الشوندر السكري.. بـ 5% من الموازنة يتم إلغاء الطلب على 96 مليون دولار
يتذكر الجميع اليوم، إنتاج الشوندر السكري وصناعة السكر... تلك العملية التي كانت واحدة من منظومات غذائية متكاملة مدارة زراعياً وصناعياً وتجارياً عبر الدولة. والتي توقفت في عام 2015 بشكل كامل، بينما كانت تنازع منذ عام 2013.
في مثل هذه الفترة تماماً من عام 2011 وما قبله كانت شاحنات المزارعين تنقل الشوندر السكري إلى معامل السكر المتوزعة في سلحب في حماه، وجسر الشغور في إدلب، ومسكنة في حلب، إضافة إلى فرعين أصغر في الرقة ودير الزور. لتنقل إنتاجاً قارب 1,8 مليون طن من الشوندر، تستطيع أن تنتج 180 ألف طن من السكر الأبيض.
اليوم لم يتبقّ من هذه المنظومة إلا 10 آلاف طن يزرعها المزارعون ويبيعونها لمعمل سلحب لتباع علفاً للمواشي، بينما يتم استيراد السكر الأبيض المكرّر وجزءاً أقل سكراً أحمر خاماً يتم تكريره في معمل سكر حمص، لصالح الشركات المورّدة.
وبالمقابل، يتم الاعتماد في تأمين حاجة البلاد من السكر والتي تقارب 400 ألف طن، على الاستيراد، إذ قاربت فاتورة الاستيراد الكلية للسكر في عام 2018: 84 مليار ليرة، أي: ما يعادل 193 مليون دولار* في حينها.
*(بناء على بيانات التجارة الخارجية من المجموعة الإحصائية 2019- وسعر الصرف الرسمي السابق: 435 ليرة).
معملا تل سلحب ومسكنة موجودان
يتكرر الحديث عن أن جهات حكومية في الزراعة والموارد المائية والصناعية تدرس إعادة تشغيل معمل إنتاج السكر من الشوندر في تل سلحب، والذي يتطلب 200 ألف طن من الشوندر بالحد الأدنى ليصبح تشغيله ذا جدوى، والمعمل متوقف نتيجة عدم توفر الشوندر، بينما قدرته على الإنتاج لم تتأثر وخطوطه موجودة. مع العلم أن المعمل ليس الوحيد بل هنالك معمل مسكنة في حلب الذي أشارت تصريحات رسمية منذ عام 2017 بأنه يمكن إعادة تشغيله بتكلفة تقارب 15 مليار ليرة أي: ما يعادل في حينها: 34 مليون دولار، وذلك لتأمين المحولات والتجهيزات التي تم سرقتها بينما خطوط الإنتاج الأساسية لا تزال موجودة... ولكن المشكلة الأساس في تأمين المادة الخام، وهي الشوندر السكري.
2% من الأراضي الزراعية لحماة وحلب
يحتاج إنتاج 200 ألف طن من السكر إلى مليوني طن تقريباً من الشوندر، وهذه تحتاج إلى مساحات زراعية تقارب 30 ألف هكتار من الأراضي. وقد لا تكون المساحات هي المشكلة، لأن مساحات كهذه تشكل نسبة 2% فقط من الأراضي المزروعة في محافظتي حلب وحماة في عام 2018 وهما الأقرب إلى المعامل المذكورة، هذا عدا عن أن مجموع الأراضي القابلة للزراعة وغير المستثمرة في المحافظتين يبلغ: 76 ألف هكتار، أي: ضعف المساحة المطلوبة لإنتاج نصف حاجات السكر تقريباً.
هذا عدا عن أن التسعير المناسب يشكل حافزاً للمزارعين في مناطق أخرى في شمال الغاب التابع لإدلب، والذي قد يعيد ربط المزارعين هناك بمنظومات الإنتاج المحلية والعملة السورية.
90 مليار ليرة لشراء الشوندر!
أما كلفة هذا الإنتاج الزراعي فتقديرها يمكن أن يعتمد على تسعير معمل تل سلحب لبقايا الشوندر السكري الذي يسوّقه بعض المزارعين ويباع كأعلاف للمواشي، إذ دفع المعمل في العام الماضي سعر 25 ألف ليرة للطن، وهو رقم تأشيري لحدود التكلفة مع هامش ربح. وبأخذ سعر الصرف كمقياس تضخم، فإن هذه التكلفة التي تعادل في العام الماضي: 35 دولاراً، قد تكون ارتفعت اليوم إلى حدود 44 ألف ليرة بناء على تغيرات سعر الصرف.
وبفرض أن سعر شراء الطن: 45 ألف ليرة من المزارعين، فإن تغطية تسويق محصول بمقدار مليوني طن تتطلب: 90 مليار ليرة تقريباً وهي تعادل اليوم: 72 مليون دولار.
منتجات بقيم تفوق 120 مليار ليرة
إن هذه المؤشرات الأولية تشير إلى أنه يمكن أن تكون كلفة المادة الخام وهي الشوندر في صناعة السكر تشكل مقداراً يقارب 450 ليرة من تكلفة الكيلو، ويضاف إليها بطبيعة الحال تكاليف أخرى ولكنها الكلفة الأساس التي يتم دفعها من الجهات العامة للمزارعين. ما يعني أن مبيعاً بسعر يقارب 500 ليرة يغطي التكلفة حكماً، ليس فقط من عوائد مبيع السكر بل من مجموعة السلع المنتجة الأخرى، التي كانت تشكل نسبة 25% من مبيعات المؤسسة العامة للسكر قبل الأزمة من منتجات (الخميرة والكحول وتكرير زيت القطن، والصابون ومنتجات ثانوية أخرى.
أي: يمكن بعلاقة تقريبية أن يتم إنتاج سلع بقيمة 120 مليار ليرة سواء من السكر أو غيره عن طريق دعم زراعة الشوندر بقيمة 90 مليار ليرة.
دعمٌ لليرة وتقليصٌ للدولار
من المؤكّد: أن زراعة الشوندر السكري مجزية، إذا ما تمّ الخروج من عقلية انتظار الموارد من المستثمرين والمستوردين، والتعامل مع موارد الدولة على أنها موظفة للمصلحة العامة، وجاهزة للاستثمار في حل مشاكل كبرى، مثل: الجوع وربط الغذاء بالدولار!
إنّ إعادة منظومة الشوندر السكري تتطلب دفعات إنفاق أُولى بالليرة السورية... ليس فقط لشراء الشوندر، بل لدعم شبكات الري، ودعم بذار الشوندر، وهو ما يمكن أن يتم عبر إعادة تفعيل قروض المصرف الزراعي، إذ لم يعد مقبولاً كسب إنتاج السكر مقابل خسارة المياه...
كما أنه لا يمكن إعادة تشغيل المعامل واستيعاب إنتاج مليوني طن دون استثمار إنفاقي على معامل الدولة القابلة للبدء بالعمل، مثل: تل سلحب ومسكنة... وجميعها نفقات قد لا تفوق فعلياً كلفة الاستيراد في عام واحد والتي بمقاييس عام 2018 بلغت 193 مليون دولار، ما يعادل اليوم: 240- 424 مليار ليرة تقريباً بالأسعار المختلفة للدولار... وهي كتلة الليرة التي سيتم بيعها في السوق لتحصيل دولار لاستيراد السكر، بينما من الممكن أن تتحول هذه الكتلة من الليرة إلى كتلة استثمار إنتاجي لري الأراضي، وتوسيع معامل وإنتاج سلع ومنتجات ودخول محلية تؤمن استدامة إنتاج السكر محلياً، وتُقلّص الطلب على الدولار بمعدل نصف المستوردات، وحوالي 96 مليون دولار سنوياً! أي إنها دعم مباشر لليرة وتقليص مباشر للدولار.
الموارد المطلوبة لإعادة إطلاق منظومة إنتاج السكر محلياً، ليست كبيرة وهي تحقق نمواً مباشراً في الإنتاج الزراعي والصناعي في العام، إذ إن مبلغاً يقارب 200 مليار ليرة يمكن أن يتحول إلى 200 ألف طن سكر وكحول طبي وخميرة ومنتجات أخرى، وهذا المبلغ لا يشكل إلا نسبة 5% من موازنة 2020، ونسبة 8% من ودائع المصرف التجاري التي لا يتم توظيفها... وما سبق هو مثال تقريبي واحد من أمثلة إزاحة الاستيراد واستعادة الإنتاج المحلي عبر استخدام كتلة الليرة، ويمكن للمختصين زراعياً وصناعياً أن يكونوا أكثر اطلاعاً على التفاصيل التي قد تخفف التكاليف وتزيد العائد، ولكن حتى مع البيع بخسارة، فإن خلق السلع والدخول وإلغاء الطلب على كتلة دولار هو مربح لقيمة الليرة ويحقق تعويضاً مباشراً.
إن السير بنموذج كهذا ينفع الجميع ويضر طرفاً وحيداً فقط: مستوردي السكر وعموم محتكري السلع الأساسية والمضاربين على الدولار، ولكن هؤلاء هم الآمر الناهي في ظل استمرار السياسات الليبرالية حتى في لحظات مصيرية كالتي نعيشها اليوم، فإمّا هم وإمّا البلاد وملايين من سكانها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 973