل وقت طويل من دخول الصراع في منطقة الدونباس شرق أوكرانيا المرحلة الساخنة، ورد موسكو الحازم على العقوبات المفروضة عليها من جانب بروكسل وواشنطن.
في الربع الرابع من عام 2020، وصل نفط برنت إلى ما يزيد قليلاً عن 44 دولاراً للبرميل الواحد، وخلال الربع الأخير من عام 2021 وصل إلى ما يقارب الـ80 دولاراً للبرميل. حيث بلغ ارتفاع الأسعار ما يقارب 80% وسطياً.
ووفقاً لذلك، ارتفع سعر جالون البنزين في الولايات المتحدة بنسبة 89% - من 1.25 دولار إلى 2.36 دولار (وذلك بحسب بيانات إدارة معلومات الطاقة لسعر البنزين العادي FOB في خليج نيويورك). كما ارتفع سعر الغاز في مركز هنري الأمريكي بنسبة 89% ليصل إلى 172 دولاراً لكل ألف متر مكعب.
وهذا كله يبقى ضئيلاً مقارنة بما حدث لأسعار الطاقة في أوروبا خلال العام الماضي. حيث بلغ متوسط سعر الغاز (حسب المركز الهولندي TTF) في الربع الرابع من عام 2021 1,160 دولاراً لكل ألف متر مكعب. أي أكثر بـ6 مرات أو 607% مما كانت عليه أسعار الغاز في الفترة بين شهري تشرين الأول وكانون الأول من عام 2020.
وخلال الفترة ذاتها، ارتفع سعر الفحم المستورد الذي يتم تسليمه إلى موانئ شمال غرب أوروبا بمقدار 2.5 ضعفاً أو بنسبة 241% - من 66 دولاراً إلى 160 دولاراً للطن الواحد. وعلى سبيل المثال، قفز سعر الكهرباء في المملكة المتحدة بما يقارب 4.5 ضعفاً أو 439%. ما يعني أن هذا ليس تضخماً فقط، ولكن تضخم مفرط.
وفوق ذلك، كان تأثير الأزمة الأوكرانية على أسعار الطاقة منطقياً جداً. في الربع الأول من عام 2022، استمرت أسعار النفط والبنزين والفحم المستورد في الارتفاع في أوروبا. وبلغ متوسط خام برنت أكثر من 100 دولار (بزيادة بلغت ما يزيد عن 26% بالمقارنة مع أسعار الربع الرابع من عام 2021)، والبنزين الأمريكي بنسبة 19% والفحم في أوروبا بنسبة 41%، وذلك على خلفية الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي، رغم أنه تم تأجيله حتى شهر آب.
ومع ذلك، لم يرتفع سعر الغاز في الربع الأول من عام 2022، لا في الولايات المتحدة ولا في أوروبا، وانخفضت أسعار الكهرباء في المملكة المتحدة بشكل طفيف في السعر (بنسبة 4%).
في الوقت نفسه، ومقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، تم الحفاظ على محركات النمو. ففي الولايات المتحدة، ارتفعت الزيادات في أسعار الغاز بشكل حاد منذ نيسان على خلفية تباطؤ نمو الإنتاج، واستنزاف مستودعات التخزين، والطلب القوي من مصانع الغاز الطبيعي المسال التي تنتج الغاز المتجه في الغالب إلى أوروبا. ونتيجة لذلك، وصل سعر الغاز في الولايات المتحدة في شهر نيسان إلى 2.5 ضعف ما كان عليه في العام الماضي، وارتفع في شهر أيار الماضي بحوالي 2.7 ضعفاً.
الأسوأ لم يأتِ بعد بالنسبة للغرب
نظراً إلى أن الأسعار المباشرة في الولايات المتحدة ترتبط ارتباطاً مباشراً أيضاً بأسعار محطات توليد الطاقة والمستهلكين الصناعيين والمستهلكين التجاريين (أي السوق بالكامل، باستثناء المشترين الأفراد، الذين يمثلون 17% فقط من إجمالي الطلب البالغ 780 مليار متر مكعب)، فإن الزيادة بمقدار ضعفين إلى ثلاثة أضعاف في أسعار الغاز وضعت عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد الوطني الأمريكي بأكمله. هذا على الرغم من حقيقة أن واشنطن كانت تحاول ترويج نفسها كمصدر صافٍ للغاز الطبيعي منذ سنوات، حيث وعدت الولايات المتحدة بتوفير احتياجات العالم بأسره، بما في ذلك أوروبا، ولكنها لم تتمكن من الحفاظ على مستوى مريح لنفسها هي ذاتها في اللحظات الصعبة.
وبالطبع، الوضع في الولايات المتحدة أفضل مما هو عليه في أوروبا، حيث كانت أسعار الغاز بالفعل أعلى بـ 2-3 ضعفاً، بل وقفزت إلى 5-6 أضعاف. ومع ذلك، فإن سوق الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يعتمد بنسبة 90% على الواردات.
ونتيجة لذلك وصل التضخم في الولايات المتحدة في شهر آذار الماضي إلى أعلى مستوى له منذ 41 عاماً عند 8.5%، وتابع ارتفاعه إلى أن أصدر مكتب إحصاءات العمل في الولايات المتحدة بياناته الجديدة يوم الأربعاء الماضي 13/7/2022 ليكشف أن رقم التضخم وصل إلى 9.1%، وفي المملكة المتحدة وصل إلى 7%، وهو ما لم يسبق له مثيل منذ 30 عاماً. وفي الاتحاد الأوروبي وصل التضخم إلى 7.5% وسطياً (قبل عام كان 1.6%). وعلاوة على ذلك، سجلت 5 بلدان من أصل 27 بلداً في الاتحاد تضخماً من رقمين، حيث شهدت إستونيا زيادة في الأسعار بنسبة 19%.
لقد عانت اقتصادات أوروبا والولايات المتحدة من هذه المشاكل كلها قبل تفاقم وضع الحرب في أوكرانيا. ولا يزال فرض حظر كامل على موارد الطاقة الروسية بعيد المنال، ولكن الصعوبات المتعلقة بالخدمات اللوجستية والإنتاج في بعض القطاعات، مثل الأسمدة المعدنية، بدأت بالفعل في الظهور وستشتد في المستقبل المنظور، ما سيسرع التضخم، ويغذي المخاوف من نقص الطاقة، ويثير تباطؤاً إضافياً في النمو الاقتصادي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1079