التفاوض الاستثماري السوري- السوري
(هل ستفلس البنوك اللبنانية؟) العنوان الرئيس في الصحافة الاقتصادية السورية اليوم، ويأتي هذا وضوحاً من موقع تحريض الأموال السورية في لبنان وغيرها للعودة، تحت غطاء الخطر المالي في لبنان. ولكن ما يجري لا يرتبط بلبنان كثيراً، بل ربما بعمليات تفاوض مالي سوري- سوري، حول تموضع الأموال واستثماراتها المستقبلية.
يقدر اقتصاديون سوريون بأن الأموال السورية في الخارج قاربت 100 مليار دولار عام 2002 (قدري جميل- قضايا اقتصادية). ولذلك فإن التقديرات التي تقول اليوم بأن الأموال السورية في الخارج تقارب 200 مليار دولار اليوم، لا تعتبر أرقاماً مبالغاً بها.
الأموال تتحرك بالربح لا بالدعاية
تدفقت الأموال السورية إلى الخارج طيلة العقود الماضية، لأن الربح الاستثماري لم يكن مجدياً في سورية- إلّا لقلة تضمن وضعاً احتكارياً وميزات شرعية وغير شرعية- وتحديداً إذا ما قورنت الجدوى الاستثمارية في سورية مع الطفرات العقارية والمالية منذ التسعينيات، التي كانت تحقق أرباحاً عالية في الإقليم، ومعدلات فائدة مرتفعة، ولم تكن تفعل فعلها في الاقتصاد السوري، بالمقارنة مع غيره (على سبيل المثال كان معدل الفائدة على الودائع في لبنان مطلع التسعينيات 17%، مقابل 4% في سورية). وكانت الأموال السورية تخرج إلى لبنان على سبيل المثال، حيث (الحريرية) الاقتصادية حققت للمال المضارب عوائد هامة خلال التسعينيات، وتقدر الودائع السورية في لبنان بـ 16 مليار دولار قبل الأزمة، لتتراوح اليوم بين 25- 37 مليار دولار، وفق التقديرات المتنوعة.
لن تتحرك الأموال من سورية وإليها وفق عوامل التحريض والدعاية، فالأموال تتحرك وفق قوانينها: وبالدرجة الأولى: وفق سعيها للربح الأعلى، وحيث تتوفر شروط تحقيق هذا الربح، والمتمثلة بالدرجة الأولى بالأمن المالي والضمانات. ولكي تتجه الأموال السورية، أو غيرها إلى سورية يجب أن يتحقق شرطان أساسيان على الأقل، أولاً: أن تؤمن معدل ربح أعلى مما تحققه في الخارج، وثانياً: أن تكون محمية من المخاطر.
وتتغير الظروف المحددة لهذه الشروط، في سورية، وفي الإقليم...
الربح في سورية مقابل الإقليم
من حيث معدل الربح، فإن لانخفاض التكاليف الاستثمارية في سورية اليوم أثراً هاماً على ارتفاع معدل الربح داخل سورية: فالقيمة المنخفضة لليرة، والسعر المنخفض لأجر قوة العمل السورية، بالإضافة إلى الحصة المنخفضة للمال العام من الأرباح... جميعها عوامل تزيد معدل الربح، وتقلل التكاليف.
ويمكن أن نأخذ معدلات الفائدة الوسطية كأداة تأشيرية للمقارنة: فبينما قد تصل معدلات فوائد الودائع لآجال طويلة، ولشهادات الإيداع إلى 20% في سورية وفق ما تشير إليه أعلى التقديرات، فإنها في مصر تقارب 12%، وفي لبنان 7%، والأردن 3%، وفي تركيا تقارب 14% ما يعني أن الفروقات موجودة لصالح عوائد أعلى في سورية. وينبغي الإشارة إلى أن معدل الفائدة ليس أداة تعبير دقيقة عن فوارق معدل الربح، لأن المحدد الفعلي هو العائد على الاستثمار، الذي ترتبط به معدلات الفائدة، ولكنها تنفع للدلالة التأشيرية على معدلات الربح الوسطية في اللحظة الحالية.
ولكن هذا لا يكفي للقول: أن معدل الربح في سورية سيكون مغرياً بالشكل الكافي لتوافد الأموال الآن... لأن شروط تحقيق الربح لا تزال معقدة: فمستويات الاستهلاك والطلب في سورية في أدنى مستوياتها، ولا تزال إمكانات التسويق الخارجي، والتعامل الخارجي عموماً عالية التعقيد في ظل العقوبات، إضافة إلى التأثير السلبي لمستوى تدهور البنى التحتية والخدمات العامة. ولكن كل ما سبق ينطبق على الاستثمار في الإنتاج الحقيقي وخدماته، وليس في المجالات التي تحقق أرباحاً من الطفرات المالية: كالعقارات والمال بالدرجة الأولى.
ولكن حتى هذه، ورغم الإغراء الكامن في ربحها في الظروف المضطربة، إلّا أن هنالك عوائق أمام تدفق الأموال تجاهها حالياً، وتتمثل بتفاقم العامل المساهم تاريخياً في تكاليف الاستثمار في سورية، وهو حصة قوى النفوذ والبيروقراطية، أي: حصة الفساد الكبير وأتاواته، والنفوذ الكبير في السوق لأمراء الحرب، وللأموال المجمعة من الخسائر الكبرى في سنوات الأزمة، وغياب عوامل الثقة بالتشارك معهم. وكل هذا يدخل في تحديد حافز تحقيق الربح داخل سورية وبالتالي حركة الأموال باتجاهها الآن.
الأموال في الخارج متمهلة ولكن عائدة
يشكل جميع ما سبق عقبات محلية جدية أمام المستثمرين سواءً كانوا سوريين أم غيرهم، تجعلهم متمهلين في اغتنام فرصة المساهمة المبكرة في سوق واعدة. ويزيد من هذا التمهل، جملة الإشارات السياسية التي تأتي من اللاعبين الدوليين الأساسيين، بأن لحظة إعادة الإعمار السورية لم تحن بعد. وتحديداً السلوك المتمهل للصين، التي تقول كل المؤشرات أنها ستكون المساهم الأساسي في تمويل مشاريع البنى التحتية الكبرى في سورية، والتي ترفع مع تحقيقها معدل الأداء الاقتصادي ككل. بالإضافة إلى تأثير الموقف المكرر للغرب بربطه لرفع العقوبات والمساهمة بإعادة الإعمار السورية بشروط سياسية.
ولكن في المقابل، إن هذه الأموال السورية تحديداً المتراكمة في الخارج، لن تتأخر كثيراً بالدخول على خط الاستثمار في سورية، والعودة إليها... وذلك لأسباب تتعلق بالظروف المالية الدولية، والإقليمية تحديداً، والتي تضغط على الأموال السورية المتوزعة في الإقليم: فمن مؤشرات الإنذار المالي الجدّية في لبنان مع تفاقم مستويات الدين، وتلكؤ الغرب في عملية الإنقاذ الدوري للنظام السياسي والمالي اللبناني الذي ظهر في مؤتمر باريس الأخير، بالإضافة إلى الوضع المضطرب للأردن الذي يعيش على (حقنات الخليج) بالدرجة الأولى. عدا عن مصر التي تفقد تدريجياً ميزات تكاليف الإنتاج المنخفضة فيها، مع رفع أسعار الطاقة، وجملة الإجراءات الاقتصادية الدولية المطبقة مقابل قروض صندوق النقد التي تهدد المجتمع المصري وليس الاقتصاد فقط. وأخيراً: أثر أزمة الخليج المتفاقمة منذ حرب النفط، وأزمة تركيا الاقتصادية والمالية التي تحتدم منذ مطلع العام الحالي (قاسيون 866).
الأموال السورية التي خرجت لم تستقر استثمارياً إلّا في مصر، بينما لم تستثمر في لبنان إلّا بمعدل يقدره البعض بـ 2 مليار دولار فقط. ما يعني أنها لم تجد ظروف استقرار، وتبني على العودة إلى الاستثمار في الداخل السوري، ولكن تنتظر لحظة مناسبة سياسياً واقتصادياً.
الأموال في الداخل إلحاح واستعجال
الأموال السورية الموجودة في الخارج تتسم حالياً بالتمهل والحذر، رغم أنها تجري (عمليات استطلاع). ولكن بالمقابل فإن قوى المال السورية المتمركزة في الداخل تحتاج إلى تدفقات الأموال من الخارج، وإلى شركاء، وتسعى حثيثاً إلى اجتذابهم الآن.
يظهر هذا الميل من الأداء الحكومي، الذي يعكس مصالح قوى المال الكبرى والمتنفذة في السوق المحلية:
فالحكومة تقدم مغريات متمثلة بكل متطلبات البنية التشريعية التي تشجع على الاستثمار، وتحاول أن تزيل أية صبغة غير ليبرالية عن التشريع والقوانين السورية: فمن قانون التشاركية، وإعادة الهيكلة في القطاع العام إلى مشروع قانون الاستثمار الحالي، القائم على بنية إعفاءات وتسهيلات غير مسبوقة. مروراً بفتح الفرص الاستثمارية في قطاع الخدمات العامة، حيث أصبحت الوحدات الإدارية قابلة للتحول إلى شركات قابضة لها شركاء مستثمرين، وتم التجهيز الكامل تقريباً لآليات الاستثمار العقاري وإعادة إعمار المناطق المدمرة، عبر تحويل المناطق وملكيات السكان إلى أسهم تتداول في السوق، وتخضع للمضاربة العقارية.
يضاف إلى البنية التشريعية جملة الإجراءات والتسهيلات المصرفية لعمليات الإيداع والتحويل بين المصارف، ومغريات مالية أيضاً من ديون الحكومة، التي ستتحول إلى أوراق مالية عبر شهادات إيداع ولاحقاً سندات خزينة ستكون قابلة للتداول وبفوائد عالية. والأمثلة والدلائل كثيرة على عمليات التجهيز المستمر والتي يجمعها هدف أساس: إقناع وإغراء المستثمرين والأموال الموجودة في الخارج، سورية أو غير سورية، بالتدفق إلى سورية. فما الهدف؟!
الحاجة إلى شركاء الآن وليس غداً
بطبيعة الحال ستحتاج سورية إلى تدفقات استثمارية لإعادة الإعمار، ولكن ليس هذا ما نتحدث عنه هنا. بل نتحدث عن الأسباب التي تدفع قوى المال السورية صاحبة النفوذ بالداخل، وصاحبة الملاءة المالية الكبيرة إلى تحريض ومفاوضة قوى المال الأخرى للدخول إلى سورية...
تجد قوى السوق- هذه في اللحظة الحالية- الفرصة الأمثل لاغتنام الفرص الاستثمارية، واستكمال نقل النفوذ المالي البيروقراطي إلى أمر واقع وشراكات في السوق، بحيث لا تستطيع أية تغييرات سياسية لاحقاً أن تغير من سطوته كثيراً. ولذلك فإن السوق السورية تشهد تمدد الكثير من الواجهات المالية الاستثمارية في قطاعات متنوعة، لتشتري كل ما يمكن شراؤه.
فعدا عن قطاع الطاقة وعقود خدماته السابقة، وعقود استثماره الأخيرة... فإن نمط الاستثمار المضاربي العقاري، والمالي، والخدمي الذي يركزون جهودهم به، يحتاج للإقلاع من عتبة مرتفعة، ومضاعفة أرباحه، إلى حركة أموال متدفقة إلى هذه القطاعات. ليتضاعف ما تم شراؤه بسعر منخفض، ويحقق عوائد بالأضعاف. ولذلك فإن هؤلاء يحتاجون إلى تدفق الشركاء والأموال مجدداً، لأنه يعطي إشارة للمال الإقليمي بالتدفق، وهو ما بدأت بوادره من عودة المستثمرين السياحيين والعقاريين من الخليج مثل: شركتي الخرافي الكويتية والفطيم الإماراتية على سبيل المثال.
تحتاج قوى المال السورية المتنفذة في الداخل السوري، إلى شراكات استثمارية في اللحظة الحالية: حيث لا يزال موقعها التفاوضي مرتفعاً، نتيجة قدرتها على التأثير على القرارات والتشريع. ويعتبر هؤلاء، أن رؤوس الأموال تحتاج إلى قدحِ زِنادٍ، لتتدفق وراءه، ويمكن أن يكون الطريق الأسهل هو تأمين عودة الأموال السورية الموجودة في ظروف مضطربة مثل: لبنان والأردن وربما مصر عبر ترغيبها تفاوضياً.
أما أولئك على الطرف الآخر، والذين أخرجوا أموالهم في سنوات الأزمة، وأمام أعين الجميع، وعبر المصارف السورية التي للمصارف اللبنانية وزن أساسي فيها... فإنهم ليسوا مستعجلين لاغتنام الفرص التي ستأتي لاحقاً. ولكن بالمقابل فإن الظروف الإقليمية السيئة مالياً ستضغط عليهم، ولن تعطيهم كامل الوقت التفاوضي المطلوب.
تلعب أطراف المال السورية مع الوقت والظروف المتغيرة، لعبة تفاوضية: فبعضهم يريد أن يكسب الوقت ويستفيد من ميزاته السياسية الحالية التي قد تتغير، وآخرون يريدون أيضاً أن يكسبوا الوقت علّ السطوة القانونية والسياسية لمنافسيهم تتراجع. ولكنهم يخشون أيضاً من ضياع الفرص الثمينة إن تأخروا، ومن تغير الأجواء الإقليمية، واضطرابات الوضع المالي في المحيط.
ولكن
كلا الطرفين من قوى السوق: الأثرياء البيروقراطيين، والأثرياء التقليديين إن صح القول، يتجاهلان معطى جدياً، قد يقلب التفاوض الاقتصادي على هؤلاء. والمتمثل بحجم التدهور الاقتصادي- الاجتماعي السوري: ملايين الفقراء، وملايين العاطلين، وملايين العاملين بأجور لا تسد الرمق، ملايين النازحين، واللاجئين، وملايين ممن خسروا بيوتهم ومصادر رزقهم، وملايين من مستحقي التعويضات، والمليارات المطلوبة لانتشال البلاد من النتائج الكارثية لأزمتها.
إن كل ما سبق هو وقائع فعلية، وتجاهلها لا يعني أنّها ملغاة! كما أن هامش التفاوض معها منخفض، فهي إما أن تُلبى أو أن تعيق استمرارية أو انطلاقة النشاط الاقتصادي والربح الذي يتحاصص عليه أولئك. قد يكون معدل الربح الاستثماري في سورية مرتفعاً، ولكن ارتفاعه مرهون باستمرار الوضع الاجتماعي المتدهور لملايين السوريين. وقد تنجح أطراف المال بإيجاد صيغة توافقية للتحاصص الاستثماري، في قطاعات العقارات والمال والخدمات: ولكنهم سيفعلون هذا في ظروف لن تؤمن لهم تدفقاً مالياً خارجياً مستمراً، نتيجة جملة الظروف المالية الإقليمية والدولية التي ترافق لحظة إعادة إعمار سورية. وستكون النتيجة عدم وجود مضخات إنقاذ مستمرة تنتشلهم- كما يعتاش المتحاصصون اللبنانيون حتى اليوم- وسيكون عليهم أن يواجهوا الملايين من السوريين وحاجاتهم الملحة، واحتقانهم المتراكم. ومحاولاتهم لفرض نموذج يحقق لهم استعادة حياتهم وبلادهم، ويمنع إعادة سرقتها كما كان يجري قبل الأزمة، وساهم المساهمة الفعالة في إيقادها.