طريق زيادة الأجور: السهل الممتنع...

طريق زيادة الأجور: السهل الممتنع...

تقول الحكومة: إن زيادة الأجور حالياً سوف تؤدي إلى التضخم وارتفاع الأسعار...لا يمتلك أحد في سورية اليوم إحصائيات دقيقة، ليقول بأن زيادة الأجور بنسبة كذا... ستؤدي إلى زيادة كذا في التضخم، ولكن هذه النتيجة منطقية، إذا كانت الزيادة ستأتي من إصدار النقود الورقية الجديدة... فلماذا لا تأتي زيادة الأجور من النقود القديمة الموجودة فعلاً؟!

 

إن زيادة الأجور اليوم، ودون انتظار التغيرات الكبرى، ودون أن تزيد التضخم، بل قد تخفض الأسعار، وهي إمكانية موجودة... وإذا ما وضعناها على الورق قد تبدو منطقية وسهلة، ولكن لتنتقل إلى فعل واقعي فإنها تحتاج للكثير.
هل هي (مراهقة اقتصادية)؟
أبسط طريقة لزيادة الأجور، هي بإعطائنا من حصة الأرباح. فإذا ما كانت حصة الأرباح 85% كما هي اليوم تقريباً في سورية، وحصة الأجور 15%، فلماذا لا نأخذ من الأموال المتكدسة لدى أصحاب الربح، ونعطي أصحاب الأجر؟ قد يقول قائل: إن هذا نوع من (المراهقة الاقتصادية)، ولكن أعتى منابر الليبرالية الاقتصادية اليوم، تقول: إن التوزيع الجائر للثروة والدخل في عالم اليوم، هو سبب أساس في تباطؤ النمو الاقتصادي، والأزمة الاقتصادية العالمية، والفقر بطبيعة الحال.
هذه العملية لا يمكن أن تتم دون وجود جهاز دولة، يستطيع الملايين من القوى العاملة وأسرهم أن يفرضوا عليه مصالحهم، ليلعب دوراً إيجابياً في توزيع الثروة... وجهاز الدولة لا يقوم بهذا الدور، إلا تحت الضغط، لأنه ببساطة جهاز يعمل وفق ميزان القوى، فطالما أن أصحاب الأرباح هم القوة الاقتصادية الكبرى، بملكيتهم للثروة، وتحكمهم بقرارات الإنتاج، فإن جهاز الدولة: يحبهم، ويحابيهم، ويعمل لخدمتهم... ولا يغير من سلوكه وسياساته الاقتصادية، إلا إذا فُرض عليه أن يحبّ ويحابي ويخدم أصحاب الأجر، وذلك بقوتهم السياسية_ الاجتماعية. وبقوتهم الاقتصادية غير المرئية: فهم في نهاية المطاف منتجو الثروة، فإن توقفوا عن إنتاجها، واستخدموا هذه القوة بشكل مدروس عبر الإضرابات مثلاً، فإنهم يستطيعون قلب موازين القوى. أما أصحاب الربح فرغم ملكيتهم للثروة، وتحكمهم بالإنتاج، إلا أنهم لا يستطيعون أن يوقفوا الإنتاج، بسبب ضعفهم الشديد تجاه الربح الأقصى... بينما يصل العمال وأصحاب الأجر إلى وضع، لا يملكون فيه شيئاً، إلّا أن يستمر حالهم المعدوم، أو أن يتغير نحو الأفضل، أي: لا يملكون الكثير ليخسرونه.
لنفترض أننا قادرون...
لنفترض أن لعمال سورية قوة ووزناً سياسياً واجتماعياً، كيف يمكن أن يحلوا المشكلة الوطنية الكبرى لانخفاض الأجور، ومستويات الفقر والبطالة؟
هناك طريقان لا ثالث لهما:
أولاً: أن يتحول جهاز الدولة إلى منتج كبير، وإلى صاحب ملكية عامة كبيرة، ينتج الجزء الأكبر من الدخل، ويوزعه بطريقة أكثر عدالة ليحصل جهاز الدولة على نسبة ربح، ويعطي نسبة أجور مرتفعة لعمال المنشآت العامة. وهذا لا يمكن أن يتم إلا بتحويل الجزء الأكبر من أموال الموازنة، ومن ودائع المصارف إلى استثمارات عامة.
فإذا أصبحت الدولة كمنشآت عامة وعمال، منتج لـ 50% من الناتج، وحصلت على معدل ربح 35% فقط، أي: زادت إيراداتها العامة، فإنها عملياً تزيد حصة الأجور الإجمالية من 15% إلى: 30%، وربما أكثر... أي: يحصل الـ 2,6 مليون عامل حالياً على أجر شهري وسطي يفوق 85 ألف ليرة.
وبهذه الحالة فإن الدولة تضع نفسها بمواجهة أصحاب الربح مباشرة، فهي تأخذ منهم حصة كبيرة من السوق، وتترك لهم نصف السوق فقط. أي: أنها بهذه الحالة تقلص ربحهم بشكل كبير، وتغير نسبة التوزيع، وتزيد التشغيل في صفوفها، وتجذب العاملين في القطاع الخاص للعمل بأجور أعلى لديها، ما يؤدي إلى زيادة الأجور في القطاع الخاص أيضاً.
وهذا عملياً عكس ما تم بسورية، حيث أن الدولة أعطت حصتها من الناتج للسوق بالتدريج، خلال عقدين من الزمن، حيث كانت تنتج قبل التسعينيات 70% من الناتج، وأصبحت تنتج في نهاية الألفية 30% فقط، أي: أعطت السوق 40% من حصتها الممكنة من الناتج، ما أدى إلى تراجع حصة الأجور من قرابة 50% إلى 25% قبل الأزمة، وصولاً إلى 15% خلالها.
وثانياً: ممكن أن تتدخل الدولة لتزيد الأجور، بطرق أخرى لتغير التوزيع، كأن تزيد حصتها المفروضة على الأرباح، حصتها من الضرائب والرسوم المأخوذة من الأرباح لا من الأجور. لتأخذ مباشرة من الأرباح، وتعيد توزيعها للأجور، بأشكال متنوعة، سلع غذائية مدعومة، مشاريع سكنية منخفضة التكلفة، خدمات مجانية تماماً وعالية الجودة بالتعليم والصحة، خدمات نقل عام متطورة ومنخفضة التكلفة...
فإن أصبحت حصة الدولة من الأرباح: 40% من 85%، وهي تصل إلى مستويات أعلى من ذلك في بعض الدول الأوروبية. وذهب 20% منها إلى الأجور مباشرة بالأشكال المختلفة، فإن حصة الأجور تتضاعف وترتفع إلى 35%...
إجراءات بالملموس
إن أي إجراء اليوم من نوع: زيادة الاستثمار الحكومي العام، والإيرادات العامة، وزيادة الضرائب والرسوم على الأرباح، وتمويل زيادة الأجور النقدية منها، وتطوير الخدمات الاجتماعية العامة المجانية، ودعم منتجات أساسية وتخفيض أسعارها، وتمويل النشاط الاقتصادي الإنتاجي الحقيقي... والأهم إيقاف الهدر الكبير الماثل في الفساد الكبير وحصته الهامة من الدخل والثروة، جميعها إجراءات تساهم في إعادة توزيع الدخل من الأرباح للأجور، وتساهم في زيادة حصة الأجور.

على الورق يسهل نقل حصة من الأرباح للأجور، ولكن في الواقع، فإن التغييرات الطفيفة في نسبة التوزيع، تعني تغيرات اجتماعية كبرى. فحتى إغتنام أصحاب الأرباح في سورية عوضاً عن 50% من الدخل 85%، تطلب الأمر عقوداً... والأهم أنه تطلب أن يدفع المجتمع السوري، والبلاد أثماناً مرّة من الفقر والتخلف والفوضى والظلم. ولكن بالمقابل استعادة هذه الحصة منهم، هي الحل الوحيد والعميق للأزمة الاقتصادية الاجتماعية الماثلة على سورية منذ عقود، والتي كانت الأزمة الحالية نتاجها، وخواتيمها. لا يحلّ وضع الأجور السوري، ومستوى الفقر الاستثنائي، بالحلول الناعمة، بل سيفرض نفسه في الوقت المناسب، كاستحقاق وطني أساس، وسيكون عنواناً لمعركة ونهوض وطني عام.