الاتفاقيات والبروتوكولات و«العودة العربية»... ونحن!
تقول إحدى التقديرات الدولية: إن نمو الاقتصاد السوري في العام القادم 2019 قد يكون عالياً بشكل استثنائي، ويصل إلى 10%... هذا التوقع قائم على تقديرات تسارع التسويات الدولية حول ملف الأزمة السورية، ما قد يعني حصول نقلة سياسية تنعكس استثمارياً واقتصادياً.
بغض النظر عن مدى دقّة هذا التقدير، إلا أن مؤشرات البيئة الاستثمارية للعام الماضي 2018 تقول: إن انفتاحاً في الأفق الاقتصادي قد يحصل فعلاً في سورية، وإن كان هذا يبدو إيجابياً، إلّا أن مؤشرات من العام الماضي أيضاً تشير إلى أن «مطبات» محلية قد تجعل فرصة التحول السياسي- الاقتصادي الإيجابية، إلى فرصٍ محدودة، خاصة وغير عامة.
شهد عام 2018 الكثير من مؤتمرات ومعارض الإيحاء بالحركة الاستثمارية في سورية، ولم يكن مستوى التفاعل الإقليمي والدولي عالياً مع هذه المحاولات الحكومية... ولكن بالمقابل انتقلت للتنفيذ المباشر والسريع، عقود استثمارية في مجالات محددة ومع شركاء محددين. وكانت وقائع هذه العقود لا تبشّر خيراً، حيث تجلّى منطق إعادة الإعمار الذي يحاول المستثمرون فرضه، والذي تقبل به الحكومة. والحديث يدور هنا عن عقود الفوسفات مع أطراف روسية وإيرانية، في منطقة الشرقية، وعن آليات سداد الديون للجهات الإيرانية، وعن عقود التشاركية في صناعة السماد العامة أيضاً مع طرف روسي. والسيء في هذه العقود هي النسب المنخفضة للمال العام التي تبلغ 30% فقط من الفوسفات، والتي سيذهب نصفها إلى تسديد الديون الإيرانية، ليتبقى 15% فقط إيرادات مال عام! مقابل إنفاق استثماري قليل بالقياس إلى الحصة. (يمكن مراجعة قراءة قاسيون لهذه الملفات الاستثمارية في الأعداد: 871 - 877- 886)
أشارت هذه العقود المعلنة إلى وجود منطق غير سليم في التعامل مع الأطراف الخارجية التي تريد المشاركة في الاستثمار في سورية، واتضح أن قدرة أو رغبة الجهات المعنية بالتفاوض الاستثماري، على تحصيل أفضل وضع للسوريين منخفضة. يمكن القول: إن هذه العقود وضحت وجود منطق «تسييس سلبي»، عوضاً عن أن تكون «مسيسة إيجاباً»، أي: قائمة على منطلق سياسي ضروري، بأن سورية من حقها الحصول على أفضل وضع استثماري لتأمين أكبر قدر من الموارد العامة لسد الاحتياجات التنموية العامة المتراكمة.
وإن كان هذا الحال التفاوضي مع الأطراف الدولية الصديقة، فإن الوضع ليس أفضل مع المستثمرين المحليين. فالعام 2018 شهد صدور المرسوم رقم 10، والذي أسوأ ما فيه، هو تعميم ما تم تطبيقه في منطقة خلف الرازي... إذ أصبح الشركاء الاستثماريون العقاريون من كبار أصحاب الأموال المحليين، أصحاب حصة وقرار في إدارة الموارد العامة التي تمتلكها الوحدات الإدارية. فأصبحت أراضي الدولة في دمشق على سبيل المثال تحت تصرف محافظة دمشق، وهذه بدورها تستطيع أن تعطي شركاءها من المستثمرين حق التصرف والانتفاع بهذه الأراضي عقارياً، مقابل مشاركتهم الاستثمارية المالية. في الأراضي والحدائق العامة والمناطق المنظمة وغير المنظمة، وتستطيع أن تصبح تحت تصرف المستثمرين العقاريين فقط لأنهم شركاء المحافظة، وأصبح قرار الاستثمار العقاري فيها، يتخذ «فيفتي- فيفتي» بين المستثمرين في الربح العقاري، وبين جهاز الدولة... لينتج عن هذا أن تستثمر المحافظة في إنشاء المناطق العقارية الفاخرة، في بلاد خسر أكثر من 10 مليون من سكانها مساكنهم!
يضاف إلى هذا مشروع قانون الاستثمار الجديد، القائم على عقلية الإعفاءات والجذب، ومناجاة المستثمرين... والكثير الكثير من التصريحات الحكومية التي تَعِدُ بمزيد من التحفيز. بالإضافة إلى تهيئة الجو لتغيير آليات التمويل الحكومي، للتحول من تمويل المصرف المركزي للحكومة، إلى تمويل السوق للمصرف المركزي، عبر شهادات الإيداع وسندات الخزينة، الأمر الذي قد يكتنف على خطر تراجع استقلالية المال العام، إذا لم تتحول الديون إلى إنتاج وموارد عامة، وإذا أصبحت الجهات العامة غير قادرة على السداد لجهات السوق!
لقد شهدت أواخر هذا العام أيضاً توقيع اتفاقيات تعاون إستراتيجية مع الطرف الإيراني، وتوقيع بروتوكولات تعاون اقتصادية مع الطرف الروسي، عناوينها سكنية وصناعية ومرتبطة بالنقل وتأهيل الكوادر، والعديد من العناوين الجذابة الأخرى.. ولكن ما هي حصص المال العام من الاستثمارات المشتركة، وما هي حصص الشركاء... هذا ما لم يتضح بعد؟!
وإذا ما كان الحديث يدور عن عودة العلاقات مع أطراف عربية، وزيارات لأطراف أوروبية، وفتح احتمالات أن يبادر هؤلاء للفرص الاستثمارية النابعة من أزمة الدمار السوري... فهل ستكون لهؤلاء حصص بالمقدار ذاته، وتعامل بمنطق حصص: 70% للشريك!
إن انفتاح أفق التسوية السورية، لا ينبغي أن يكون فرصة للمستثمرين فقط... ولا ينبغي أن يتم التعامل وفق منطق إغراء المستثمرين، لأن المغريات المقدمة لهم: بالحصص والإعفاءات والامتيازات، لا يمكن تقديمها إلّا على حساب الحصص المتبقية للمال العام السوري، وبالتالي للتنمية والتشغيل والأجور والتعويض، وترميم جوانب الكارثة الإنسانية السورية، التي تتطلب تعويضات إقليمية ودولية، لا مكاسب لهؤلاء!
تسييس إعادة الإعمار السورية والعملية الاستثمارية، ضرورة في سورية، وهذا التسييس يجب أن يكون قائماً على فكرة سياسية ثابتة: أن إعادة الإعمار هي عتبة في التسوية السياسية، وتحمل تأثيرات على الاستقرار السياسي والاجتماعي، وعلى الأمن الوطني. يجب أن يدفع السوريون أقل أثمانها، ويحصلوا على معظم عوائدها. أما الأطراف الدولية فعليها أن تكون معنية باستقرار سورية، واستعادة شعبها لحقوقه وخسائره، وكلما كانت أكثر قرباً من السوريين كلما ارتضت بأن تكون حصصها أقل ومساهمتها نوعية ووفق ما يحتاجه السوريون... ولكن هذه المحددات الوطنية لإعادة الإعمار، يجب أن تجد أصواتاً سورية قوية تدافع عنها وتفاوض استثمارياً على أساسها، وتطالب برفع العقوبات، وتحصيل التعويضات، وتحديد الأرباح... وهو ما لا نجده في عقلية إدارة إعادة الإعمار السائدة محلياً، والذي لا يمكن أن يصل إلى مبتغاه إلا إذا امتلك عموم السوريين القدرة في التأثير على القرارات الاستثمارية والخطط الاقتصادية ومنطق إعادة إعمار بلادهم.