الأزمة المالية آتية: فإما تعجيلها أو تأجيلها!
تصدر العديد من التحذيرات الحثيثة من أزمة مالية عالمية جديدة، ليس فقط من المستثمر الملياردير جورج سورس، ولكن أيضاً من اقتصاديين هامّين معتمدين من قبل بنك التسويات الدولية: أو بنك البنوك المركزية.
ترجمة وإعداد قاسيون
تأتي التحذيرات في لحظة تظهر فيها موجة تدفقات لرؤوس الأموال التي تخرج من الدول الصاعدة، بما فيها حالياً تركيا والأرجنتين وإندونيسيا. وقد كان الخبراء قد حذروا سابقاً من أن دورة الانتعاش والكساد في التدفقات المالية إلى الدول النامية ستؤدي إلى حالة «اختلال حاد» في مرحلة انتقالها من التوسع للكساد.
سورس تحدث مؤخراً في باريس قائلاً: «إن قوة الدولار الحالية قد سرعت من هروب رؤوس الأموال من أسواق عملات الدول الصاعدة. ربما علينا أن نُعد أنفسنا لأزمة مالية أساسية جديدة».
الأسواق النامية تورطت أكثر
تحتاج هذه الأزمة إلى قدح الزناد، والذي قد يأتي من أزمة أوروبية جديدة، أو عبر خروج الأموال من مجموعة من الدول الصاعدة، والتي قد تدفقت إليها أموال كبرى في مرحلة انخفاض العوائد إلى مستويات تقارب الصفر أو أقل منه في الدول الغنية. والآن مع ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، وارتفاع أسعار السندات، التدفقات ستسير باتجاه عكسي، وهي فقط البداية.
فمنذ عام 2009، زادت الدول النامية وبعض الصاعدة من نقاط ضعفها تجاه الصدمات المالية العالمية. فالقطاع المالي في هذه الدول قد شهد تعميقاً للارتباط بأسواق المال العالمية، وقد ظهر هذا على سبيل المثال من النسبة العالية لملكية صناديق الاستثمار والمستثمرين الأجانب لحصص كبرى من أسواق الأسهم المحلية والسندات الحكومية في تلك الدول. وهو ما يعني: أنه إذا ما جرت عملية تدفق لهذه الأموال للخارج، فإن الاقتصاديات الصاعدة والنامية المتورطة ستعاني من خسائر في احتياطياتها الأجنبية، ومن تراجع في قيمة عملتها، ومن ارتفاع تكاليف خدمة الدَّين الخارجي، وارتفاع الأسعار المستوردة، وانخفاض أسعار العقارات والأصول، وغيرها من الآثار الجانبية لأزمة مالية عالمية.
المشكلة في النمو عبر الدَّين
تحذير سورس سبقه أيضاً نقاش أجراه مركز الجنوب في جنيف، عندما استضاف كلاً من بيتر ديتس: السكرتير العام لبنك التسويات الدولية (BIS)، وهارفن هامون نائب المدير العام السابق للبنك ذاته، ليعرضا كتابهما الصادر بعنوان (الثورة المطلوبة: القنابل الموقوتة نموذج G7). والبنك المذكور هو بمثابة نادٍ لأكثر من 60 بنك مركزي، ومعروف ببنك البنوك المركزية.
وكل منهما قد استقال من رئاسة البنك، وكتبا كتابهما حول النظام المالي العالمي الذي يقترب من الانفجار، نتيجة السياسات الخطرة والخاطئة للدول المتقدمة الأساسية. حيث يعتبران أنه لا يمكن وصف التغيرات المطلوبة في السياسات المالية العالمية، بأقل من تغييرات ثورية.
السبب الأساس في المشكلة، هو: ما يسميانه بنموذج النمو عبر الدَّين في دول G7: (مجموعة السبع، وهو تجمع الولايات المتحدة، كندا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان). حيث قادت الولايات المتحدة هذا النموذج، بسياستها المالية غير المسؤولة التي صدّرتها إلى دول G7 الأخرى، باستثناء ألمانيا.
وسّعت الولايات المتحدة إنفاقها وقلّصت ضرائبها بمقدار يقارب ألف مليار دولار، دون تمويل أساسي للدَّين سوى بالدَّين. وهو ما أدى إلى العجز المالي للولايات المتحدة الذي من المتوقع أن يصل إلى تريليون دولار في عام 2019. وهو ما أصبح متاحاً عبر السياسة النقدية المتساهلة من البنك الفيدرالي الأمريكي والمتبعة منذ عام 2009، وعبر تواطؤ وكالات تصنيف الديون الأمريكية الثلاث الكبرى، وكذلك صندوق النقد الدولي.
أصبحت البنوك المركزية لدول G7 المسهل لعملية تراكم الدَّين، عبر معدلات الفائدة الصفرية، كمحفزٍ هائلٍ للاقتراض. ما أوصل ديون هذه الدول المتقدمة إلى 100 تريليون دولار في الربع الثالث من عام 2017، حيث تشكل ديون الولايات المتحدة، وبريطانيا وكندا واليابان ومنطقة اليورو، قرابة ثلثي الدَّين العالمي 64% منه. كما حذر الكاتبان بأن الفقاعة غير المسبوقة في أسعار الأسهم، قادتها سياسات البنوك المركزية في دول G7، وهي عملياً قنبلة موقوتة جاهزة للانفجار، في أسعار الأسهم والعقارات والأصول المالية عموماً.
سيناريوهان خطران
تتحدث البنوك المركزية الآن عن شرائها لكميات ضخمة من السندات الحكومية، كإجراء مؤقت يؤخذ لأسباب نقدية، حيث ينزلقون إلى منعطف آخر، حيث إن التدخل المؤقت للبنوك المركزية في سوق السندات الحكومية، حيث يرى البعض أن هذا يمثل طريقة لحل أزمة الدَّين السيادي للدول في الدول المتقدمة الأساسية، عبر تحويل جزء من الدَّين الحكومي إلى البنوك المركزية: 43% من السندات الحكومية بالعملات الاحتياطية الأساسية، موجودة لدى البنوك المركزية، والكيانات المالية العامة الأخرى.
وهذا سيدفع البنوك المركزية للانزلاق إلى (إسالة الدَّين الحكومي). حيث تقف البنوك المركزية في الدول المتقدمة على مفترق طرق: فإما (التطبيع) أي: العودة للوضع الطبيعي، أو (الإسالة) وهي مزيد من الغرق في الأزمة.
وكلا السيناريوهين خطيران وفق الكاتبين: حالياً الفيدرالي الأمريكي والمركزي الكندي يسيران باتجاه التطبيع بخطوات متثاقلة، بينما المركزي الأوروبي، والياباني يستكملان بخطر سياسة استمرار الدَّين.
فإذا ما قررت البنوك المركزية السير بعملية (التطبيع)، والتوقف عن سياستها غير التقليدية في ضخ الأموال، فإنها عملياً ستساهم في انفجار أزمة فقاعة أسعار الأصول المالية، وهو ما قد يكون أسوأ أزمة مالية سبق اختبارها، حيث إن مستويات الدَّين، والأسعار المفتعلة للأصول المالية غير مسبوقة.
ولكن في المقابل، فإن أزمة النظام المالي ستتعقد إلى مستويات أعلى في حال الاستمرار بسياسات ضخ المال والغرق بتوسيع الدَّين، فاستمرار سياسات معدلات الفائدة الصفرية والشراء الكثيف لسندات الدَّين من الحكومة، سيوسع الأزمة الحالية فقط لا غير، ولن يغير نقل الديون إلى الميزانيات العمومية للبنوك المركزية من الأمر شيئاً.
الخيارات قليلة أمام الدول المتقدمة لمواجهة الأزمة التي تختمر، وتتمثل إمّا بإيقاف سياسات توسيع الضخ المالي، وبالتالي تسريع الانفجار، وإمّا الاستمرار في السياسة ذاتها، وهو ليس أكثر من شراءٍ للوقت والاتجاه إلى أزمة أكبر وأعمق.
*مارتن خور: المدير التنفيذي لمركز الجنوب، مركز أبحاث للبلدان النامية مقره في جنيف.
* عنوان المقال الأصلي: Warnings of a New Global Financial Crisis