إلغاء دولرة الاقتصاد العالمي: لم تعد مسألة بعيدة المنال
يُعبر النظام المالي العالمي عن الطريقة التي يتم وفقها ترتيب التبادلات الاقتصادية الدولية وآليات التسعير والتبادل بين العملات وتسوية المدفوعات المالية… إلخ. وكما هو الحال في كل الظواهر التاريخية، فإن النظام المالي الدولي ليس نظاماً أبدياً، بل هو ظاهرة تتطور تبعاً لتغيّر الظروف والتوازنات.
في نهاية الحرب العالمية الثانية، دفعت الولايات المتحدة الأمريكية نحو إنشاء نظام «بريتون وودز» الذي رسّخ الدولار الأمريكي كعملة تبادل عالمية. ومنذ بداية سبعينيات القرن الماضي - مع بدء المرحلة النيوليبرالية- ووصولاً إلى انفجار الأزمة المالية العالمية في عام 2008، شهد العالم انقلاباً أمريكياً على نظام «بريتون وودز» وذلك حين أعلنت الولايات المتحدة إلغاء تغطية الدولار بالذهب. رغم ذلك، حافظ الدولار على موقعه كعملة تبادل عالمية مستنداً لا إلى التغطية بالذهب بل للهيمنة والقوة الأمريكية التي تسيدت على الكوكب بوصفها قطباً واحداً و«شرطياً عالمياً».
تبدل الأوزان الاقتصادية والمساهمة الدولية
بعد انفجار الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وضعت التبدلات في الموازين الدولية والتطورات العالمية عموماً هيمنة الدولار أمام تحديات جذرية، ومنذ ذلك الحين بشكلٍ خاص، بدأت العمليات الجنينية لنزع الدولرة عن الاقتصاد العالمي تتسارع بقوة، ومن مؤشرات ذلك:
أولاً: تطوّر التعاون الاقتصادي العالمي متعدد الأقطاب بشكلٍ عميق، وهو التعاون المرتكز في الدرجة الأولى على الارتفاع السريع في النواتج المحلية الإجمالية للدول غير الأمريكية، وكذلك مساهمة هذه الدول في الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ففي حين انخفضت حصة الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة في الناتج الإجمالي العالمي من 40% في عام 1960 إلى 24% في عام 2021، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي لآسيا من 20% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي قبل أربعين أو خمسين عاماً، إلى 47% في عام 2021.
وفي السنوات العشر الماضية، استقرت مساهمة الاقتصاد الصيني في النمو الاقتصادي العالمي عند حوالي 30%. وحتى خلال العامين الماضيين الذين اتسما بتراجع النمو عالمياً بالتزامن مع تفشي وباء كوفيد-19، وصل وسطي معدل النمو الاقتصادي في الصين لمدة عامين إلى 5.1%، لتحتل المرتبة الأولى بين الاقتصادات الكبرى في العالم وتستمر في كونها محرك النمو الاقتصادي العالمي.
سرّع ذلك إلى حدّ بعيد من عملية تظهير التغير في الوزن العالمي للولايات المتحدة، ووضع حدّ للرؤى التي نظرت إلى واشنطن بوصفها قاطرة الاقتصاد العالمي خلال عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى هذه الأرضية بالذات، ترتفع الضرورة اليوم لتسريع التغيرات في الهيكل السياسي الدولي على نحو يتناسب مع التغيرات في الأوزان والأدوار الاقتصادية، وفي القلب من هذه العملية ضرورة إنهاء هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي.
العقوبات: سلاح موجه نحو الدولار نفسه
ثانياً: واصلت الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية الإفراط في نزع الثقة عن الدولار الأمريكي. فبالاستناد إلى ما سمي بمبدأ «أمريكا أولاً»، خاض الرئيس السابق، دونالد ترامب، حرباً تجارية وجمركية سلاحها العقوبات الاقتصادية التي سرّعت بشكلٍ واضح من الانكفاء الأمريكي ودفعت القيادة العالمية للولايات المتحدة نحو المزيد من التراجع.
وبعد وصول إدارة الرئيس الحالي جو بايدن إلى السلطة، لم يقم فعلياً بأية إجراءات من شأنها رفع الثقة الدولية بالدولار الأمريكي. بل وفوق ذلك، دفعت سياسة «التيسير الكمي» غير المحدودة التي انتهجها مجلس الاحتياطي الفيدرالي بعد جائحة كوفيد-19 إلى المزيد من فقدان الثقة باحتمالات استعادة الدولار الأمريكي عافيته.
وبعد الحرب في أوكرانيا، اتفقت الولايات المتحدة وأوروبا على استبعاد روسيا من نظام المدفوعات العالمية SWIFT، ما أدى إلى رفع المخاوف لدى مختلف الدول التي سارعت إلى دراسة تسوية التبادلات العالمية وأنظمة الدفع البديلة بعيداً عن الدولار الأمريكي. وعلى هذا النحو، نرى المزيد من الدول التي تبحث عن عملات أكثر استقراراً، وهذا ما انطبق ليس فقط على دول ثلاثي آستانا، حيث بدأت تركيا عملية تقليص حيازاتها من الأصول الدولارية، وأعلنت إيران أن التقييم المسبق لمعاملاتها النفطية لن يستخدم الدولار الأمريكي بعد الآن، وبدأت روسيا في استخدام عملتها المحلية في تجارتها من الموارد الطبيعية، بل وحتى الدول الأوروبية الكبرى ذاتها تروّج اليوم للنسخة الأوروبية من نظام المدفوعات.
توطين الإنتاج وكسر التبادل اللامتكافئ
ثالثاً: ثمّة تطور جديد في التقسيم الدولي للعمل: بعد انفجار الأزمة المالية عام 2008، تباطأت عملية عولمة الاقتصاد العالمي الخاضعة للتحكم الأمريكي، وتعزز اتجاه توطين الإنتاج لدى عدد كبير من الدول المناهضة لهيمنة الولايات المتحدة.
وهذا يرفع، كما شرحنا سابقاً، من الوزن العالمي للدول الأقوى من حيث الخامات والإنتاج الحقيقي. حيث وضعت الأرضية فعلياً لإنهاء نظام التبادل اللامتكافئ الذي سمح - لعقود مضت - بنهب الدول الغربية للمواد الخام من أماكن وجودها في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية بأقل من قيمها الحقيقية، وتصديرها كبضائع مصنعة بأسعار تزيد بكثير عن قيمتها (وكلنا نرى اليوم كيف بدأت دول بالفعل بتسعير ثرواتها بغير الدولار الأمريكي).
عودة إلى «بريتون وودز»… ونظرة للأمام
لا شك أن عملية بناء النظام النقدي العالمي الجديد ستأخذ وقتها اللازم، وستكون ثمة وقفات وإعادة صياغة للخطط بين الحين والآخر، إلا أن ما هو مهم أن العملية بحد ذاتها تتسارع بشدّة.
انتقلنا في آب عام 1971 من معيار الذهب إلى «الوضع الائتماني»، حيث تخلت الولايات المتحدة من جانب واحد عن ربط الدولار الأمريكي بالذهب، لأنها لا تستطيع الوفاء بوعدها بأن أوقية الذهب ستساوي 35 دولاراً، ما أدى إلى تعطيل نظام «بريتون وودز». ومنذ نهايات القرن الماضي، كانت الشكوك حول وضع الدولار الأمريكي تتزايد، حيث ظهر اليورو كمنافس قوي في عام 1999، إلا أنه لم يستطع القضاء على هيمنة الدولار الأمريكي بفعل القوة الأمريكية في حينه. اليوم نحن في صميم مرحلة تتعزز فيها القدرة على فرض عملات تبادل عالمية غير الدولار.
لهذا تزداد نسبة التسويات باستخدام العملات المحلية بين دول العالم، وتم تشكيل المزيد من ترتيبات التسوية الإقليمية. لنأخذ مبادرة الحزام والطريق كمثال: تعمل الدول الواقعة على طول الطريق على إنشاء نظام خدمات مالية أكثر اكتمالاً، مثل تسريع التخطيط الشبكي للمؤسسات المالية للدول المحلية في البلدان الواقعة على طول الطريق وبناء نظام تبادل ودفع وتسوية غير دولاري بديل لنظام سويفت.
وبالإضافة إلى العمليات الأساسية مثل التسويات والتحويلات الدولية، سيتم أيضاً تزويد الشركات المشاركة في مبادرة الحزام والطريق بعمليات جديدة مثل قروض الائتمان المحلية والإقراض بين البنوك. وعندما يحين الوقت، سيكون من الممكن توسيع الخدمات ذات الصلة لتشمل الشركات الناشئة الأصغر أيضاً مثل المصارف الاستثمارية، ووكالات العقود الآجلة للأسهم، وما إلى ذلك. أي إن اتجاه كسر الهيمنة المالية الأمريكية يسير بخطا متسارعة وعلى نحو سيشمل ليس العمليات الكبيرة فحسب، بل والأصغر أيضاً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1071