ضبط المحتكرين خارج صلاحيات الحكومة.. وهذا يبقي القضية بعهدة قرار سياسي منتظر
لكي لا «يتلطى» أحد من المسؤولين في الإدارة الاقتصادية خلف الأزمة الحالية وتبعاتها الاقتصادية لتبرير الارتفاعات الحاصلة في الاسعار، ولكي لا يختبئ أحد من هؤلاء ذاتهم، خلف ارتفاع أسعار العملات الاجنبية أمام الليرة السورية، لتحميله كل ما تشهده الاسواق من ارتفاعات وتخبططات، فإن لا بد من تذكيرهم بان الارتفاع غير المبرر للأسعار في الاسواق السورية ليس وليد اليوم،
وإنما هو أم المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد الوطني، والذي ُجرد من كل أسلحته وأذرعه التدخلية، عبر قرارات الانفتاح الاقتصادي المطبقة في البلاد خلال السنوات العشر الماضية، وهذا يؤكد بكل وضوح - على المستوى التاريخي-عدم ارتباط ما تعانيه الاسواق الآن من ارتفاعات بالأسعار بأي من المبررات التي تسعى الاوساط الحكومية المعنية لإطلاقها من باب إنزال المسؤولية عن أكتافها، لذلك فلنبحث عن الاسباب التاريخية التي تقف في وجه ضبط الاسواق ومراقبتها..
«تقاذف للمسؤولية»
ليست السلع هي وحدها التي تعاني من أزمة مزمنة، تتمثل في ارتفاعها، وإنما يبدو أن الجهات المعنية بضبط الاسواق والاسعار، هي من تعاني من أزمة أيضاً، ولحظُ ذلك ليس بالصعب طبعاً، فجميعهم يبررون عجزهم وتقاعسهم عن اداء مهامهم بإلقاء المسؤولية بكاملها على جهات أخرى هي شريكتهم في ضبط الاسواق، فخلال أقل من شهر، انطلقت سلسلة من التصريحات، واستعراضها قد يوضح جزء من صورة الازمة التي تعانيها تلك الجهات، ففي المرة الأولى، تحمّل وزارة الاقتصاد الشائعات وجشع التجار مسؤولية ارتفاع الأسعار، لتعود بعدها بيومين، لتعترف بلسانها، بعدم كفاءة سياسة مكافحة الاحتكار، وتواطؤ التجار، وأجهزة الجمارك في ارتفاع الاسعار، وذلك قبل أن تحمّل ارتفاع أسعار السلع لصعود سعر القطع الأجنبي، فإذا تكلمنا عن جشع التجار، فمسؤولية معاقبتهم وإجبارهم تقع على وزارة الاقتصاد، والتي هي جزء من حكومة، يفترض بها أن تكون الاقدر على ضبط هؤلاء المحتكرين ومعاقبتهم، وهي من تمتلك الأدوات الكفيلة لأداء تلك المهام، إلا أنها قررت الاكتفاء بتشخيص المشكلة، ودراستها، وكأنها ليست معنية بالمراقبة أو بالمكافحة..
هيئة المنافسة تطمر رأسها بالرمل!
ولهيئة المنافسة ومنع الاحتكار السورية حكاية أخرى، حيث يصرُّ مديرها العام أنور علي على نفي وجود احتكار مطلق للأسعار في الأسواق، ولا ينسى التنويه إلى دور أسعار الصرف كمسبب أخر لارتفاع الاسعار، فهو وهيئته لا يختلف عن النعامة التي تطمر رأسها بالرمل لكي لا ترى ما حولها، فكيف لن يكون هناك احتكار، وقانون المنافسة ومنع الاحتكار يشرعن الاحتكار ويقوننه، وبمقدور اربع تجار فقط السيطرة على سوق أي سلعة كانت؟! ألا يوفر هذا البنية التشريعية لنمو عملاقة الاحتكار؟! لا بل إن الممارسة تؤكد عمليات الاحتكار، فكيف تفقد سلعة بسعرها الطبيعي بين يوم وآخر، لتعود إلى الاسواق فجأة بعد ارتفاع أسعاها بنسبة 25% مثلاً؟! ألا يعني هذا أن عملية انسياب هذه السلعة التي ارتفع سعرها في السوق هو بيد مجموعة من هؤلاء المحتكرين؟! الذين يحجبونها عن الاسواق بهدف رفع أسعارها ليس إلا؟!
جمعية للمستهلكين يرأسها تاجر!
أما رئيس جمعية حماية المستهلك، فقد قرر أن يحمّل وزير الاقتصاد وحاكم مصرف سورية المركزي مسؤولية ارتفاع الأسعار، وكأن دوريات حماية المستهلك التابعة له، قد قامت بدورها على أكمل وجه، حتى يوجه اتهاماته إلى الجهات الاخرى، تحت حجة أن جمعيته ليست صاحبة قرار في هذا الشأن، فهي مجرد بريستيج قررت بعض الجهات التنفيذية في الماضي على استحداثه، لكي لا يعيّرنا أحد بغياب «الوجود الضروري» لتلك الجمعيات، والتي باتت موضة في الاقتصادات الحديثة، دون النظر إلى فاعليتها وجدواها، وهنا لا بد من أن نتساءل: إذا لم يكن لهذه الجمعية الاقتصادية أي دور في ضبط الاسواق فما هو مبرر وجودها بالأساس؟! وهل يمكن أن ننتظر من تاجر على رأس هذه الجمعية أن يكافح ارتفاع الاسعار؟! أوأن يقف بوجه نظرائه من التجار المحتكرين!. وهو الذي يجاهد لتبرئتهم، ووضع قضية ارتفاع الاسعار في ذمم جهات أخرى!..
المشهد الدائم
أمام مشهد العجز والتخبط الحكومي الواضح للعيان، كشفت أحدث دراسات المكتب المركزي للإحصاء، عن ارتفاع مؤشر الأسعار في شهر كانون الثاني من هذا العام بالمقارنة مع عام 2005 حتى الآن 72%، وهذا يعني أن التضخم على أساس سنوي كان بحدود 10% في السنوات السبع السابقة، وفي هذه الارقام ما هو مجافٍ للحقيقة، لأن الأسعار في الاسواق، قد ارتفعت بهذه النسبة في الاشهر الثلاث الماضية فقط، وإذا كنا متفائلين يمكننا القول، إن هذه النسبة من الارتفاع، قد طالت الاسعار منذ عام حتى الآن، وهذا ما ساهم في ضرب القدرة الشرائية للمواطن السوري، وخاصة ذوي الدخل المحدود..
من يحمي المواطن من الاحتكار؟!
الحكومة ومؤسساتها التدخلية رفعت يدها، معلنة العجز عن تحقيق استقرار الاسعار، ولكن وأمام هذا الحالة الحكومية المريضة: فمن يحمي المواطن من الاحتكار وجشع التجار؟! فغياب أي دور للحكومة في ضبط الأسعار هو وضع غير مقبول بالتأكيد، والحكومة ألقت كامل أدواتها عبر إجراءات الانفتاح الاقتصادي، والتوجه نحو اقتصاد السوق، والذي «زادالطين بلة» هو قانون لمنع الاحتكار شرعنها كحالة طبيعية، للحكومة أدواتها المالية والاقتصادية التي تمكنها من السيطرة على الأسواق ومفاصل الاقتصاد، فعودة التسعير الإداري قد يكون احد تلك الخيارات، خصوصاً وأن معظم الدول العربية أعادت نظام التسعير لديها بعدأزمةعام 2008، لأن السعي لخلق بيئة تنافسية، قادرة على ضبط الاسعار تلقائياً، كما توهمنا الحكومة، سيحتاج إلى وقت طويل، هذا إن حصل فعلاً!..
فساد سوق الهال
التجار هم من يتحكمون بالأسعار، وهؤلاء هم من يمارسون الاحتكار بحق ملايين السورين، وتعتبر أسواق الهال في مختلف المحافظات، نقاط ارتكاز للاحتكار طبعاً، فأرباحهم تصل تتراوح بين 50 – 100% على السلعة بمجرد أن يضعها المنتجون عندهم لبيعها، فهو وكما يقول المثل «بياكلو البيضة والتقشيرة»، فالمنتجون يشتكون دائماً من انخفاض أسعار سلعهم الغذائية والزراعية عند بيعها، وفي المقابل، نجد هذا الفلاح ذاته من ارتفاع أسعار تلك السلع عند تحوله إلى مستهلك، أي أن الحلقة الوسيطة والمتمثلة بأسواق الهال، وتجار الجملة، هم من يعظّمون اسعارهم على حساب المنتج والمستهلك معاً..
فالألية التي تسير فيها أسواق الهال في السابق والآن، تشكل مخالفة لجميع الأعراف التجارية والإنسانية والتي تمارس فيها أكبر عمليات الاستغلال بحق المنتجين والمستهلكين على حد سواء، والحكومة تكتفي بتبادل تهم الارتفاع مع جهات حكومية اخرى..
فلا نكون ظالمين، إن قلنا أن موجات الغلاء المتلاحقة التي تشهدها أسواقنا تنطلق كالعاصفة من أسواق الهال في المحافظات كافة، لتكون مركز عاصفة ارتفاع الاسعار في الاسواق السورية، فالقانون، والربح المعقول يكاد يكون منسياً في تلك الأسواق البعيدة عن الرقابة الحكومية...
لا يوجد سلطة لمواجهة الاحتكار
إذا التصريحات تبرهن عن عجز حكومي في الظاهر عن ضبط الاسعار، فهل في هذا ما هو حقيقي فعلاً؟! أم أن القضية تحتاج إلى قرار لا ينوي البعض اتخاذه لأنهم شركاء في ذلك الاحتكار؟! فأن تبدي حكومة عجزها عن ضبط أسواقها، وحماية مواطنيها من شجع التجار والاحتكار، فهذا ما يناقض الدستور الجديد الذي تحدث عن حماية المواطن اقتصاداً، ومكافحة الاحتكار، وتأمين المستوى المعيشي المناسب، والذي تشكل فيه حلقة ارتفاع الاسعار أهمها، لما لها من تأثير على إضعاف القدرة الشرائية للسوريين، وهي أضعفتها فعلاً، فيجب عل وزارة الاقتصاد أن تمارس دورها الرقابي، ليس بمفردها، بل كجزء من حكومة يفترض بها أن تمتلك الادوات والصلاحيات القادرة على ضبط الاسواق عبر إمكانية معاقبة التجار، أما مشهد عجزها اليوم، فهو مرتبط بقضيتين، إما بضعف أدواتها الحالية، غير القادرة على ضبط الاسعار، وهذا يلزمها بالبحث عن أدوات فاعلة لذلك، ولكن الادوات متاحة بالتأكيد، أو أن قرار القضاء على الاحتكار والمحتكرين ليس من صلاحياتها، وهو بيد جهات اخرى، وإنه يحتاج لقرار سياسي، لوقوف هؤلاء المحتكرين خارج سلطة أي قانون، وتكوينهم سلطة مستقلة فوق الدولة كما يبدو.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 544