العقوبات الاقتصادية: «العذول الأمريكي» يسرّع تكون بدائله
يتضمن انتقال مركز الإنتاج الدولي نحو أقصى الشرق، iddإعادة تشكيل اتجاهات العلاقات الاقتصادي، حيث تغدو شرق آسيا عقدتها ومركز جاذبيتها بدلاً من طرفي الأطلنطي، لتتركز التبادلات في القارة الأوراسية، حيث تجري أكثر من ٧٥٪ من التبادلات الدولية، بالإضافة إلى عملية تهميش موازٍ للولايات المتحدة.
هنا تأتي العقوبات كواحدة من محاولات واشنطن لِلَجم تعزّز الروابط الجديدة عبر استخدام احتكارها لمنظومة الربط المالي. إلا أنّ تزايد العقوبات دفع عدداً من الدول لتشكيل منظومة مالية بديلة تقلّم أظافر القوة الأمركية.
تعلم واشنطن، أن تعمق الترابط الاقتصادي الأوراسي المترافق مع تصاعد هامشيتها، سيؤدي إلى تغيّر على الصعيد السياسي في علاقات التبعية والترابط وبنية المصالح بين الدول، بما يعنيه من تآكل الحوامل المادية لتحالفاتها المكونة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. وتستغل واشنطن آخر معاقل قوتها: المنظومة المالية، محاولة لعب دور «العذول» لعملية الاندماج الأوراسي عبر أداة العقوبات.
العقوبات على إيران
أدى رفع العقوبات عن إيران إلى تحقيقها نمواً اقتصادياً عالياً ٧٪، بالإضافة إلى استعادة روابطها مع أوروبا التي تحولت إلى وجهة أكثر من ٢١٪ من الصادرات النفطية الإيرانية في ٢٠١٧، بالإضافة إلى تدفق الاستثمارات الأوروبية في القطاع الصناعي في مجال صناعة المركبات مع شركات رينو، ميرسيدس، فولكسفاغن بالإضافة إلى عقود تتضمن نقل تكنولوجيا (الاتفاق مع سيمنس على تصنيع عنفات توليد كهربائي تعمل على الغاز) وبالإضافة إلى استثمارات في القطاع الاستخراجي، والنقل السككي. يذكر أن كل هذه الاستثمارت قد سُحبت من إيران نتيجة العقوبات الأمريكية الأخيرة، بالإضافة إلى تراجع صادرات النفط الإيراني إلى أوروبا قبيل تطبيق العقوبات إلى ما يقارب 0,5٪ من مجمل صادراتها في شهر تشرين الأول ٢٠١٨.
ترى الولايات المتحدة بأن العلاقات الأوروبية مع إيران تعطي الأخيرة رافعة، بالإضافة إلى أن الانفتاح الاقتصادي الأوروبي على إيران يؤدي إلى تحول الأخيرة إلى رقم اقتصادي إقليمي يفوق أهمية حلفائها في المنطقة.
في المقابل، تُضعف هذه العقوبات التوجه الإيراني الذي يرى بأنّ على إيران أن تلعب دور قوة توازن بين الشرق والغرب، فبعد أن أغلق الأخير بوجهها أبوابه، كما سبق وفعل مع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لم يبق من خيار اليوم أمامها سوى تعميق العلاقات مع روسيا والصين والهند، مما سيفقد القوى الغربية رافعتها بالتأثير على السياسات الإيرانية.
العقوبات على روسيا
أحد أهداف العقوبات على روسيا هو منع إقامة مشروع خط السيل الشمالي 2 الذي يزوّد ألمانيا وعبرها أوروبا بالغاز الروسي، في سياق ارتفعت فيه صادرات الغاز الروسي لأوروبا لنسبة ٣٧٪ من مجمل وارداتها من الغاز في عام ٢٠١٧ (بعد أن كان ٣٢٪ في ٢٠١٦). من المتوقع أن يُضاعف خط السيل الشمالي ٢ طاقة الضخ عبر البلطيق لترتفع لنسبة ٦٥٪ من مجمل صادرات روسيا الغازية لأوروبا. إذ وسعّت واشنطن من عقوباتها لتشمل غاز بروم ورئيسها في بداية نيسان ٢٠١٨ بعد عشرة أيام من إعطاء الحكومة الألمانية التصاريح للبدء بعملية تشييد الأنبوب.
ترى أمريكا بالمشروع، الذي تشترك بتنفيذه غاز بروم الروسية مع خمس شركات أوروبية، خطراً على مستوى نفوذها على أوروبا. إذ أنه يُعطي روسيا رافعة ضغط بعلاقاتها مع أوروبا، بالإضافة إلى أنه سيخفف الرافعة التي تمتلكها أمريكا على روسيا، عبر وكلائها في أوكرانيا وبولندا اللتين يمر عبرهما خطا تغذية غازية رئيسان لأوروبا.
كما استهدفت العقوبات الأخيرة الاستثمارات في السكك التي تمر في روسيا ضمن مبادرة الحزام والطريق الصينية الهادفة لإعادة هيكلة طرق التجارة التقليدية بين شرق أسيا وغرب أوروبا التي تمتد على طولها الحواجز العسكرية الأمريكية.
البنية التحتية للعقوبات وآليتها
تستطيع واشنطن فرض العقوبات لتحكمها بخطوط الربط التجاري، من خلال دور الدولار كعملة التبادل الدولي الأساس، إذ تمنع الكيانات المعاقبة من استخدامه، والأهم هو: تحكمها بنظام التواصل والدفع الدولي.
تتم معظم المبادلات الاقتصادية عبر آلية التحويل، ففي الصفقات العابرة للحدود، يتم اللجوء للتحويل عبر المراسلة بالاستفادة من خدمات مؤسسات مالية مختصة بالوساطة المالية أو التحويل بالمراسلة، وهي خدمة مالية تقدمها مؤسسة مالية لأخرى، فإذا افترضنا أن بنكي العميل الدافع والعميل المستفيد يملكان حسابين في شركة وساطة مالية «س»، فعند إرسال الأمر من البنك الدافع لـ «س» تقوم الأخيرة بالاقتطاع من حساب بنك الدافع، والإيداع في حساب بنك المستفيد. في الحالة التي يملك فيها بنكا المستفيد والدافع حسابات في شركات وساطة مالية مختلفة، تقوم شركات الوساطة بتسويات الحسابات فيما بينها.
بالنسبة للعقوبات المهم هو القدرة على التحكم بتبادل المعلومات (الأوامر) لضمان فعالية وإنفاذ العقوبات. إن عملية تبادل المعلومات (الأوامر) والمبالغ تتم عبر أنظمة الدفع والتراسل الإلكتروني، وهو ما تملك السيطرة عليه الولايات المتحدة، الأمر الذي يُعدّ شرطاً مادياً أساسياً لقدرتها على تطبيق العقوبات. الأنظمة الثلاث هم تشبس(CHIPS)، فيدوير (FEDWIRE) وسويفت(SWIFT).
تشبس وفيدوير هما نظاما تراسل ودفع إلكتروني مملوكان من البنوك الفيدرالية الاثنا عشر المكونة للبنك المركزي الأمريكي، في حين أن فيدوير يركز على التبادلات المحلية داخل السوق الأميركي، فإن تشبس هو نظام الدفع الإلكتروني الأساس الذي تستخدمه الولايات المتحدة في المعاملات الدولية. في عام ٢٠٠٥، قدرت قيمة الصفقات المعالجة يومياً عبر فيدوير بـ 2,1 تريليون دولار، في حين قدرت بـ 1,2 تريليون في حالة تشبس.
أما سويفت فهو نظام التراسل الأكثر استخداماً في الصفقات الدولية، إذ قدرت قيمة الأوامر المرسلة عبره يومياً بـ ٥ تريليون في ٢٠٠٥. تقتصر وظيفته على نقل الأوامر الإلكترونية، لكنه لا يستطيع تنفيذها، على العكس من النظامية الأمريكيين. من هنا نشأ الترابط بين منظومة سويفت ونظام تشيبس تحديداً الذي عالج أكثر من ٩٥٪ من كل المعاملات المالية الأمريكية العابرة للحدود والمسعرة بالدولار في عام ٢٠١٣، كما قدرت نسبة الصفقات التي ينفذها نظام تشبس عبر نظام سوفيت بـ ٧٠٪ من مجمل الأوامر التي نفذها في عام ٢٠٠٥.
إذا يشكل النظامان حلقتين في نفس منظومة التراسل والدفع الدولي، التي تهمين عليها أمريكا رغم كون سويفت نظاماً أوروبياً خاضعاً لقوانين بروكسل، إلا أنه مجبر على الالتزام بالعقوبات الأمريكية طالما أن الدولار هو عملة التبادل الدولي الرئيسة وكون معظم مؤسسات الوساطة المالية الكبرى تتركز في أمريكا.
تقليم أظافر واشنطن
إنّ كسر الاحتكار لمنظومة الدفع الدولي يعني تأريض منطق العقوبات وإنهاء قدرتها على ضرب خطوط تواصل قوى العالم الصاعد، وهو ما حدث نتيجة إفراط واشنطن في استخدام منطق العقوبات.
أطلقت الصين عام ٢٠١٥ نظام دفعٍ دولي لتسويات التعاملات العابرة للحدود باليوان «تسيبس» CIPS. الجدير بالذكر أن تسيبس يستخدم نظام سويفت ومعاييره، هي نقطة ضعفه، أما روسيا وتحت ضغط العقوبات الغربية عليها، فقد أنشأت نظام دفعٍ محلي «مير»، بالإضافة إلى نظام تراسل دولي بديل للسويفت، أطلقت عليه اسم سيبرفت CyberFT، الذي يتمتع بمواصفات تقنية تتجاوز سويفت من عدة نواح، من ضمنها طاقة النظام الاستيعابية اللانهائية من ناحية عدد العملاء المشتركين في شبكته، في حين أن طاقة سويفت تقف عند ١٠ آلاف.
دمج نظام الدفع الصيني (تسيبس) مع منظومة التراسل الروسية (سيبرفت) سيؤدي إلى نشوء نظام دفع دولي متكامل خارج السلطة الأمريكية وهو ما تم إطلاق محادثات حوله بين الصين وروسيا نهاية عام ٢٠١٦. لن ننتظر طويلاً حتى نرى ذلك، إذا لم تعقل أمريكا وتستوعب وتراجع موقعها.