أحلام (ماروتا) المدمِّرة
ترافقت أول الإطلالات على مساحات الدمار الواسعة في المدن السورية مع تبلور نموذج الإعمار النيوليبرالي السوري لدى البعض، ولمعت أحلام (ماروتية)* في أذهان أصحاب الثروات الكبرى في سورية، وبدأ العمل على استخلاص أسرع نموذج في أنسب مكان، فكان للمنطقة جنوب شرقي المزة في دمشق النصيب لتكون الدلالة على رؤية هؤلاء لإعمار عقاري.
منذ أن فتح باب الاستثمار في سورية على مصراعيه في العقد الأول من الألفية، وبدأت الدعوات للاستثمار الخارجي، تدفقت الأموال الخليجية وأموال المضاربة العقارية في المنطقة، لتصب في شراكات مع أموال نخب الفساد السورية التي (تتلتلت) شركات قابضة وواجهات منوعة.
تجربتنا للاستثمار العقاري الخليجي
أدت التوءمة بين الاستثمار الخليجي، وأموال أثرياء سورية في حينها، إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار العقارات، وتحولت مناطق برمتها من قرى إلى مجمعات سكنية وتجارية معزولة للنخب، كما في يعفور وغيرها. وأكملت هذه العملية على بقايا أحلام أصحاب الدخل الصغير في الحصول على السكن. وحول الاستثمار والمضاربات العقارية جزءاً هاماً من الدخل المنتج في سورية إلى أموال تصب في جيوب كبار مستثمري الأراضي، ومالكيها، وانحجب جزء هام من الاستثمار ليصب في هذا القطاع الرابح، فالمتر اليوم بمليون وغداً بمليونين.
وعملياً، كان لسورية ولدمشق خصوصاً تجربة هامة في أثر الاستثمار العقاري، الذي لا يقتصر تأثيره الاقتصادي على تشوه في توزيع الاستثمار والدخل، وتركزه سريعاً لدى كبار المضاربين، مأخوذاً من عموم السكان ومن الحاجة الموضوعية للسكن، وإنما كان له الدور في تراجع الاستثمار الحقيقي، وتراجع التشغيل، وارتفاع الأسعار، وتوسع الفقر، وطفرة العشوائيات، وتشوهات كبرى في البنى الاجتماعية للضواحي التي مسّتها طفرة العقارات، وتشكل شرائح واسعة من المنتفعين العقاريين. وأصبح الاثرياء غير مضطرين لتهريب أموالهم للخارج بالكثافة السابقة، فكل ما عليهم أن يشتروا الأراضي السورية العامة والخاصة، بعد أن أصبح كل شيء مباحاً حتى وإن خالف الدستور الذي يقول: إن الأراضي العامة لا تستثمر إلا لمصلحة عامة.
(الإعمار الحريري) السوري
اليوم، وبعد هذه التجربة العديد من كبار الأثرياء والمتنفذين السوريين، أن هذا النموذج، هو عنوان إعادة الإعمار القادمة، وبدأوا مبكراً في صياغة الأطر التشريعية والقانونية له، وصدرت المراسيم التي تتيح نقلة نوعية في الاستثمار العقاري، عبر شراكات عميقة بين جهاز الدولة وإداراته المحلية تحديداً، وبين المستثمرين العقاريين الكبار، ليستطيع هؤلاء أن يشكلوا شركات قابضة تتولى إدارة واستثمار الأملاك العقارية والاستثمارات العامة كلها، وسلموهم استثمار أراضي الدولة كلها، وقدراتها الاستملاكية.
فكان المثال الأبرز في تأسيس شركة دمشق الشام القابضة نهاية عام 2016، التي تتولى إدارة أملاك محافظة دمشق، وتحديداً في منطقة جنوب شرقي المزة أو بساتين الرازي، وصولاً إلى داريا والقدم. وتم إزاحة 6700 وحدة سكنية عشوائية ومالكيها، وأعطي هؤلاء أسهماً في ضاحية دمشق الجديدة الواعدة. وبعيداً عن الغبن الملحق بالمستملكة أراضيهم، وهي ليست المرة الأولى في سورية، فإن النقطة المميزة أيضاً في نموذج (التنظيم العقاري) الجديد، هي: تنظيم عملية تداول الأسهم، فالمالكون يستطيعون بيع أسهم، دون رسوم تذكر، وهو الأمر الذي سيلجأ إليه أغلب هؤلاء الذين أخذت منهم بيوتهم وبساتينهم، وداروا في دمشق وريفها يبحثون عن إيجارات. وتمركزت ملكيات المشروع لدى من يليق بهم الاستثمار والسكن في (مدينة ماروتا) وهو اسم المشروع، حيث الأبراج السكنية، وأكبر مول تجاري في المنطقة، وأبراج تجارية، وملاعب، ومسارح وغيرها... وبدأت الشركة القابضة المستثمرة تنشئ شركات، وتتعاقد مع أخرى، وتخصص ملكيات للواجهات من أثرياء سورية الجدد، وحتى الآن تضاعف سعر السهم الواحد في المنطقة خمس مرات خلال سنتين وقبل تبلور المشروع، ما يعطي الدلالات حول المضاعفات العقارية التي يمكن أن تحدث.
الرؤية الإعمارية للقائمين على المشروع، تشبه إلى حد التطابق (الحريرية) ونموذج الإعمار النيوليبرالي في لبنان، عندما أسست شركة سوليدير لتعمر وسط بيروت، بقرار وتكليف من مجلس الوزراء اللبناني، وتحول هذا المشروع المعزول المشوّه بتعدياته، وتأخيره، وفضائح فساده، إلى تكثيف لنموذج (إعمار لبنان). الذي بنى أبراجاً كبرى ملونة، ولكنه كان جزءاً من عقلية تحويل لبنان إلى واحة للمضاربة العقارية، وخزانٍ مالي لأموال المنطقة، مع حصص هامة للنخب اللبنانية... بينما لم يحصل لبنان بل وبيروت نفسها على منظومة كهرباء، أو مياه بعد قرابة عقدين على (الإعمار)!
نجاح الإعمار العقاري... فشلنا السوري
لكي ينجح نموذج الإعمار العقاري، يجب أن يفشل إعمار سورية... فالاستثمار العقاري، يقوم على المضاعفات المضاربية، أي: يجب أن تتوجه الاستثمارات، والجزء الأهم من الدخول إلى تداول العقارات التي تتضاعف أسعارها، جاذبة بدورها الاستثمارات إليها. ويجب أن يدفع الملايين من السوريين جزءاً هاماً من هذا الربح عبر ارتفاع أسعار العقارات، وأثره العام على التضخم وارتفاع مستوى الأسعار. وفي هذه الحالة، إن جزءاً هاماً من الاستثمار الضروري سيحجب عن الاستثمار الحقيقي، الضروري لزيادة الدخول، وترميم الخسارات السورية الاقتصادية والاجتماعية، وسينجح هؤلاء في مضاعفة ثرواتهم من الريع العقاري، بينما يتعمق التشوه في توزيع الثروة بين القطاعات الاقتصادية، وبين الفقراء والأغنياء.
إن إجهاض الأحلام العقارية لهؤلاء، مهمة وطنية لأي نموذج إعمار تنموي في المرحلة القادمة، ولهذا طرق كثيرة أهمها: تحويل أصحاب الحقوق بالتعويضات أي أكثر من 13 مليون سوري، إلى قوة مطلبية سياسية تدفع نحو الخيارات الاقتصادية السياسية الضرورية مثل: الملكية العامة الفعلية لأراضي الدولة، وتخفيض أسعار الأراضي، باتجاه تصفيرها. بالإضافة إلى تحويل القطاع الإنشائي إلى ورشة عمل وطنية، قائمة على إعمار المجتمعات المحلية لمناطقها، وبتكاليف مخفضة قوامها تحويل حق السوريين بالتعويضات والمساعدات إلى مواد بناء، كأن تكون تعويضات السوريين من تركيا على سبيل المثال على شكل حديد، وأن تكون المساعدات الصينية على سبيل المثال لا الحصر على شكل عقود إنشاء بأحدث وأسرع الطرق، أو تكنولوجية لمواد بناء جديدة، أو تمويل واسع لشركات الإنشاءات العامة.
ورغم أن هذا يبدو صعباً في المرحلة الحالية، حيث تتوسع الاستثمارات العقارية، ويفرض هؤلاء_ بسطوتهم على جهاز الدولة_ عقوداً وأنماطاً استثمارية، ويديرون الأملاك العامة، ويراكمون حقوق ملكية، وتجري حملات شراء واسعة بأبخس الأثمان، لملكية العقارات والأراضي في المناطق المدمرة، للتخلص من عبء حقوق الملايين من السوريين بالتعويضات. ولكن ما يبدو صعباً حالياً، سيتحول إلى صعوبة مستقبلية على هؤلاء أنفسهم. حيث ستتواجه أرباحهم مع الضرورات السورية الملحة القادمة كلها، ومع كل من له حق، وكل من لديه مشروع إعمار وطني، بل ومع كل القوى الدولية التي تريد لإعادة الإعمار أن ترسخ الاستقرار في سورية. فالجميع من قوى دولية وإقليمية ومحلية معنية باستقرار سورية، يدركون بأن النمط المضاربي الجائر، ينجم عنه احتمالات اضطرابات وفوضى بعتبة أعلى مما شهدته سنوات الأزمة السورية، وستكون مواجهة هؤلاء النخبة المضاربة مع كل اتجاه السير إلى الأمام، وهو اتجاه عاصف في لحظة التغيرات الدولية والسياسية الحالية، والقادمة، سيؤدي حكماً إلى عزل هؤلاء في مدنهم الخيالية.
*ماروتية نسبة إلى تسمية مشروع تنظيم جنوب شرقي المزة (بمدينة ماروتا).