فلتدعموا أنتم الليرة بفعل حسن...
ارتفع سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية في السوق بمقدار فاق 35 ليرة خلال الأسبوع الماضي، وبارتفاع قارب: 7%... وعادت للانخفاض إلى مستوى 550 ليرة، في (هبشة) ارتفاع قصيرة وكبيرة، ضمن الاتجاه العام لتراجع قيمة الليرة وارتفاع صرف الدولار بنسبة 10% منذ مطلع العام.
المصرف المركزي خرج بتصريحات تطلب من عموم السوريين ألّا ينجروا للإشاعات، وأن يقفوا إلى جانب ليرتهم، ويدعموها ولو «بكلمة طيبة»... ولا بدّ أن الكثيرين منهم قد أسمعوا المركزي عقب هذا التصريح «كلمات تطيب لها الآذان»، وهم يترقبون تراجع الليرة وارتفاع الأسعار. فارتفاع الليرة أو انخفاضها يرتبط بكل شيء ما عدا بعموم السوريين.
«هبشات» علمها عند أهل المال
تكررت خلال الفترة الماضية الارتفاعات القصيرة في سعر الدولار في السوق، وفي كل مرّة يتساءل السوريون عن الأسباب، ولا يمتلك أحد إجابة دقيقة حول هذه التذبذبات الحادة... التي ترتبط غالباً بأهل الثراء وتحريكهم لأموالهم: صفقات استيراد كبرى، توقيت تهريب فلان أو علتان لأمواله إلى الخارج... وغيرها من المعطيات التي علمها عند «أهل العلم والمال والسطوة».
وهي عملياً ناجمة عن سبب من أسباب ارتفاع حاد ومؤقت في الطلب على الدولار، الأمر الذي يدفع بقية المالكين والمتلاعبين، للبيع والشراء وتحقيق الأرباح، فتتحرك الموجة صعوداً، ثم تخبو لتعود إلى المستوى السابق أو أعلى منه بقليل.
فإذا ما كان الدولار بـ 550 ليرة، وارتفع إلى 580 ليرة خلال أسبوع، فإن هذا يعني تحقيق ربح بمقدار 600 مليون ليرة في أسبوع، من تحريك كتلة 20 مليون دولار فقط!
أما إذا كان مالكو الدولار والمضاربون في هذه الموجة يحصلون على دولار بالسعر الرسمي 436 ليرة، كما في المصارف والصرافة، ويبيعون في السوق، فإننا نتحدث عن مرابح تقارب 3 مليار ليرة في أسبوع.
السوريون لم يتعودوا أن يمتلكوا تفاصيل من هذا النوع، عن نشاط أهل المال والنهب، ولكنهم يعلمون أن الليرة ليست بوضع آمن، ولا تتحكم بقيمتها أيدٍ أمينة.
هل الليرة في أيد أمينة!
الرافعة الأساسية لقيمة الليرة، لا تزال تكمن في الإنتاج، فعندما تستخدم الليرة لخلق البضائع وخلق ثروة مادية واجتماعية جديدة، فإن هذا يرفع قيمة الليرة، إذ تكثر البضائع وتنخفض الأسعار، وترتفع قدرة الليرة على الشراء... ولكن التراجع الإنتاجي مستمر طوال سنوات الأزمة، ويشتد اليوم حاكماً على الليرة بالتراجع. فعندما لا تستطيع البلاد أن تمد نفسها بالطاقة الضرورية، إلا مقابل عمولات وإتاوات ومدفوعات كبيرة لسماسرة العقود... فإن هذا يعني توقف الإنتاج الذي لا يتزود بالطاقة، أو تراجع الإنتاج الذي يتزود بطاقة أغلى، وتوقف حتى في حركة النقل وارتفاع كلفها، وتوقف في كل شيء إلا في نمو ثروات وكلاء تأمين الأساسيات!
فالوضع الإنتاجي الذي يدخل في مطبٍ كبيرٍ اليوم، ينجم عنه بالضرورة تراجع في قيمة الليرة، وانتقال كتلة أكبر منها إلى الأيدي غير الأمينة من المتحكمين بتزويد البلاد بالأساسيات، أولئك الذين يسارعون إلى تحويل كتلة أرباحهم إلى دولار، ويسارعون لتهريبيها إلى حساباتهم في الخارج بشكل دوري.
إن الوضع الاقتصادي الذي يؤمن الربح لهؤلاء، يهيئ بالضرورة ظروف تراجع قيمة الليرة.
مزايا الفوارق بين السعرين
الأمر الملفت، هو الفارق بين السعر الرسمي وسعر السوق، فهؤلاء المستوردون ينالون دولارات استيرادهم من الحكومة أو المصارف عبر تمويل المستوردات بسعر 436 ليرة، وبحجم قارب خلال ستة أشهر من العام الماضي 3 مليارات دولار.
أما الحكومة فالمصدر الأساسي لدولاراتها اليوم يأتي من تحويلات السوريين في الخارج للسوريين في الداخل، التي تتفاوت أرقامها، ويشير البنك الدولي أنها بلغت 1.6 مليار دولار في 2017. حيث يستلم المركزي الدولارات بالسعر الرسمي، بعد ترك حصة لمكاتب الوساطة والصرافة، ومن ثم فإن هذه الدولارات تبيعها الحكومة للمستوردين بالسعر الرسمي أيضاً، أما هؤلاء فيسعّرون كل ما يحضرونه إلى البلاد بسعر السوق...
في عملية تؤدي في نهاية المطاف، إلى تحويل حصة من تحويلات السوريين الآتية من الخارج، إلى شركات الصرافة وإلى المستوردين، بوساطة الحكومة.
العقوبات وتوقف الائتماني
إن المنعطف المتمثل بتشديد العقوبات، وتوقف الخط الائتماني الإيراني منذ ستة أشهر كما صرحت الحكومة، يشكل ضغطاً كبيراً على قيمة الليرة، ويهددها بالخطر. فعملياً الخط الائتماني الإيراني، كان ينقل بضائع مباشرة: نفط وقمح ومواد أخرى، ويؤمن موارد كبيرة للحكومة تحديداً من بيع مشتقات النفط المكررة في سورية من الخام الإيراني. لا توجد معطيات معلنة لقيم الائتماني الإيراني، إلا أنه يمكن تقدير أنها فاقت 200 مليون دولار شهرياً في عامي 2015-2016: (على اعتبار أن خطاً منها وُقّع مطلع 2015 بقيمة 3.6 مليارات دولار وانتهى قبل نهاية عام 2016).
وبالمقابل كانت الحكومة تؤجل دفع الجزء الأكبر من هذه الديون، أي: أن هذه البضائع كانت تأتي إلى البلاد، وتباع للسوريين بربح، مقابل تسديد قليل بالدولار، الأمر الذي كان يشكل رافعة اقتصادية ما، في ظل التراجع الحاد.
أما اليوم فقد توقف هذا الخط، وأصبحت كل الاحتياجات الأساسية مرهونة بالسماسرة المستوردين، الذين يأخذون دولاراتهم قبل أن يحضروا البضاعة من نفط أو مشتقات أو قمح، ليبيعوها للسوريين بأسعار مرتفعة.
إن الوضع الحالي، يفتح بوابات النهب، وهذه كلما ازدادت انفتاحاً كلما أصبح وضع الليرة أصعب.
أمّا ما الذي ينبغي عمله سوى الدعوات لليرة، ودعمها بالكلمة الطيبة، فالكثير ممكن:
إذ ينبغي أن تتحول كتلة الليرات المتكدسة في ودائع المصارف العامة والخاصة، إلى نشاط اقتصادي حقيقي، ينتج قمحاً على سبيل المثال لا الحصر، ويحرك الصناعات الأساسية، وعموم النشاط الاقتصادي.
وينبغي أن تؤمّن طرق جديدة ورسمية لتجاوز العقوبات، وتأمين الطاقة والمستوردات الأساسية، بفتح علاقات مصرفية مباشرة، أو خطوط ائتمانية مع الدول الصديقة والمستعدة، تكون مختصة بالتبادل بين البلدين، ومعزولة عن التعامل العالمي ما يحميها من العقوبات. لنتحرر من عمولات الوكلاء، وتنخفض كلفة النهب في الاستيراد.
وينبغي أن يمنع تهريب الأموال خارج البلاد، وأن تتقلص للحد الأدنى حرية حركة الدولار في السوق.
إن هذه الإجراءات الثلاثة كفيلة في المرحلة الحالية بحماية الليرة، وبرفع قيمتها فعلياً، ولكنها إجراءات أبعد من اقتصادية، بل سياسية، لأنها تعني استهداف ربح كبار السماسرة المرتبطين بالفساد الكبير الذي يتربع على جهاز الدولة، وهي مسألة دونها لن يكون فقط تراجع قيمة الليرة، بل فتح بوابات الفوضى في مجتمع تنهشه الحرب لسنوات.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 911