أزمة الطاقة لا حلّ لها ... تأمين الرّبع بأفضل الأحوال

أزمة الطاقة لا حلّ لها ... تأمين الرّبع بأفضل الأحوال

أزمة الطاقة هي العنوان العريض لكل الأزمات الحالية... فهي تعكس عملياً أزمة الليرة وعدم قدرة الأموال المتوفرة بالعملة الوطنية على تأمين حاجات استيراد عصب الإنتاج المتمثل في النفط، وهي تعكس أيضاً أزمة تراجع دور جهاز الدولة الاقتصادي والاجتماعي وعدم قدرته على تأمين الأساسيات، كما تعكس حالة الشلل الإنتاجي التي تصيب البلاد. الأسوأ، أن كل المعطيات الحالية تقول إن أزمة الطاقة لا يمكن حلها جدياً... بمثل هذه الموارد وهذا الأداء.

الحاجة إلى 200 ألف برميل وتأمين أقل من 50!

مؤخراً، كررت الحكومة أرقاماً حول حاجاتنا اليومية من النفط الخام لتوليد الطاقة، مشيرة إلى الحاجة لـ 200 ألف برميل نفط يومياً. وهذه عملياً ننتج منها 20 ألف برميل، ونحتاج لاستيراد 180 ألف برميل من الخارج وبالقطع الأجنبي بطبيعة الحال.
إن تأمين حاجات النفط هذه وفق أسعار النفط التي تتجه نحو الارتفاع حالياً، تتطلب مبلغاً يقارب: 4,2 مليار دولار سنوياً.
وهو مبلغ أصبح خارج إمكانات الحكومة السورية، فلا موازنتها العامة بمجملها تغطيه، ولا حتى حصولها على كل تدفقات الحوالات الخارجية (إن كانت قد بقيت عند حدود 3 مليار دولار) يستطيع أن يغطي مبلغ حاجات الطاقة، ولا حتى إن وصلت إلى الحكومة السورية معظم أموال المساعدات الدولية السنوية المخصصة في مؤتمرات دولية كمؤتمر بروكسل! (وهذا لن يحصل بطبيعة الحال).
فالموازنة العامة برقمها البالغ 8500 مليار ليرة لعام 2021، أصبحت تعادل اليوم ما يقارب: 2,8 مليار دولار (وفق وسطي من مجموع أسعار الصرف الحكومية التي صدرت خلال الأسبوع الماضي). وإذا ما تمّ تخصيص كل إمكانات الموازنة لمستوردي النفط الخام لن يكون بالإمكان تأمين إلّا ثلثي حاجات الطاقة!

عدم وجود تمويل حكومي هو سبب الأزمة

الحكومة تعترف بهذا الواقع، ورئيس الحكومة قال بتصريحه الأخير إن الحكومة تؤمن النفط الخام من إيران بواقع كلفة 50 مليون دولار شهرياً، دون أن يذكر الكميات. و50 مليون دولار شهرياً تستطيع أن تؤمن فقط قرابة 26 ألف برميل يومياً... ما يعني أن ما يمكن للحكومة أن تؤمنه بالاستيراد عبر السفن الإيرانية الدورية والإنتاج المحلي لا يتعدى 46-50 ألف برميل يومياً من أصل حاجة: 200 ألف برميل، أي الرّبع بأفضل الأحوال!
وحتى بهذا المستوى من التقشف في الطاقة، فإن الحكومة تحتاج لتأمين هذه الكميات القليلة إلى استهلاك خمس الموازنة...
الحكومة تقول وضوحاً إنها غير قادرة على تأمين حاجات الطاقة إلّا بمقدار الرّبع بأحسن الأحوال، وهو ما نراه في واقع تقنين الكهرباء والمحروقات الذي وصل في الأشهر الستة الماضية إلى التجفاف التام عدّة مرات، نتيجة عدم القدرة على تمويل الأساسيات من حاجات الطاقة بالدرجة الأولى، أما العقوبات فهي كما توقّف قناة السويس عوامل يمكن التكيف معها، وهي ليست المانع الأساسي.
إن تأمين ربع حاجات الطاقة بأفضل الأحوال، هو تقليص النمو الاقتصادي وقدرات الإنتاج بمعدلات متقاربة. هذا الإنتاج الذي تعيقه عوامل عديدة ومعنّدة أخرى تضاف إلى نقص الوقود، فمن وضع الليرة إلى كلف الفساد إلى نقص التمويل إلى نقص القوى العاملة الشابة والخبيرة وغيرها الكثير... كلها عوامل تتكاتف لتقلّص ما تبقى من الناتج.

الحلول محصورة في اتجاهات سياسية

تأمين الطاقة لا حل له بالمعطيات الحالية، فحتى لو استعادت السلطات النقدية جزءاً من القطع الأجنبي الوارد عبر الحوالات بعد رفعٍ نسبي لسعر صرفها، فإن كتلة تمويل مستوردات الطاقة تبقى أكبر.
والحلول محصورة في اتجاهات محددة:

فإمّا الحصول على تسهيلات ائتمانية تُدفع لاحقاً، وهو الأمر الذي لا يبدو متيسراً سياسياً، فتجربة الائتماني الإيراني السابقة انتهت عملياً منذ 2018، وأصبح التوريد مشروطاً بالدفع الكاش بعد عدم سداد كامل المدفوعات السابقة...
أو بتحرير سوق الطاقة المحلية لتصبح مستوردة عبر القطاع الخاص، ويتم قطع الشعرة الأخيرة في دور جهاز الدولة الاقتصادي، وتنتهي كل إمكاناته على التحكم و(لو الشكلي) بمستويات الأسعار. وهو اتجاه له قوى تدعمه وأوزان اقتصادية تريده، ولكنه عملياً يُنهي المكاسب التي كانت تحققها قوى أخرى من فارق أسعار المحروقات الحكومية عن السوق، كتلة الفساد الكبيرة في التوزيع التي تشكّل تمويلاً غير مباشر لشريحة واسعة من رجالات الفساد وموظفيه، الذين يعتاشون على مخصصات دعم المحروقات... وسيكون لهذا الاتجاه بناء على السابق قوى تعارضه من أصحاب النفوذ الذين لن يستطيعوا تأمين تمويل مقابل لأزلامهم بعد أن كانوا يمولونهم من نهب الدعم في جهاز الدولة.

الاتجاه الآخر، هو فتح باب الحصول على الطاقة من الحقول السورية في الجزيرة، الأمر الذي يعيقه الأمريكيون حتى الآن، والذي لا تصل الأطراف السورية إلى حلّ له رغم تفاوضها بشكل دوري مع بعضها البعض! وهو الاتجاه الموضوعي والصحي المشروط بإيجاد توافقات بين السوريين وفتح باب التسويات، وهذا أيضاً تقف دونه قوى معنّدة في كل الأطراف لا ترى مشكلة، بل ترى منفعة، في استمرار تقطّع أوصال البلاد.
أخيراً، هنالك بعض الحلول الممكنة نظرياً، والمستحيلة عملياً وفق المعطيات السياسية الحالية... كأن تتم استعادة الكتلة العظمى من القطع الأجنبي المتكدّسة في السوق السوداء، ولدى القوى الكبرى القادرة على إحداث موجات مضاربة استثنائية كالتي شهدناها مرتين على الأقل منذ مطلع العام الحالي... ولكن مصادرة قدرات وأموال وثروات هؤلاء هو قرار سياسي لا يبدو أن لدى أحد مصلحة وعزيمة للقيام به، وحتى إن تمّ الحديث عن مصادرة هذه الأموال، فلم نرى أي فعل ذي أثر لتوجيهها نحو دعم استمرارية الحياة الاقتصادية في سورية. بل يتم الاكتفاء ببعض الإيحاءات بالحركة، كإقالة موظف كبير هنا أو هناك ودفع (الإعلام الموجّه) لتحميله المسؤولية دون أية محاسبة رسمية أو (شفافية) كما يقال. أو يتم إصدار قوانين تلاحق الأسعار النهائية للمواد في السوق، بحثاً عن (اللصوص الذين يرفعون الأسعار)، بينما الأسعار تحدّد عملياً في دوائر ضيقة جداً تتحكم بالتمويل بالليرة والدولار وباحتكار المنتجات الأساسية. وهو ما يشبه إجراءات سابقة لمحاربة (السوق السوداء) للقطع الأجنبي عبر ملاحقة حركة الدولار لدى القوى الأضعف، وهي قوانين يعلم الجميع أنها تحولت إلى (باب استرزاق) بعلاقة بعض السلطات مع سوق نصف الجملة والمفرق... بينما يُترك أولئك الكبار القادرون على رفع سعر الصرف 17% وتخفيضه خلال أقل من عشرين يوم دون أن يمسهم سوء، ليبرهنوا لنا قريباً أنهم قادرون على اختلاق موجات أخرى من تخفيض قيمة الليرة، أياً كانت القوانين العائمة على سطح الأزمة لا أكثر.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1014