أزمة الكهرباء تشلُّ شرايين الاقتصاد الوطني.. وتدمّر ما تبقى من مناعته! تلاعب مقصود لوزارة الكهرباء بالتقنين وبتوزيع ساعاته وأمكنته.. وللادعاءات أكثر من شاهد!

في الواقع كل الدول تقوم بتطوير وتحديث قطاع الكهرباء والطاقة بشكل مستمر، وبما يتماشى مع النمو السكاني والصناعي لديها، ويأخذون بعين الاعتبار زيادة الطلب المستقبلية على الكهرباء والطاقة ، ويكون لديهم ما يسمى بالاحتياطي، فإذا ما انهارت عنفة ما أو محطة ما لسبب أو لأخر يكون لديها القدرة على تدارك الوضع عندها، إلا أنه وفي سورية، وبعد أن كان لدينا فائض بنحو 1300  ميغا واط دوار في عام 2000، فإنه جرى استنزافه، لنصل بعد بضع سنوات إلى عجز معاكس يقارب الـ 1000  ميغا واط، دون السعي إلى تدارك هذه الحالة من النقص، أو اللجوء إلى ضخ الاستثمارات الحكومية بالقطاع الكهربائي لعدم تحول النقص الآني إلى أزمة بنيوية في جسم القطاع الكهربائي، وما جرى هو إهمال هذا القطاع، وإبقاؤه على حالة التردي المستمر التي يعانيها، وهذا ما افرز أزمة صيف عام 2006، وأزمة الكهرباء التي تلتها في عام 2007، وهذه هي إحدى أهم الاسباب التراكمية لحدوث الازمة التي يعانيها القطاع الكهربائي اليوم

 للتقنين ألف حكاية وحكاية
للتقنين الكهربائي ألف حكاية وحكاية، فبين من يختزلها بالشمعة و«القنديل»، والذي يمثل التأثير المباشر والأولي لهذا التقنين على المواطن السوري، وبين آخر يوسع دائرة بيكاره ليعطي لهذه الازمة جميع منعكساتها السلبية على كل مكونات الاقتصاد الوطني،  ليصل بخاتمة حديثه وتحليله إلى استنتاج مفاده، أن هذا الانقطاع الكهربائي الذي يصل إلى 15 ساعة في بعض المحافظات، والمناطق، والأحياء، ما هو إلا مقدمة لشل قادم على الاقتصاد الوطني، لغياب الطاقة الكهربائية، والتي تشكل العمود الفقري لأي اقتصاد في العالم، وفي هذين التفسيرين تكامل لا تناقض فيهما، فانقطاع الكهرباء سيوقف عمل الطبيب، والحداد، و«الكومجي»، والمعامل الصغيرة، وأصحاب الورشات الصناعية والحرفية أيضاً، وحتى أن بعض أعمال البناء ستتوقف أيضاً، أليس هذا شلُّ لشرايين الاقتصاد الوطني؟! ألن يدمر هذا التقنين ما تبقى من قوة ومناعة لهذا الاقتصاد في ظل ظروف الحصار والعقوبات الاقتصادية التي يعانيها؟! والذي سينعكس بكل الأحوال تردياً للواقع المعيشي المتراجع أساساً بالنسبة للسوريين في المحصلة!..

«خيار وفقوس» مجدداً
من حق البعض أن يسعى لإيجاد ما يشاء من تبريرات –حتى وإن كانت غير محقة- للحكومة في عجزها الحالي عن ردم الفجوة الكهربائية بين الحاجة والانتاج، ونذكر هؤلاء بأنه نتاج ما اقترفت يداها، ويدي أسلافها من الحكومات السابقة بحق القطاع الكهربائي، ولكن هل يمكن لأحد أن يبرر لنا قاعدة «الخيار والفقوس» التي تمارسها الحكومة، ووزارة الكهرباء بالتحديد بحق السوريين في عملية قطع الكهرباء الجارية بين المحافظات والمناطق السورية؟! وهم من أنصفهم وساواهم الدستور الحالي في الحقوق والواجبات؟!.
فجميع محطات الكهرباء تضخ على خط 230، والتقنين يأتي من الوزارة حصراً، وليس من المحافظات كلاً على حده، أي أن هناك مركزاً اساسياً للكهرباء، وهو من يضخ بدوره إلى جميع المحافظات، وهو من يقنن عنها أيضاً، وهو ما يسقط أغلب مبررات التباين في التقنين بين المحافظات والمناطق السورية، فبينما تقطع الكهرباء في محافظة طرطوس، وبعض المحافظات والمدن الاخرى لمدة 15 ساعة يومياً، فإننا نجد أن بعض أحياء حمص، وحماة، ودمشق، ودرعا، لا تقطع عنها الكهرباء نهائياً، أو تقطع لساعة أو ساعتين يومياً لا أكثر، وهذا يعني أن القضية لا تتعلق بتخريب محطة هنا، وتفجير خط للنفط هناك، لأن هناك مركزاً واحداً هو ضخ الكهرباء إلى كامل المحافظات السورية، وهذا ما اكدته وتؤكده جهات مسؤولة في وزارة الكهرباء أيضاً!..

دليل دامغ
قولنا إن وزارة الكهرباء تتلاعب بالتقنين الكهربائي بين المحافظات على مزاجها ليس بالادعاء، بل إن لدينا على ما نقول أكثر من دليل، حيث شكّل الشكر الذي أطلقته مذيعة قناة الدينا هناء الصالح لوزير الكهرباء عماد خميس ، وذلك لاستجابته لطلب قدمته القناة، طالبة عدم قطع التيار الكهربائي أثناء إحدى الحلقات عن كل الاراضي السورية، وخاصة القرى لمدة ساعتين نظراً لأهمية الحلقة، والتي يجب أن يطلع عليها كافة السوريين دليلاً دامغاً على ما نقول..
بالفعل الكهرباء لم تنقطع خلال بث تلك الحلقة التلفزيونية عن جميع المحافظات السورية، ووزارة الكهرباء، كانت قادرة فعلاً على إمداد جميع المناطق السورية بالكهرباء لمدة ساعتين طوال مدة بث البرنامج المطلوب، وهذا يعني بأن الوزارة تستطيع إذاً إمداد المناطق السورية بالكهرباء، وعدم قطعها ولمدة أربع وعشرين ساعة، أي أن ادعاء خروج عنفات من الخدمة باتت باطلة، وكذلك سقطت حجة الأعطال ودورها في قطع الكهرباء لساعات طويلة، بدليل عدم قطع التيار الكهربائي عن كامل سورية لمدة ساعتين، ومن يقدر على إمداد المحافظات السورية كافة بالطاقة الكهربائية لمدة ساعتين، فإنه قادر على إمدادها بالتيار الكهربائي لمدة أربع وعشرين ساعة  طبعاً..

تقنين كهربائي مقصود!
وبالانتقال إلى حجة عدم توفر الوقود اللازم لتوليد الطاقة، لأن الإرهابيين يفجرون خطوط إمداد  الغاز وسكة الحديد (القطارات)، وهذه ليست بالحجة المقنعة، لأنه، وإذا سلمنا بحصول تفجير لخط تغذية بالغاز، فإن إصلاحه لن يستغرق أكثر من أربع وعشرين ساعة، وليس أشهراً، وكذلك حال الاعتداء على سكة القطار، فيجب على الدولة أن تكون قادرة على حماية خطوط التغذية لمحطاتها الحرارية، وإلا فإنها تعتبر دولة عاجزة، فكيف إذا كانت دولة مواجهة إذاً؟! وهذا يؤكد على أن التقنين الكهربائي الحاصل حالياً مقصود، والسؤال الذي يطرح نفسه، ما الهدف من لجوء وزارة الكهرباء إلى التقنين المقصود؟! وهل للتوجه وللتمهيد لخصخصة هذا القطاع دور في ذلك؟! وكم عدد صفقات المولدات الكهربائية التي استوردتها سورية في الأشهر القليلة الماضية؟! ومن الذي استفاد منها؟! وكم عددهم؟! خصوصاً بعد ارتفاع أسعار تلك المولدات -التي كانت تصنف بالمنزلية- بنحو %200  في السوق المحلية..

مسرحية هزلية تنتهي بالخصخصة
يستطيع المتابع لتصريحات الوزراء الثلاثة الذين تعاقبوا على وزارة الكهرباء (من العلي مروراً بكيالي، وصولاً إلى عماد خميس)، أن يستشف بأنهم يتجهون بالقطاع الكهربائي نحو الخصخصة، والذين يمثلون بسياساتهم تجاه القطاع الكهربائي صدى ما سعت إلى تنفيذه حكومة العطري ونائبه الاقتصادي، وهو جزء من سياساتهم الساعية لخصخصة أغلب القطاعات الاقتصادية في البلاد، وإدخال الخاص إلى قطاعاته الحيوية، واستثمار البلاد بما يخدم جيوبهم، وهم من اتقنوا فن استثمار البلد لمصلحتهم بدلا من الاستثمار فيه، وتكرس هذا بقرار الحكومة مؤخراً، ومنذ أسبوعين تقريباً بالسماح للقطاع الخاص الدخول للاستثمار في مجال توليد وإيصال الطاقة الكهربائية، وكأن هذه المسرحية أتى وقت اكتمال فصولها الآن..
يتحدث المعنيون في هذا القطاع عن سعيهم لتوليد الكهرباء من الريح أو الشمس أو الطاقة الحيوية، وهذا الأمر غير صحيح، وغير ممكن، وغير علمي في سورية، وفي المقابل، يضعون الدراسات الساعية لتطوير المحطات الكهربائية التي نملكها حبيسة الأدراج، ويفضلون بقاءها خارج الخدمة، ويبقون مشاريع إنشاء محطات جديدة  ضرورية نحن بأمس الحاجة إليها على الرفوف، لتلقى بعدها في الأدراج المقفلة، دون سعي جدي من جانب هذه الجهات لتطوير القطاع الكهربائي تاريخياً، وهذا خير دليل على التوجه المقصود لديهم للذهاب بهذا القطاع الحيوي نحو الخصخصة، فدخول القطاع الخاص لن يحل المشكلة الحالية للقطاع الكهربائي، والمتمثل «بالتقنين المخيف» على المدى القصير، ولكن من حقنا التساؤل: ألم نتعلم بعد من التجربة الفاشلة لإدخال القطاع الخاص إلى محطة حاويات طرطوس واللاذقية؟! وكذلك هو حال معمل أسمنت طرطوس بعد دخول القطاع الخاص إليها!..

تهديد للأمن الوطني
إن أمان القطاع الكهربائي هو جزء من الأمن الوطني، ووضعه بين يدي القطاع الخاص وسيطرته في أحسن الأحوال على جزء من عملية الإنتاج والتوزيع الكهربائي يمثل تهديداً لهذا الأمن، وذلك لأن المستثمرين لا يعنيهم إيصال الكهرباء إلى الناس بالأسعار التي تناسبهم، بل إن همهم الوحيد هو الربح ولا يأبهون بالناس والوطن والأمن الوطني، ولنا في ذلك عبرة من التجربة الروسية، حيث فشل القطاع الخاص في مجال الإنتاج الكهربائي، لتترك تلك التجربة أثاراً كارثية من الناحية الاجتماعية والاستراتيجية على روسيا والشعب الروسي، ولم تحقق في المحصلة سوى أرباح كبرى لبعض الرأسماليين الجدد الناشئين حينها على انقاض الاتحاد السوفييتي..


حلول عاجلة
بالطبع نحن من الرافضين لدخول القطاع الخاص إلى القطاع الكهربائي، وهذا ليس انطلاقاً من موقف إيديولوجي، وإنما من تبعات دخول كهذا على المطالبة برفع التعرفة الكهربائية مستقبلاً، وعلى المواطن السوري، بمعنى أخر، تأثير كل ذلك على البعد الاجتماعي الذي يجب مراعاته من جانب الحكومة،  والبدائل لحل أزمة هذا القطاع عوضاً عن دخول القطاع الخاص، ليست بالقليلة، والتي يمكن تصنيفها بالحلول السريعة، حيث يجب معالجة الفاقد الكهربائي أولاً ، وإصلاح العنفات التي خرجت من الخدمة لسبب أو لأخر بأسرع وقت ممكن، ومن ثم الاتجاه السريع والفوري شرقاً لإنشاء محطات جديدة،  والتي تمتلك من المحطات الكهربائية ما يضاهي الأوروبي ويجب الأخذ بعين الاعتبار أن يكون دائماً هناك احتياط كهربائي.

صفقات شراء المناصب
هذا الإهمال للقطاع الكهربائي لا يمكن فصله بالتأكيد عن الجهات التنفيذية القائمة على القطاع الكهربائي عبر السنوات الطويلة الماضية، وهذا يطرح إشكالية الوزراء الذين تتالوا على موقع الوزير في هذه الوزارة الاستراتيجية، من العلي مروراً بكيالي، وصولاً إلى عماد خميس، وهؤلاء الوزراء الثلاثة ليسوا هم وحدهم المساهمين في الوصول بالقطاع الكهربائي إلى هذه الحالة، وهذا يطرح مجدداً التساؤل عن المحسوبية، ودورها في تعيين البعض في مواقع حساسة يتوقف عليها مصير ملايين السوريين، بعيداً عن المؤهل العلمي والأخلاقي للمنصب، وقدوم الشخص بالمحسوبية ، سيعني عمله الحثيث لإرضاء كل ما يأمره به من جلبه إلى هذا الموقع أو المنصب، وهل بتنا نشهد بصفقات شراء المناصب بعدة ملايين، ليخرج صاحبها بالمليارات، وبالتأكيد هذه المليارات التي يخرج بها تكون قد دمرت في البلد أضعاف أضعافها..

مشاهد أخرى من الأزمة
والجانب الآخر في الأزمة، هو الفاقد الكهربائي بشقيه الفني والتجاري، حيث يقال إنه يصل إلى 40 % والرقم الحقيقي أكبر من هذا، وإذا ما افترضنا أن الفاقد الكهربائي هو %40، فهذا بحد ذاته مخيف، فهل وصول الفاقد الكهربائي إلى %40 بالرقم القليل؟! بينما لا يتجاوز الفاقد العالمي المسموح به حدود %10.
وهناك نوع أخطر، وهو التآمر ما بين قارئ العداد والمشترك، بحيث يدفع  المشترك لهذا الأخر 500 ل. س كل شهرين، مقابل أن يعيد له الساعة إلى الوراء، ليكون استهلاكه في الدورة 100 وبالكثير 200 ليرة، بينما يكون قد تجاوز مصروفه عشرات الآف الليرات فعلياً، والأخطر من ذلك هو حديثو النعمة، والذين يملكون القصور المستهلكة للكهرباء بشكل كبير، ولا يدفعون فواتيرهم، وبعض أصحاب المصانع الكبيرة كذلك الأمر.. وفي هذه الحالة، من حقنا التساؤل: إذا لم يجرِ تطوير محطات توليد الطاقة تاريخياً بما ينسجم مع تزايد الاستهلاك! وإذا لم يعالج الفاقد الكهربائي الكبير الذي نعانيه! فكيف لا نتوقع أمام هذا المشهد أن لا تحدث الأزمات؟!.


وعود كاذبة
كشف وزير الكهرباء عماد خميس في وقت سابق عن مشروع لإنشاء محطتين تحويل نظام حديث بتكلفة 600-700 مليون ليرة في اللاذقية، بالإضافة إلى مشاريع تعادل 300-400 ميغا في مجال الرياح، وبحدود 800 ميغا في مجال الطاقة الشمسية بتمويل من الحكومة، لافتاً إلى تشكيل لجنة مهمتها القيام بدراسات واسعة لتسيير الآليات والسيارات بالطاقة الشمسية، وبالتعاون مع جهات أخرى، والسؤال: ماذا حققت هذه اللجنة المشكلة لتسيير الآليات على الطاقة الشمسية حتى الآن؟! وكم عدد السيارات العاملة على الطاقة الشمسية التي تسير في شوارع سورية؟! وماذا حل بالمشاريع في مجال الطاقة الريحية التي سوف تعطي 400 ميغا واط ؟! وأين أصبحت مشاريع الطاقة الشمسية التي تحدث عنها الوزير؟! فلو كان إنتاج سورية من الطاقة الشمسية الريحية  1200 ميغا واط حالياً، هل كنا لنشهد هكذا أزمة في القطاع الكهربائي؟ كما أن الاستثمار بالطاقة المتجددة (البديلة) على المستوى الكبير والمركزي هو كذبة كبيرة، ولكن استخدام الطاقات المتجددة على المستوى الفردي، هو حل ضروري، ولكن لا يحل المشكلة البنيوية والهيكلية التي يعاني منها القطاع الكهربائي في سورية اليوم طبعاً..
عندئذ يصبح لدينا كهرباء كافية لكل سورية مع احتياطي ويجب وجوده باستمرار كي لا تعاد الكرّة, وعندها يمكننا التوجه لتطوير الطاقة البديلة والمتجددة في بلدنا وكل ما نطوره في هذا المجال مهما كانت نسبته يكون خيراً ويزيد معدل الاحتياطي لدينا ويوفر في الطاقة والتلوث, في الطاقة البديلة يمكن التوجه فقط للغاز البيولوجي (الحيوي) المصنع من مياه الصرف الصحي والمخلفات العضوية والنباتية ونشير هنا إلى الكم الهائل من مخلفات القطن لدينا في سورية, بتصنيع هذا الغاز من مياه الصرف الصحي ينتج غاز نولد منه الكهرباء ونحصل على سماد عضوي وماء صاف لسقاية المزروعات, أما الطاقة الريحية والطاقة الشمسية، فيمكن الاعتماد عليهما لتوليد الحرارة (برودة وسخونة) وبشكل فردي وعلى مستوى شعبي واسع ومدعوم من الدولة وهذا وفر بالكهرباء لا يستهان به.
ولتحقيق هذا يكفي أن يكون لدينا بحث علمي حقيقي وإرادة حقيقية بالرقي بالمستوى العلمي لسورية, وأن يكون لدينا في موقع القرار رجال همهم الوطن، وأتوا كونهم هم المؤهلين وليس بالمحسوبية أو بالمال.                                   

معلومات إضافية

العدد رقم:
543