من يدعم من.. ولماذا؟
انتشرت خلال الفترة الأخيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى مواقع غير رسمية، أحاديث عن حسابات وأفكار يجري إعدادها وصولاً إلى إعلان رفع الدعم عن الخبز، مع تقديم بدلٍ نقدي للأفراد.... بالتوازي مع ذلك، تسري أحاديث أيضاً عن نية لرفع سعر أسطوانة الغاز المنزلي ليصبح قريباً من سعر السوق السوداء لكن أدنى منه.
وعلى أرض الواقع، وإلى جانب الأزمات المتعددة، وبالتوازي مع تصاعد العقوبات الغربية، يكسر سعر صرف الليرة السورية حدوداً كان قد بقي دونها لفترة طويلة متواصلة، مع إشارات بأنّ سقفاً جديداً من الممكن الوصول إليه ضمن عملية تدريجية وغير طويلة الأمد.
إنّ ضرورة التعامل الجدي والاستباقي مع «الأحاديث» المشار إليها آنفاً، تستند إلى مسألتين: التجربة السابقة المريرة مع الحكومات السورية المتعاقبة، ومع المسؤولين الحقيقيين عن إدارة الملف الاقتصادي في البلاد، والذين علّموا السوريين ألا يتوقعوا منهم الخير أبداً، بل أن يتوقعوا مزيداً من النهب والإفقار والاعتداء على حقوقهم. والمسألة الثانية، هي: أنّ التوجه الغربي عموماً، والأمريكي خصوصاً، بات شديد الوضوح، بأنّ مركز ثقل استهداف سورية قد بدأ بالانزياح هذه المرة من الجانب السياسي والعسكري (الذي بات مغلقاً بالمعنى التاريخي وإنْ كان لا يزال مستمراً)، إلى الجانب الاقتصادي، كما كان الأمر قبل انفجار الأزمة السورية، وبمعية «الأيادي البيضاء» للإجراءات الليبرالية المتوحشة التي خدمت كبار الفاسدين ومحدثي النعمة وأفقرت السوريين وأسست لانفجار الأزمة.
أولاً: لماذا سياسة الدعم؟
ينبغي التذكير دائماً، وأمام وقاحة البعض الذي يمنّ على السوريين بأن الدولة تقدم دعماً للمواطن في بعض المجالات الأكثر أساسية للحياة، الدعم الذي انهار القسم الأكبر منه خلال الخطة الخمسية العاشرة (2006-2010)، ينبغي التذكير بأنّ سياسة الدعم بأكملها، ومنذ يومها الأول، كانت تعبيراً عن تعويض جزئي للتفاوت بين الأجر الحقيقي وبين ضرورات الحد الأدنى لمستوى المعيشة، وبكلام آخر، فقد كانت ضرورة لتأمين الحد الأدنى الضروري لإعادة إنتاج قوة العمل على المستوى الوطني، لأنّ الحصة المباشرة للأجور من الدخل الوطني كانت دائماً أقل من تأمين إعادة الإنتاج هذه، ولذا فقد كانت تجري إعادة توزيع ثانوية للدخل الوطني بين الأجور والأرباح، عبر سياسات الدعم وغيرها، بما يؤمن الحد الأدنى الذي يسمح لعجلة الإنتاج الاستمرار بالدوران.
ولكي يكون الكلام واضحاً أكثر، فإنّ سياسات الدعم كانت تعني دائماً، اقتطاع قسم ضئيل من النسبة شديدة الجور والظلم والنهب التي كان يحوزها أصحاب الأرباح على حساب أصحاب الأجور، وإعادة توجيهها نحو أصحاب الأجور... «من دهنو سقيلو». والنتيجة لم تكن إطلاقاً توازناً معقولاً في توزيع الأجور والأرباح، بل حتى في أعوام ما قبل الأزمة كانت نسبة توزيع الدخل الوطني، وبعد توزيع الدعم، هي 75% للأرباح (يحوزها حوالي 20% من السوريين، هم أصحاب الأرباح)، و25% للأجور (يحوزها حوالي 80% من السوريين، هم أصحاب الأجور، وهم منتجو الـ100% من الدخل الوطني)... وهذه النسب باتت أفظع وأكثر جوراً خلال سنوات الأزمة.
ثانياً: الدولة تدعم المواطن؟
إن الطريقة والنسبة القائمة في توزيع الدخل الوطني بين الأجور والأرباح، لا تعني في جوهرها فقط أنّ «الدولة تعوض عبر الدعم جزئياً عن إدارتها الجائرة للاقتصاد، والمتحيزة لمصلحة قلة قليلة هم أصحاب الأرباح ضد بقية السوريين» بل وتعني أيضاً: أنَّ من يدعم الدولة فعلياً هو المواطن السوري المنتج، وليست هي من تدعمه! ومن حيث المبدأ، فالثروات الباطنية (غاز- نفط) هي هبة مجانية من الطبيعة للسوريين ولا يجوز بيعها لهم بالأسعار الدولية البعيدة عن كلفتها الحقيقية، الأمر الذي جعل المواطن على مرِّ عقود داعماً للدولة وليس العكس...
ثالثاً: حول الخبز
لم يمض وقت طويل بعد على «الاكتشاف المفاجئ» الذي وصلت إليه وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك بأنّ ما توزعه من طحين يكفي ويزيد الحاجة اليومية للمخابز، والذي قررت على أساسه تقليص كميات الطحين المتدفقة إلى المخابز بنسبة تراوحت بين 10%-20% بما يعني أنها اكتشفت فجأة أنّ 15% وسطياً من كميات الطحين التي تضخها نحو المخابز كانت «تذهب هدراً» (راجع مادة «الطوابير: أين الطحين يا وزير» في العدد 882 من قاسيون).
والآن تسري «الأحاديث» التي أشرنا إليها أعلاه... ما ينبغي الانتباه إليه في هذه المسألة، هو: أنّ الإشاعات الجدية التي تقول بمبلغ نقدي سيجري تقديمه كبدلٍ عن رفع الدعم على الخبز، عدا عن كون التجربة السابقة تخبرنا بأنّ كل الإجراءات من هذا القبيل لم تكن تقدم تعويضاً حقيقياً، فإنّ الأهم هو أنّ المبلغ النقدي هو مبلغ ثابت بالليرة السورية، الليرة التي تظهر مؤشرات سوق صرف العملة أن هنالك عملاً على تخفيض إضافي في قيمتها الحقيقية، تشير لذلك أيضاً موجة العقوبات الغربية الجديدة التي لن تقف عند الحد الذي وصلت إليه، بل ستتصاعد...
وإذا كانت الأجور والرواتب قد أصبحت رمزية أكثر من كونها حقيقية نسبة لمستوى المعيشة، فإنّ كل انتقال جديد من العيني إلى النقدي يعني تحويل هذا العيني نفسه إلى شيء رمزي! ويعني فعلياً رفعاً للدعم دون مقابل.
رابعاً: منطق المعالجة
إنّ المنطق السائد حتى الآن في معالجة «ضعف الموارد» و«التصدي للعقوبات» كان قائماً دائماً على الحلول الترقيعية الجزئية من جهة وعلى سياسة عامة تقوم على المزيد من نهب الأجور لمصلحة الأرباح، ناهيك عن عدم المساس بالفساد الكبير الذي لا يكف عن تحويل ملياراته على أساس ثابت وأسبوعي نحو الخارج... وهذا يعني: أن الموارد موجودة لمن يريد البحث عنها...
وإذا كانت الأزمة تحد من الموارد، فإنّ التعامل السياسي معها ضمن إحداثيات اليوم، وخاصة مع انتقال مركز ثقل الهجوم نحو الجانب الاقتصادي، يعني ضرورة تسريع الذهاب نحو الحل السياسي، وفي المدى المنظور ينبغي كسر الحصار عبر أمرين لا بديل عنهما، الأول: هو قطع أي أمل من الغرب ومن أية تسوية معه، والثاني هو الإصرار على التوجه شرقاً والاستفادة من منظومة أستانا ودول الجوار إلى الحد الأقصى، في مواجهة المنظومة الأمريكية الصهيونية، بما يعني ضرورة تسريع الوصول إلى حالة تعامل بين سورية وتركيا على أساس القانون الدولي وعلى أساس كونهما دولتين سيدتين، تحترم كل منهما مصالح وسيادة وحدود الأخرى، وهذا المنفذ بالمعنى الاقتصادي تزداد أهميته بشكل حاسم ليس ضمن الظرف الراهن؛ ظرف العقوبات الاقتصادية الغربية المتصاعدة فقط، وإنما على المدى المتوسط أيضاً.
خامساً: متى يرفع الدعم؟
إنّ رفع الدعم يصبح مقبولاً في حالة واحدة فقط، هي إقرار حد أدنى للأجور محسوب على أساس تكاليف المعيشة. ومتغير بشكل شهري أو فصلي بالحد الأقصى، انطلاقاً من سلة استهلاكية متكاملة تشمل مختلف الحاجات الأساسية من غذاء وطبابة وتعليم وسكن ونقل واتصالات... وإلخ فإذا ما كان الحد الأدنى للمعيشة اليوم يتطلب شهرياً 310 ألف ليرة لأسرة من خمسة أشخاص، فإن العامل السوري الذي كان يعيل وسطياً أربعة أشخاص بأجره، يجب أن يبلغ الحد الأدنى لأجره 250 ألف ليرة اليوم، ليؤمن حاجات المعيشة الضرورية.
وبناء عليه، فإن الأجر الوسطي يجب أن يرتفع إلى قرابة 460 ألف ليرة، إذا ما أخذنا بالنسبة والتناسب بين الحدين: الأدنى والوسطي للأجر كما كانت في عام 2010، حيث شكّل الأدنى نسبة 54% من الوسطي.
حين يتم تحقيق ذلك، ويتم الالتزام بتحريك الحدين الأدنى والوسطي وجميع الأجور بناء على تغيرات تكاليف المعيشة، حينها سنكون أول من يطالب برفع الدعم!