«المال العالمي» يهاجم تركيا
ليلى نصر ليلى نصر

«المال العالمي» يهاجم تركيا

خفضت وكالة فيتش الأمريكية للتصنيف تقييمها لوضع العملة التركية إلى السلبي، وبدأت الصحافة الغربية تتحدث عن انهيار وشيك للاقتصاد التركي، وبالمقابل فإن أردوغان وبعد نجاحه بنسبة 52% في الانتخابات، يؤكد: أن الاقتصاد التركي يسير على الطريق الصحيح... وبدأ مرحلة حاسمة في صراعه مع البنك المركزي كوكيل غربي في تركيا.

منذ 2014 العام الذي جلس فيه أردوغان على كرسي الرئاسة، بدأت «المعجزة التركية» تنتهي. والسبب ليس رؤيته الاقتصادية، فالرئيس التركي الذي كان رئيساً للحكومة منذ عام 2003، ومعنياً بالشأن الاقتصادي بالدرجة الأولى، واكب في تلك المرحلة النمو الاستثنائي التركي... ولكن ليس بفضل الرؤية الأردوغانية اقتصادياً، بل بفعل التدفقات الكبرى لرأس المال الأجنبي إلى تركيا، الذي كان يقود أشرعة النمو الاقتصادي التركي، الذي فاقت نسبه نسب النمو الصيني في بعض السنوات، كما في عام 2010 عندما سجل نسبة نمو 8,9%.
اقتصاد مرتبط برضى الغرب
بلغت الكمية التراكمية للاستثمار الأجنبي في تركيا عام 2004: 7 مليار دولار، وارتفعت في عام 2014 إلى 12,5 مليار دولار. من ضمنها 5,1 مليار دولار في عام 2013 فقط.
ولكن منذ عام 2014 بدأ التراجع الاقتصادي التركي، واستمر حتى أواخر عام 2016 عندما تحسن قليلاً بتطبيع جزئي للعلاقات مع روسيا، وتوسيعها مع الصين. وارتبط هذا التراجع: بإعلان بروكسل أن الدخول التركي إلى الاتحاد الأوروبي صعب المنال، وبتخفيض التصنيف التركي، وبخروج رؤوس الأموال الأجنبية من تركيا وتراجع تدفقها، وانخفاض قيمة العملة، ورفع أسعار الفائدة.
المعركة بين أردوغان والمركزي
احتدمت من ذلك العام المعركة بين أردوغان وبين السلطات النقدية، الممثلة بالبنك المركزي التركي، الذي يعتبر بنكاً مستقلاً مثل العديد من البنوك المركزية عبر العالم، حيث لا يتلقى الأوامر من الحكومة أو البرلمان، أو القضاء وفقاً للدستور. ولكن بطبيعة الحال، فإن منظومة البنوك المستقلة ترتبط ببنك التسويات الدولية، والذي يعتبر الفيدرالي الأمريكي، بقوى المال الخاصة التي تملكه، العنصر الحاسم في توجيه السياسات النقدية للبنوك المركزية «المستقلة» عبر العالم. لم تكن قوى المال هذه راضية عن أردوغان تماماً وترى في سياساته التكتيكية، ومناورته خطراً على درجة ولاء تركيا للغرب.
عشية استلام أردوغان لمنصبه الرئاسي في عام 2014 رفع المصرف المركزي التركي سعر الفائدة إلى نسبة 10%، من مستوى 4,5%. وبرروا هذا بالدفاع عن قيمة الليرة التركية، ولكن سياسة كهذه تجعل الإقراض المحلي مستحيلاً، وتفاقم من أثر تراجع التمويل الخارجي.
حاول الرئيس التركي في حينها أن يضغط على المصرف المركزي، إلا أنه لم ينجح سوى بتخفيض المعدل بنسبة 2-2,5%، وهي غير كافية لتغيير الوضع. ودخل الاقتصاد التركي في الركود ذلك العام.
رفع الفائدة أداة انتخابية
عقب الانقلاب في عام 2016 نجح أردوغان في عزل مجموعة من العاملين في المصرف المركزي التركي، من المدافعين عن سياسة رفع سعر الفائدة، وكردٍ فإن «مالكي المال العالمي» عبر منظومة البنوك المركزية المستقلة، قد عملوا على تخفيض قيمة العملة التركية. وذلك عبر آلية بسيطة: تسارع خروج رؤوس الأموال الأجنبية من تركيا، وتخفيض التصنيف عبر وكالات التصنيف الغربية.
مؤخراً، وبعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فإن البنك المركزي التركي أيضاً وفي عشية الانتخابات رفع سعر الفائدة بمعدلات عالية من 8% في مطلع عام 2018 إلى 16,5% في 1 تموز، وبعد أسبوع فقط تم رفعه إلى 17,75%.
يستمر المركزي التركي برفع الفائدة منذ عام 2014 ولكن مع ذلك فإن سعر الليرة التركية مقابل الدولار يستمر بالانخفاض، فعملياً عشية الانتخابات التركية كان سعر الليرة التركية: 4,66 مقابل الدولار، بينما كان في نهاية عام 2014: 2,33 ليرة مقابل الدولار. ما يعني: أن قيمة الليرة التركية أصبحت نصف قيمتها في ذلك الحين.
تحول الصراع مع البنك المركزي التركي إلى واحدة من العناوين الأساسية للانتخابات الأخيرة، حيث كان واضحاً بأن «استقلالية» البنك المركزي، ستتضاءل إن لم تنته في حال نجاح أردوغان في الانتخابات. وها هو بالفعل وبعد نجاحه في الانتخابات يركز تغييراته في وزارة المال، التي أوكلها لصهره. وسيسعى إلى تغييرات في السياسة النقدية، وفي الصلاحيات الدستورية للبنك المركزي، ولكن هذا سيعني مواجهة كبرى مع قوى المال في الغرب، التي تمتلك سلطة وتأثيراً على مجموع المال الأجنبي المتراكم والمتدفق إلى تركيا. ما سيترك فراغاً تمويلياً كبيراً، وسيجعل عملية سداد ديون القطاع الخاص الأجنبية صعبة للغاية، ويفتح احتمالات إفلاسات واسعة.
الاقتصاد التركي بخطر فعلاً
الاقتصاد التركي بخطر فعلاً، رغم أن مؤشراته ليست سيئة بمجملها، فالدَّين العام التركي منخفض، 29% من الناتج، ومعدل النمو المتوقع يقارب 4%، والمستوى المالي للبنوك التركية مرتفع. ولكن وضع العملة والتضخم ودرجة اعتماد القطاع الخاص التركي على الإقراض الخارجي، حيث نسبة ديونه تقارب 170% من الناتج التركي، ما يهدد قطاعات كاملة بالإفلاسات، ما لم تستطع تركيا أن تستعيد سلطتها النقدية وتمول ذاتها وتغير تحالفاتها.

إن استهداف استقرار تركيا غربياً اتضح منذ الانقلاب، ولكن ما يساعد الغرب في تهديده، ويضعف تركيا، هو: الرؤية التكتيكية والمناورة غير المبدئية التي يسلكها القوميون الأتراك، وفي مقدمتهم الحزب الحاكم، فنموذجه الاقتصادي منذ عام 2003، فتح الباب للنمو عبر الاستثمار الأجنبي... الذي كان عامل نموٍ، وأصبح نقطة ضعف كبرى في الاقتصاد التركي، وأداة انقلابية على الحلفاء السابقين. ليس أمام القوى التركية التي تريد أن تنجح بحكمها للبلاد، إلا أن تسلك الطريق الوحيد الصعب: بالمواجهة الاقتصادية مع قوى المال العالمي، وتعزيز استقلال تركيا المالي، وتعزيز التحالف الاقتصادي والسياسي مع إطارها الإقليمي، وامتدادها الأوراسي وحتى الصين.

آخر تعديل على الأربعاء, 18 تموز/يوليو 2018 10:58