الأساسيات مسألة سياسية ولكنهم «...لا يفقهون»

الأساسيات مسألة سياسية ولكنهم «...لا يفقهون»

مع كل مستجد اقتصادي في الوضع السوري تستطيع أن تسجّل رقماً قياسياً جديداً، ومع كل خطوة نحو التدهور نتقدم للصدارة في أرقام المآسي، وبينما تستمر العقوبات الإجرامية الدولية، تستمر أيضاً سلسلة التجاوب معها بإجراءات وسياسات لم تتبعها أية دولة معاقبة دولياً، إجراءات تنم عن التغاضي عن حقائق بسيطة ولكن كارثية.

 

اتُخذت القرارات المرتقبة بعد سلسلة أزمات الطاقة التي شهدتها البلاد، فرفعت الحكومة (التي لا تحكم) أسعار الطاقة للصناعة ولنقل البضائع وللبنزين، ضاربة عرض الحائط كل النتائج الاقتصادية- الاجتماعية- السياسية التي تنجم عن مثل هذا النوع من القرارات.

وانطلقت بعدها سلسلة ارتفاعات في الأسعار، بدأت مباشرة في أسعار الغذاء المحلي والمستورد بنسبة وسطية بلغت 7% تقريباً حتى الآن. كان أعلاها ارتفاع أسعار الخضار الأساسية المحلية، ومنتجات الألبان والبيض، وسلسلة أسعار المنتجات الصناعية المحلية من غذائيات ومنظفات ومنتجات سريعة الدوران في السوق... حيث يكرر موزعوا الجملة لباعة التجزئة مقولة: (اليوم في بضاعة... بكرا ما في)! موجة الارتفاع لن تتوقف هنا، إذ بدأت تنعكس في أسعار الغذائيات المستوردة، فارتفعت أسعار الرز والسكر والزيوت وارتفع الذهب، وتراجعت قيمة الليرة. كل هذا وسط استمرار أزمة الخبز وترقّب رفع أسعاره.

الجوع والفقر أصبحا منجزين ومعمّمين في سورية، وتعميقهما مستمر... فعندما تتوقف صناعات وورش واسعة مع موجة جديدة من ارتفاع الكلف وتراجع الطلب، فإن سلسلة الدخل القليل الموزع على ملايين أسر العاملين بأجر ستنحسر، وسيحمل أصحاب الأموال أموالهم ويخرجوا إلى حيث يمكن أن يحققوا دخلاً، وستبقى أسر العاملين بأجر باحثة عن أي مصدر دخل آخر، حتى لو كان بالتشرد وصولاً للارتزاق.

وبالمقابل، فإن الحكومة تعلن وضوحاً عدم قدرتها على (الإغاثة) وهي لا تستطيع أن تقدم إلا كتلة دخل لمرّة واحدة، ولشهر واحد كما في منحة الـ 50 ألف ليرة، بينما الأسعار سترتفع خلال الأشهر القادمة مع تجلي آثار موجة جديدة من توقّف الإنتاج وتراجع الليرة.

 

نتائج واضحة لا تخفى على أحد

لا تخفى هذه النتائج الواضحة على من يتخذ مثل هذه القرارات، ولكن بنية القرار الاقتصادي في سورية متكيفة منذ عقود مع مصلحة نخب المال، وكلما زادوا ضيقاً وتوحشاً كلما أخذت القرارات طابعهم، وفقدت أي ارتباط لها بالوقائع الاجتماعية. العقوبات تستهدف الفوضى والإجراءات (لمواجهتها) تخطو خطوات نحوها لأنها لا تستطيع ببساطة أن تواجه العقوبات عبر تعبئة الموارد من أثرياء الفساد والحرب، وتحولها إلى طاقة وغذاء وإنتاج. فحتى هذه الأساسيات يتم تأمينها عبر ربح هؤلاء وبمستوى رغبتهم وقدرتهم على الإنفاق، فإن استوردوا باخرة بنزين عليهم أن يحققوا ربحاً بمستوى يفوق 40 ويصل إلى 50% وعدا هذا فإنهم قد لا يستوردون. ولكن نقص الطاقة والغذاء يعني الشلل الكامل، ويفتح كل الاحتمالات... وهو مسألة سياسية بالدرجة الأولى.

(الحقّ على الحلفاء)!

 

ولأن الطاقة والجوع مسألة سياسية ينجح البعض في تركيز الأنظار على (الأصدقاء والحلفاء).. لتعلو الأصوات التي تحمّلهم المسؤولية وتدعوهم للإنقاذ. وبينما تشير المعلومات العامة إلى مساعٍ لتوافقات اقتصادية، فإن المتسرّب من الإعلام السوري الموجّه يشير إلى عدم التوافق، وتعلو نبرة خطاب تبدأ من العتب وتصل إلى الهجوم.

وبعيداً عن تحليل النوايا، فإن العلاقات الاقتصادية الدولية لها أسس، وهي لا تقوم على (فعل الخير)، واليقين الأكيد: أن أطرافاً دولية وإقليمية حليفة معنية جدياً بعدم وصول سورية إلى الفوضى مجدداً، أكثر مما هم معنيين بمرابح من هنا وهناك... ولكنهم معنيون أيضاً بألّا تتحول مساعداتهم إلى مصدر ربح غير مشروع، وبالمقابل لا تساهم بحل أزمة البلاد بشكل فعّال.

قد لا تُعلن نتائج مفاوضات اليوم وشروط الأطراف، ولكننا نعلم على الأقل أن روسيا طرحت في عام 2013 أن يتم شراء باخرة نقل يونانية مستعملة يُرفع عليها العلم الروسي لتأمين تدفق الطاقة بشكل مستمر بـ15 مليون دولار كشفت عليها لجنة مختصة بوزارة النقل ولكن البنك المركزي عرقل شراءها هي أو غيرها منذ ذلك الحين رغم كل القرارات الوزارية، ونعلم أيضاً أن الإيرانيين سعوا إلى توقيع اتفاقيات مقايضة بضاعية لتصدير زيت الزيتون السوري مثلاً، مقابل منتجات غذائية ودوائية وصناعية، ولكنها مقترحات نامت في خزائن القرار وبقي الزيت ليجمعه التجار ويصدروه بأبخس الأسعار، ويعلم الجميع أيضاً أن الخط الائتماني الإيراني كانت منتجاته تباع في السوق السورية، ولا يسدد كامل المبالغ للإيرانيين. وما كان صحيحاً في الأمس لا يزال صحيحاً اليوم، إذ لا يوجد أي مؤشر على أن السلوك الروسي الإيراني أصبح أكثر (طمعاً)، والميل السوري أصبح أكثر عقلانية.

الأموال الضرورية لتأمين الأساسيات يجب أن تُجمع من أولئك الذين لا تزال الولايات المتحدة قادرة على إيجاد مصالح وأموال وأعمال لهم في الخارج

 

مال الأثرياء لتأمين الأساسيات للمجتمع

 

إنّ تأمين الحاجات الأساسية من القمح والنفط على الأقل من روسيا وإيران يحتاج إلى تأمين كتلة مالية تحت تصرّف المال العام للوصول إلى عقود ثابتة ومستقرّة. وهذه الكتلة المالية يجب ألّا يدفعها المجتمع السوري، وألّا تُجمع من الجباية من الشرائح الواسعة من أصحاب الأجور والمنتجين، بل يجب أن تُجمع ممن اغتنوا على حساب فقر المال العام، وتوزّع بحيث تولّد إنتاجاً ودخولاً واستقراراً وتمنع توالد الفوضى، وتربط السوريين ببلادهم عوضاً عن تشكيل موجة هجرة جديدة.

الأموال الضرورية لتأمين الأساسيات يجب أن تُجمع من أولئك الذين لا تزال الولايات المتحدة قادرة على إيجاد مصالح وأموال وأعمال لهم في الخارج، والذين يفضلون المتاجرة مع الإمارات وتركيا، ويتجنبون عقود مقايضة مع إيران، التي اعتادت على مواجهة العقوبات بهذه الطريقة تاريخياً، ولم تنجح بإقناع الطرف السوري بصفقة واحدة من هذا النوع! ولا يلجؤون للاستيراد من روسيا إلا تحت ضغط الحاجة والنقص ومن القمح حصراً، بينما روسيا هي المصدّر العالمي الأكبر للقمح وبأسعار أقل من الأسعار العالمية.

لم ينجح التعاون إلا في مجالات (إشكالية) وباتفاقيات مع شركات خاصة روسية ومع الطرف الإيراني في مجالات كالفوسفات، وبعقود استثنائية تتقلص حصة المال العام منها إلى 30% بينما 70% تتوزع على الشركات المساهمة، ولكن ربما على شركائها السوريين أيضاً الذين قبلوا بمثل هذا الإجحاف، وهي شراكات غير موضوعية، ولم تنجح بالإقلاع والعمل، وهي مبنية على رؤيةٍ وأفق ربحي ضيق لشركاء!

 

الطاقة والقمح والغذاء والدواء مسائل سياسية، وتأمينها يجب أن يكون بالطريقة التي تحلّ المشكلة الإنسانية والسياسية، أي: بطريقة تمنع العودة للفوضى... بطريقة توظّف فيها الأموال وتخصّص وفقاً لضرورات إنقاذ البلاد، بينما الطريقة والنهج السوري اليوم والبارحة، كان بإدارة النقص والأزمة على حساب الملايين، ولمصلحة القلة الرابحة الغانمة من النفوذ، ولكن أي نفوذ هذا إذا ما استعاد مشروع الفوضى صَخَبه في سورية، وأيّ ربح سيجنون؟!

معلومات إضافية

العدد رقم:
989