الـ 5000 ليرة السوق تحتاج ليرات لمواكبة سعر الدولار

الـ 5000 ليرة السوق تحتاج ليرات لمواكبة سعر الدولار

التقديرات المنطقية تقول بأن الـ 5000 ليرة المطبوعة ستتحول إلى كتلة فائضة في السوق لأن مستوى الأسعار الحالي يحتاج إلى كتلة ليرة إضافية... ولن يكون هذا سبباً في ارتفاع الأسعار، فالأسعار عملياً مدولرة وترتبط بالعمق بتراجع تدفق السلع داخل الاقتصاد السوري وإليه.

أطلقت الحكومة الـ 5000 ليرة وأتت التصريحات الرسمية لتقول بأنها ستكون بديلاً عن أوراق تالفة، ثم لتقول: إنها ستكون إلى جانب الأوراق النقدية الأخرى... ثمّ أتى وزير الاقتصاد ليتحدث عن «النمو الاقتصادي» في 2020، وكلها محاولات أشبه (بالبرستيج الحكومي) الذي يجب أن يرافق إجراءات من هذا النوع، حيث العرف السائد بأن الحكومة يجب أن تبدو واثقة بنفسها وتحاول طمأنة الشارع... بينما الجميع يعلم والحكومة أولّهم أن الثقة مفقودة.

العملة الجديدة المطبوعة منذ عام 2019 كانت تنتظر النزول إلى السوق، والحكومة تتعامل مع الأمر الواقع كمنفعل وليس فاعل... فعملياً السوق تسعّر على أساس الدولار، بل يضاف إلى ذلك حقيقة أن شريحة واسعة من المستهلكين تستهلك أيضاً على أساس الدولار مع نظام الحوالات الذي أصبح يساهم بالحدود الدنيا بنسبة 20% من الإنفاق على الناتج، بينما مساهمة كتلة الأجور والرواتب الحكومية قد لا تزيد عن 2% من مجمل الإنفاق.
الحكومة تضخ ليرات إضافية لتستطيع أن تواكب تقلبات الدولار، وتعبر عن قيمته. وهي لم تعد قادرة على تخفيض سعر الدولار بل تستطيع أن تعمل على توفّر كتلة ليرة في السوق، ليبقى التداول الشكلي على الأقل بالليرة، وهذا طبعاً الحد الأدنى الممكن، أمّا الحديث عن تعويم الليرة، فهو الأخطر وسيؤدي عملياً إلى وقف دورها كوسيط تداول في السوق المحلية.

الحاجة لكتلة نقدية أمر واقع

قارب ناتج 2019 وفق آخر الإحصائيات الحكومية: 11,9 ألف مليار ليرة، أي: ما يعادل 17 مليار دولار بسعر الدولار الفعلي في نهاية ذاك العام... أما في نهاية 2020 فإن الكتلة النقدية بالليرة التي نحتاجها مقابل الناتج ذاته، أصبحت 40 ألف مليار ليرة! وهذه الكتلة (لا تلزم كلّها) بل أقل منها بطبيعة الحال... ولكن، حتى لو خفّضناها بسرعة تداول النقد المعتمدة في سورية 1,4*، واعتبرنا أن الناتج في سورية انكمش بنسبة 10% كما في دول الجوار خلال عام 2020 والأزمة الاقتصادية عبر العالم... فإننا نبقى بحاجة 25-26 ألف مليار ليرة ليبقى التداول في السوق قائماً بالعملة الوطنية ولتبقى الليرة متوفرة على الأقل... حتى لو كانت تعكس الأسعار المسعّرة على الدولار!
أما ما هي الكتلة النقدية الموجودة بالليرة في السوق السورية قبل طبع الـ 5000 ليرة الجديدة؟! فلا أحد يستطيع التقدير بوضوح، ولا الحكومة تصرّح عن رقم سيادي كهذا! وآخر التقديرات كانت حول عام 2018 أشارت إلى وجود كتلة في مجمل السوق تقارب 6000 مليار ليرة ، وفق د. علي كنعان من جامعة دمشق. ولكن لم تأتِ تقديرات أخرى لاحقاً... وإذا أخذنا الموازنات الحكومية كمؤشر على زيادة إصدار العملة فبين عامي 2018-2020 زادت كتلة الليرات في الموازنة بما يقارب 822 مليار ليرة فقط، وهي غالباً لم تصدر بكاملها لأن الإنفاق الحكومي تقلّص في العامين الماضيين. الأمر الذي يشير إلى أن كتلة الليرة قد تحتاج إلى الزيادة وفق هذه التقديرات وهو الأمر الواقع الذي فرضته الدولرة!
(هنالك على الأقل كتلة حوالات تصل للسوق تقارب 3 مليارات دولار بأقل التقديرات، وهذه تحتاج اليوم إلى 9000 مليار ليرة يتم تداولها في السوق السوداء).
ما نريد قوله: إن كتلة الليرة في السوق لم تعد محدداً حاسماً، بل قد تكون هنالك حاجة فعلية لزيادة كتلة الليرات لتعكس الارتفاع في المستوى العام للأسعار المقيّم بالدولار وليس بالليرة. وإذا لم تتواجد هذه الكتلة، فإن السوق ستفرض تداولاً مباشراً بعملة أخرى!

المسألة ليست بالأصفار

إنّ الخوف ليس من فائض كتلة الليرة، بمقدار ارتفاع المستوى العام للأسعار مقابل تجميد كتلة الأجور ومقابل تراجع الدخل الحقيقي للمنتجين، وكلاهما ناتج عن هيمنة الدولار وعن السياسات والظرف الذي يدفع إلى تراجع عميق في الناتج الاقتصادي وفي كتلة السلع المنتجة والمتدفقة إلى البلاد.
تواكب إصدار الـ 5000 ليرة مع ارتفاع مباشر في أسعار المواد الغذائية الأساسية في السوق... البعض يقدّر الارتفاع منذ الإصدار بما يزيد عن 20% وارتفع الزيت والسكر والرز والفروج بمستويات قياسية، حيث تقوم السوق بردة الفعل المعتادة عندما تتوقع خضة اقتصادية، حيث يسعى الموردون الأساسيون لضمان حصتهم المسبقة من الكتلة النقدية المرتقبة تحسباً لانهيارات في قيمة الليرة هي متوقعة في أية لحظة مع الـ 5000 أو دونها.
المشكلة مجدداً ليس بعدد وأصفار الورقة النقدية، بل بالقدرة الشرائية للدخول... وبمستوى مساهمة الليرة في تمويل إنتاج السلع محلياً، وكلاهما في أسوأ حال له. فالأجور مثبتة عند حدود دنيا، لا تؤمن غذاء كافياً لشخص واحد، والتمويل بالليرة لا معنى له طالما أن كل المستلزمات الأساسية والطاقة مستوردة ومحتكرة ومرهونة ليس فقط للدولار، بل للنخبة التي تملكه وتتاجر به خارج إطار الإنتاج.

اليوم لن تنقذ السياسات الحكومية الليرة، وإصدار كتلة نقدية إضافية قد لا يكون المشكلة، فالحكومة تستجيب للسوق وترسل كتلة ليرة لتواكب الأسعار المدولرة... ولكنّ الحديث عن التعويم هو المؤشر المخيف، وهو يعكس نوايا وسياسات وآراء لدى قوى سياسية واقتصادية ومالية تريد عملياً أن تجعل (الدولرة) أمراً واقعاً، والليرة تصبح وسيطاً ضعيفاً في التداول ويمكن الاستغناء عنها... لا يمكن إنقاذ الليرة إلا بزيادة دورة إنتاج وتدفق السلع وزيادة قدرة عموم السوريين على الاستهلاك، وهذا يعيقه جدياً قوى (البطش الاقتصادي) التي تحتجز أكبر كتلة من الموارد وتستثمر في الفساد والفوضى و(السلبطة) بالدرجة الأولى. بينما ينتظر الكثير من السوريين وقوى أخرى القدرة على تحقق ظرف يسمح جدياً بالاستثمار في سورية، بلد إذا انفكّت عنه سطوة الفوضى فقط، وتمّ السماح لعجلة المجتمع بالحركة والإنتاج يمكن أن يحقق معدلات عائد إنتاجي تفوق 50% وفق تقديرات الاقتصاديين، وهو معدل مرتفع بالقياس بمعدلات العائد الاستثماري الحقيقي عالمياً... وهذا وحده كفيل بتجاوز العقوبات وتخفيف دورها عبر حركة كتلة الليرة والموارد الأخرى المتاحة، لنستطيع الاستمرار على الأقل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1003
آخر تعديل على الإثنين, 01 شباط/فبراير 2021 09:34