لبنان.. موضع (الانعطافات  الحادّة) بين الفوضى والفرصة

لبنان.. موضع (الانعطافات الحادّة) بين الفوضى والفرصة

لطالما مثّل الوضع اللبناني ورقة عبّاد شمسٍ تعكس التناقضات والمتغيرات الدولية والإقليمية، وكذلك تناقضات البُنى المحلية، حيث تتداخل مكوّنات ما قبل الدولة الوطنية والإقطاع السياسي والكومبرادور، مع مشروع وقوى وطنية جدية تتواجد في ساحة صغيرة واحدة، وليكتمل الانعكاس، فإن هذه الساحة مضاءة بأداء إعلامي مركّز على كل الجبهات.

سريعاً وخلال فترة أقل من تسعة أشهر ينتقل الحدث اللبناني ليتحول إلى رقم واحد في الساحة الإقليمية الحامية، وما مرّ به السوريون خلال 9 سنوات من الحرب وصولاً إلى الوضع الحالي من انهيار العملة والجوع وتدهور المرافق وتصاعد التوتر الاقتصادي الاجتماعي، يصل إليه اللبنانيون بوقت قياسي ليتعرض المجتمع إلى صدمة عنيفة تفتح كل الاحتمالات.

الأزمة الحالية بتجلياتها الاقتصادية هي النتيجة التي كان يترقبها كل مراقب جدّي للمعطيات التي تكثّف مسار المنظومة الاقتصادية- السياسية اللبنانية، أما التسارع فيعكس البُنية الهشّة وهي سمة (للدولة اللبنانية) تفسّر بدورها كون هذه البقعة (كاشفة للمتغيرات) وتتعرض دائماً لتقلبات حادّة، وهي بتقلباتها تحكي الكثير من (قصة المنطقة)!
ويمكن شرح ما سبق باستفاضة نسبياً وبالعودة للوراء...

تأسيس (دولة هشّة)

إذا ما كانت جميع الدول في منطقتنا تشكّلت على أسس غير متينة حددتها (سايكس بيكو)، فإن لبنان هو واحد من الألغام التي زرعها هذا التقسيم... حيث تمّ فصل هذه المنطقة عن إطارها الحيوي السوري والفلسطيني، مما ترك الوزن الأكبر في الدولة المتشكلة للمراكز المدنية التجارية والخدمية في بيروت وبعض مناطق الجبل، والتي كانت الأعمال المصرفية إحدى أساساتها... ففي لبنان مثلاً: تشكلت جمعية المصارف، ولعبت دوراً قبل أن يتأسس مصرف لبنان المركزي.
لم يشهد لبنان معارك مع الإقطاع بالمعنى الكلاسيكي الذي شهدته سورية ومصر، لتساهم هذه المعارك في تغيير كبير في الأوزان الاجتماعية للريف وتشكيل بنى سياسية جديدة، حيث كان عدد سكان الريف في مطلع الستينات 57% ومع نهاية المرحلة الشهابية عام 1964 التي كانت المرحلة التي تمّ فيها تأسيس بُنى مؤسساتية وإنتاجية في لبنان انخفضت النسبة إلى 50% في ظرف أربع سنوات! (بالمقارنة فإن نسبة سكان الريف في سورية كانت 63% في عام 1960، ولم تنخفض إلى 50% إلا عند مطلع التسعينات).
وبالمقابل، فإن المراكز المدنية اللبنانية لم تتحول إلى مراكز عمالية إنتاجية، بل مراكز خدمية، حيث رسّخت الأوضاع الإقليمية المحيطة انتقال الأموال إلى النظام المصرفي اللبناني سواء من الخليج الذي بدأ النفط يظهر فيه وصولاً إلى الأموال من سورية بالدرجة الأولى ومصر والعراق نسبياً خلال عقود متتالية.
وعموماً يمكن القول: إن مرحلة الخمسينات والستينات الحيوية في ترسيخ بُنى الدول المتشكلة حديثاً في المنطقة وتياراتها السياسية، لم تمر على لبنان بشكل مؤثر، بل رسّخت حالة الدولة الهشّة نتيجة استقرار الوزن المصرفي الريعي المرتبط بالغرب وبريع النفط، وأبقت بالمقابل على المكوّنات السياسية القديمة مهيمنة...
(الشرائح الاجتماعية والعائلات الإقطاعية المرتبطة بالغرب في سورية لم تَزُل تماماً، وبقيت تأثيراتها ضمن التيارات السياسية الجديدة وفي قطاعات الأعمال والبُنى الاجتماعية، ولكن بالعموم، إن التيارات السياسية الحديثة في حينها القومية والشيوعية وحتى الإسلامية هيمنت جماهيرياً على الساحة السياسية، ولم تسمح ببقاء تمثيلات سياسية واضحة على أساس مكوّنات ما قبل الدولة الوطنية، وهو ما لم يحدث في لبنان).
وبالعموم، لم تشهد مرحلة ما بعد الاستقلال في لبنان نقلات تنموية كبرى، وتمّ تعميق فوالق هامة بين المناطق وبين الريف والمدن، وتشكّلت فيها مبكراً أحزمة الفقر حول المدن.
ولذلك فإن هذه البنية الهشّة كانت الأكثر عرضة لهزّات عنيفة منذ ذلك الحين وحتى اليوم، وهو ما تجلّى في منتصف السبعينات في الحرب الأهلية.

منتصف السبعينات الحرب الأهلية

يعتبر النصف الأول من السبعينات منعطفاً دولياً وإقليمياً هاماً، فإن كانت هيمنة المنظومة الغربية المالية قد ترسّخت بعد الحرب العالمية الثانية، ومع اتفاقية بريتون وودز وتنصيب الدولار عملة التداول العالمي، فإن السبعينات كانت المنعطف الذي أطلق العنان لآلة طباعة الدولار كمخرج من أزمة تراجع النمو في المراكز الغربية مطلع السبعينات.
في 1971 تمّ فكّ ارتباط الدولار بالذهب، وترسّخت منظومة البترودولار بالهيمنة الأمريكية الكاملة على نفط الخليج، فالنفط أصبح يُسعّر بالدولار وفوائض النفط تُوظّف في النظام المالي الأمريكي وتحت إشراف الولايات المتحدة. وهذا المنعطف الذي أسّس للمرحلة النيوليبرالية ولبداية عصر الهيمنة الأحادية الأمريكية وجد تجلياته في عموم المنطقة عبر التوظيف التدميري لفوائض البترودولار (من سورية إلى لبنان إلى منظمة التحرير الفلسطينية...).
وكان أمام الكيان الصهيوني والغرب مهمة نسف مشروع المقاومة المسلحة الفلسطينية، والتأسيس لهزيمة تمهّد لتثبيت (إسرائيل) وقبولها، وذلك بعد ربط الخليج وتوظيفه، ووجود (السادات) في مصر والتمهيد لكامب دايفيد.
وكانت الساحة اللبنانية الهشّة، ببُناها السياسية ما قبل الدولة الوطنية والمرتبطة بالغرب، هي الموضع الأنسب الذي بدأ فيه الغرب بسياسته الممتدة حتى اليوم: (تفعيل التناقضات الثانوية، وإزاحة التناقضات الأساسية للخلف).. فتمّ تركيب الصراع الأهلي- الطائفي على الصراع الوطني، وامتدت الحرب 15 عاماً، انتهت بامتداد سيطررة الاحتلال على قسم كبير من لبنان وصولا لبيروت، والوصول إلى اتفاقيتي الطائف ومن ثمّ أوسلو.

التسعينات (إعادة الإعمار النيو ليبرالية)

انتهت الحرب الأهلية اللبنانية بترسيخ النظام النيوليبرالي بشكل نموذجي وليس على الصعيد الاقتصادي فقط، بل على كل المستويات:
سياسياً، ترسيخ بُنية دولة هشّة عبر محاصصة طائفية، واقتصادياً نموذج (إعمار) مصرفي وعقاري قائم على تحاصص النهب، أما اجتماعياً فالظواهر عديدة، ولكن أهمها: تفاوت صارخ في الدخول، ونمط معيشي استهلاكي قائم على فقاعة الديون مقابل تعميق ظواهر التهميش.
انتهى لبنان بمشاريع (إعمار) حوّلته مبكراً إلى واحدٍ من مراكز المضاربة المالية للمال العائم عبر العالم، ونقطة أساسية على مستوى الإقليم.
وقد لعب مصرف لبنان الدور الأساس في هذه العملية عبر تحوّله إلى مركز تنظيم عملية الربح من الاستثمار في الدَّين العام اللبناني، وفرضه للدولار كعملة تداول إلى جانب الليرة مع السماح بمقاصة الشيكات بالدولار وعدم حصرها بالليرة، ومن ثمّ إصدار سندات خزينة بالدولار.
(حُكم المصرف) تجلّى في دوره في تنظيم عملية المضاربة هذه على الدَّين العام بفوائد وصلت إلى 35%، وتوزيع هذا الربح على كبار المساهمين في الحُكم الفعلي للمنظومة المصرفية السياسية، ومن ثمّ تمّ نقل جزء من هذا الدَّين إلى خارج المنظومة المصرفية اللبنانية عبر إصدار سندات دَين سيادية في الخارج.
وبعد ثلاثة عقود انتهى هذا (النموذج الفقاعي) إلى دَين عام وصل إلى نسبة 155% من الناتج في نهاية 2019، دون أن تتحول عملية جذب وخلق الأموال هذه إلى أدنى مشروع اجتماعي شامل: فلا شبكة كهرباء عامة أو نقل عام أو حتى خدمات بلدية لجمع النفايات، وهي مؤشرات فقط على مستوى طفيلية النموذج وزيف النمو... (يقدّر اقتصاديون لبنانيون بأنّ حجم الاستثمار العام من مجموع موازنات الدولة لم يتجاوز 7% من أصل 230-240 مليار دولار إنفاق عام خلال أكثر من عشرين عاماً!)
ومنذ عام 2001 أصبحت هذه المنظومة تحتاج إلى عملية إنقاذ دورية بدأت في مؤتمر باريس (1)، وكلما كانت الأزمات تشتد سواء في 2008 أو مع تراجع إيرادات النفط في الإقليم بعد عام 2014، كانت المنظومة تُسرّع من وتيرة المضاربة وتلجأ إلى روافع مضاربية جديدة، مثل: الهندسات المالية في 2015 والتي كانت تنذر بوصول النموذج قريباً إلى سقوفه، واقتراب لحظة إيقاف الإنعاش الدولي والإقليمي لهذه المنظومة مع تعقّد الوضع المالي (لرعاة لبنان) سواء في أوروبا أو في الخليج.
ولكن عامل الضغط الأهم: هو زيادة العدوانية الأمريكية في ظل الأزمة الدولية، والتي لم تعد قادرة على القبول بأنصاف الحلول وتسعى إلى تعميم إقليمي واسع للفوضى يستهدف لبنان كما غيره... وتحديداً بعد أن تغيرت الأوزان فيه بعكس المصلحة الأمريكية منذ التحرير، ولم تعد المنظومة المصرفية الحاكمة تفي بأي غرض سوى كونها (صاعق تفجير) مؤجل للوقت المناسب.

من التحرير إلى التغيير

لبنان الذي تجلّت فيه مبكراً التغيرات الدولية السلبية منذ السبعينات، تجلّت فيه أيضاً أولى معالم تراجع المشروع الغربي في مطلع الألفية: وذلك بتحرير أراضي الجنوب اللبناني المحتل، وخروج قوات الكيان من لبنان تحت ضغط عمليات المقاومة خلال عقود.
وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق، كان لبنان البلد الذي استخدم فيه الغرب (العدوان المركّب): بقسم الصف الداخلي الذي يعقبه الضربة العسكرية، وتمّ التمهيد لحرب تموز بسلسلة اغتيالات اعتباراً من 2005، ولكن الغرب و(إسرائيل) فشلوا في معركة 2006 في تحقيق الهدف السياسي الوحيد وهو استهداف سلاح المقاومة.
وبدورها مقاومة الشعب اللبناني نجحت في تثبيت مقولة: أن المسار المتراجع منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وتحديداً منذ منتصف السبعينات، قد بدأ ينقلب... فالعدو مأزوم وانتصارات الشعوب ممكنة وستتصاعد.

الأمريكيون يؤقتون (حزامهم الناسف)

ليس في جعبة مشروع الفوضى الأمريكي الكثير من الإستراتيجيات، فهو يقوم على شقّ الصفوف في المجتمعات المحلية ويستهدف منع تحوّلها إلى قوّة سياسية موحّدة المصالح ومنظمة، تدفع نحو التغيير العميق في المنظومات الاقتصادية السياسية، وتستطيع صياغة مستقبل مستقل للشعوب. وهذا التغيير يصبح الطريق الحتمي لتجاوز خطر الدخول في مستويات من الفوضى يكون الرجوع منها صعباً سواء في لبنان أو سورية أو العراق وغيرها. فشعوب المنطقة تحتاج إلى أنظمة اقتصادية اجتماعية قادرة على خلق العمل بالحدود الدنيا، ووقف نزيف الهجرة والتهميش، وهذا الاستحقاق ليس جديداً في منطقة معدل بطالة الشباب فيها ضعف الوسطي العالمي!
وإن كانت عملية شقّ الصفوف قد اعتمدت منذ حرب العراق على تسعير الخطاب الطائفي في المنطقة، فإنها لا تزال كذلك... رغم أن إمكانية استخدام هذا التناقض الثانوي القائم على الأسس الدينية للتقسيم قد وصلت سقوفها مع تعويم ظاهرة داعش وانتهائها إلى حد بعيد.
الأعقد اليوم، أن الجوع والإفقار الواسع والسريع هو الأداة الأساس، لقد انتقل الأمريكيون ليلبسوا بأنفسهم (حزامهم الناسف)، وذلك عبر سلاح العقوبات. فالعقوبات تستخدم الدولار ومنظومة الهيمنة المالية الغربية كسلاح مباشر في الهجوم على المجتمعات.
الأمر الذي يُفعّل التناقضات الاجتماعية للحد الأقصى، ويضع المجتمع بملايين المفقرين والمحرومين والعاطلين في مواجهة مباشرة مع أنظمة الحكم المرتبطة بالمنظومة الغربية، ومع المنظومة نفسها.
إن هذا الوضع يجعل الأنظمة واهية للغاية، تواجه المجتمع بأضعف شبكات الحماية، ولكنها تدخل أيضاً معركة وجود وتلجأ إلى كل الخيارات حتى أكثرها تطرفاً للدفاع عن نفسها.
وهذا الفراغ المؤقت بين هشاشة الأنظمة وتطرفها في لحظة (يقظة الموت)، وبين مستوى الاحتقان والغضب الاجتماعي والإرث السياسي المثقل بعقود التراجع وغياب العمل السياسي الجماهيري... هو المخاطرة والرهان التي يلعبها مشروع الفوضى لكسب الوقت.
إن الأمريكيين يختارون توقيت تفجير التناقضات، لأن درجة جاهزية المجتمع للانتقال خطوات للأمام لا تزال منخفضة والأنظمة (تتعنت) وتعجز عن تقديم أقل التنازلات لتفسح المجال للمجتمع وقواه الحيّة بحل المشكلة والمواجهة. وهذان المعطيان: الغضب الاجتماعي وسط الصدمة والجوع، وتخلف الأنظمة وعجزها، يشكّلان عناصر لحظة الانعطاف، إمّا إلى الفوضى، أو خطوة كبرى نحو المستقبل.

بالعودة إلى الملموس في لبنان

الوصف السابق ينطبق على الوضع اللبناني والسوري إلى حد بعيد في اللحظة الحالية، وبأخذ الحالة اللبنانية، فإن انسداد أفق الوضع المالي في لبنان، والوتيرة المتصاعدة منذ ثمانية أشهر تقريباً، لا تنفصل عن شرارة التصعيد الغربية عبر توقف عملية إمداد المنظومة بمؤتمر سيدر، ورفع مستوى التحذير من جانب صندوق النقد حول الوضع المالي اللبناني ووضعه على طاولة البحث والتصنيف. وما نتج عن هذا من هروب جزء هام من أموال المستثمرين ونخب الحكم والمال إلى خارج لبنان، ليتبعه فرض اقتطاع بنسبة وصلت إلى 60% من أموال المودعين مع كل عملية سحب، ما أصبح يسمّى بـ (hair cut) وعملية تديرها منظومة المصارف.
والتجلي الأهم للأزمة: هو انهيار قيمة الليرة اللبنانية وفقدان الدولار وحرمان صغار المودعين من مدخراتهم، ويمكن أن يتم التعبير عن سرعة التدهور بقيمة الحد الأدنى للأجور والذي خسر 80% من قيمته خلال تسعة أشهر، فيما كانت قيمته بالليرة اللبنانية 600 دولار أصبح لا يتعدى 100 دولار حالياً.
الغضب الاجتماعي المنفجر في حراك تشرين 2019 كان له أساس مستحق وموضوعي واسع النطاق، ولا يزال كذلك اليوم بعد أن فقد الأغلبية من اللبنانيين إما أعمالهم بالكامل أو نسبة تقارب 80% من دخولهم. وبالمقابل، لم تقبل منظومة المصارف حتى اليوم بأن تصل إلى توصيف دقيق لحجم الخسائر، والأهم: أنها لا تقبل بتحمّل أية مسؤولية عن هذه الخسائر. تصل تقديرات الخسائر إلى أكثر من 60 مليار دولار، وهو ما يعادل أرباح فوائد خدمة الدّين العام التي دفعها مصرف لبنان للمصارف خلال عشر سنوات إذ قاربت 62 مليار دولار.
واستطاعت أطراف عدّة ضمن المنظومة أن تستدعي صندوق النقد الدولي ليدير عملية التفاوض والإفلاس، وينظّم عملية (الإصلاح) مقابل دفعة الدولار الموعودة والمشروطة بعد ثمانية أشهر بأفضل الأحوال. وبدأت تظهر طروحات من نوع تحميل الخسائر على بقايا ممتلكات الدولة عبر جمعها في صندوق ورهنه للمقرضين الخارجيين، وحتى الذهاب للحديث إلى التصرف باحتياطي الذهب... أي: إن المنظومة المصرفية اللبنانية، وما خلفها من أمراء الحرب الحاكمين مستعدة للذهاب للآخر دون قبول تحمّل الخسائر...

المنهزمون يميلون للفوضى

في هذه الحالات ينشأ لدى هؤلاء ميل للفوضى التي اختبروها في سنوات الحرب الأهلية والتي كانت مصدر إثراء وترسيخ قاعدة اجتماعية، وينشأ لديهم (كما لدى شريحة المتشددين في سورية) قناعة بأن مصلحتهم تتطابق مع التصعيد لأن أفقهم يضيق ليتخيل أقصى الخسارات: هجرة واسعة وبالمقابل، احتواء قاعدة اجتماعية متبقية بالارتزاق والتهميش، ضاربين بعرض الحائط ما معنى هذا على صعيد المجتمعات.
وهؤلاء هم الطرف الذي يركب موجة الحراك الاجتماعي ويحاول تحميله مقولاته ومشاريعه وتطرفه، أو يعاديه ويهاجمه ويؤلب أطرافه على بعضها البعض. إن هؤلاء يتحولون إلى خطر وطني وجزء لا يتجزّأ من مشروع الفوضى سواء أدركوا ذلك أم لا...

السياسي قبل الاقتصادي اليوم

في اللحظة الحالية، قد لا يكون هنالك أي حل اقتصادي قريب أو ملموس للأزمة الاقتصادية في لبنان، والتعويل على أموال صندوق النقد (إن أتت) سيكون بمحاولة توافقية تحمي المنظومة وتعطيها حقنة مؤقتة، وتحمّل المجتمع مجمل الخسائر وتزيح آخر عناصر وجود دولة يمكن البناء عليها.
وسياسياً فإن صندوق النقد (رغم تباينات في الإستراتيجيات الأمريكية والأوروبية)، قد يكون ساعياً أيضاً لكسب الوقت فقط وإيهام النخب بوجود مخارج وما عليهم سوى مقاومة التغيير وانتظار الدعم.
ولا يمكن اليوم حل أبسط الأمور إلا بإعادة صياغة البُنية الاقتصادية اللبنانية على أسس جديدة يكون للمجتمع الأولوية فيها.

 

 

فإذا ما كانت المهمة هي منع الفوضى، فإن مواجهة الجوع والتشغيل هو الهدف الأساس... وهو ما يتطلب تعبئة وتضحيات من الصعب أن تديرها حكومة من رحم التحاصص الطائفي أو تعمل بالرتم السابق.
فمثلاً، لا يمكن مواجهة الجوع عبر تمويل سلاّت غذائية من خلال المستوردين، لأن قوانين السوق تفرض نفسها على القرارات الإدارية وعملية من هذا النوع ستؤدي إلى انتقال الجزء المتبقي من القطع الأجنبي تحت تصرف الحكومة إلى كبار المستوردين (الذين سيتم أيضاً توزيعهم طائفياً!) مع بقاء أسعار السلع مسعّرة على سعر السوق يدفعها عموم اللبنانيين (كما حدث في حالة تمويل المستوردات في سورية، والتي تحوّلت إلى واحدة من أهم أبواب النهب بالمتاجرة بإجازات الاستيراد، والربح من احتكار السلع، والربح من الحصول على دولار مدعوم).

إخراج الأساسيات من هيمنة الدولار

لا يمكن مواجهة الجوع والحرمان لقطع يد الفوضى، إلا بإخراج الغذاء والأساسيات من هيمنة الدولار، ولهذا عناوينه الأساسية: الطاقة والإنتاج الزراعي والصناعة الغذائية وبعض الأساسيات الصحية، وهذه حجمها في لبنان يفوق 4 مليارات دولار سنوياً. طالما أن هذه المنتجات مستوردة وبالدولار فإنها تجعل لبنان وسورية وأية دولة في الظرف الحالي مرهونة للفوضى ولقوى المال التي تشكّل أعمدة المنظومة ومتكآتها محلياً.
وهنا تظهر أهمية طرح التوجه شرقاً لأنه يفتح المعركة مع العدو المباشر ومع الدولار، إن عزل الدولار عن الأساسيات مهمة أولى وأفقها قد يكون مفتوحاً في الظرف الحالي. حيث تتواجد قوى دولية تسعى جدياً لإزاحة الدولار من تداولاتها، مثل: الصين بالدرجة الأولى (التي أصبح لديها أكثر من 39 اتفاق مقاصة باليوان للتبادل البضاعي بالعملات المحلية)، وروسيا التي صرحت مراراً أنها جاهزة للتبادل عبر الروبل، إضافة إلى الطرف الإيراني واحتمالية تأمين الطاقة بالليرة اللبنانية، وعدا عن إمكانية الحركة الاقتصادية البضاعية في إطار مجموعة دول المنطقة من سورية إلى العراق إلى إيران.
إن هذه الطروحات التي يراها البعض (غير واقعية)، ستتحول إلى عنوان دولي تطرحه وتطبقه كل القوى الجدية في المنطقة وعبر العالم... مع توسع واستدامة سياسة العقوبات الأمريكية. وهي عملية تجري بتسارع آخر ما يدل عليه اقتراب اتفاقية الشراكة الصينية الإيرانية من التنفيذ، والتي ستدخل بموجبها الصين باستثمارات تقارب 400 مليار دولار إلى إيران البلد الذي يشهد أقسى عقوبات أمريكية تشمل كل جوانب الحياة، الأمر الذي قد يقلب الموازين في المنطقة بشكل جدي.

التوجه شرق يحتاج للحركة الشعبية

التوجه شرقاً وإزاحة الدولار وتعبئة المجتمع للمواجهة والإنتاج، هي الحلول الجدية الوحيدة الممكنة، والتي قد تسمح للبنان للمرة الأولى منذ سايكس بيكو أن يسير خطوات جدية نحو بناء مجتمع مستقر ودولة، أما الحلول الأخرى فإنها قد لا تبقي حتى الحكم الهش للمنظومة المصرفية السابقة التي تتهالك.
ولكن خطوات من هذا النوع لا يمكن أن تدخل حيز التّبني العام والتطبيق والنجاح، إذا لم تكن قائمة على رافعة شعبية وشاملة، كالتي حظي بها لبنان في تشرين الماضي، والتي لم يتم استثمارها سياسياً للحد الأقصى، وأنتجت حكومة من داخل المحاصصة السابقة تجد اليوم نفسها في وضع صعب ومكبّل وغير قادر على اجتراح أية حلول جدية، طالما أنها مثقلة بأوزان حكم المصرف والتوافقات وتتفاوض مع صندوق النقد!
المؤكّد اليوم، أن العدو في أزمة ومنظومته الخارجية دولياً وإقليمياً ومحلياً واهية، ولكن لا يمكن استبدالها إلاّ بأوسع رافعة شعبية لأن إعادة هيكلة البنية الاقتصادية بناء على مصالح طبقية جديدة لا يمكن أن تتم إلا عبر عضلات المجتمع وقواه السياسية الحيّة للسير خطوات نحو التغيير. وهذه العملية حتى لو اكتملت شروطها المحلية من تحالفات للقوى السياسية خارج القيود الطائفية، وتعبئة المجتمع من أجل مشروع بناء وطني، فإنها قد تكون عرضة أيضاً (لليأس الأمريكي) الذي قد يستخدم سلاح الكيان الصهيوني كحلَّ أخير، ولكنها قد تكون فرصة استخدام (إسرائيل) الأخيرة أيضاً.
فإذا ما كان لبنان هو ساحة شهدت منعطفات المنطقة بطريقة حادة طوال العقود الماضية بسلبها وإيجابها... فكيف سيمر لبنان من هذا المنعطف مع تحييد للأوزان الإقليمية، وتحوّل المعركة بين اللبنانيين والدولار مباشرة؟! وهل سيسجل للمرّة الثالثة بعد عامي 2000، و2006 قدرة الشعوب على تسجيل نصر: وطني، اقتصادي اجتماعي، وديمقراطي؟!

معلومات إضافية

العدد رقم:
974
آخر تعديل على الإثنين, 13 تموز/يوليو 2020 15:09