خصخصة علنية لقطاع الصحة والمواطن يفقد آخر قطرة دعم

خلال حديثه عن قضية الدعم العام في سورية كان نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية عبدلله الدردري يعتبر أن الإنفاق على الصحة هي جز من ذلك الدعم، بل وأنه جزء مهم ويكلف خزينة الدولة ملايين الليرات سنوياً، لكن ربما أن دعم المواطن صحياً لم يعد يروق للدولة ولسياساتها الليبرالية الجديدة، فكان لا بد من اكتشاف طرق تمهيدية لإلغائه نهائياً، ولا يهم إن كان المواطن سوف يتأثر بهذا الإلغاء أم لا، المهم أن تبقى خزينة الدولة ممتلئة،

هي دعوة مبطنة لخصخصة قطاع الصحة دون أن تسميها الحكومة بذلك صراحة، تخترع لها تسميات مختلفة، من أجل تمرير الفكرة رويداً رويداً، لكن الواقع، وما تخطط له الحكومة وتحديداً  من خلال الخطة الخمسية العاشرة، تبرز بوضوح إلى أين بدأ قطاع الصحة يتجه في سورية، إنه ببساطة يتجه نحو الخصخصة اعترف المسؤولين بذلك أم لم يعترفوا.
المجتهد والأسد الجامعي مشافي خاصة
من يزور مشفى المجتهد يدرك أنه لم يعد هناك شيء اسمه" مجانية الطب"، وأن مجانية أيام زمان قد ولت، لتحل محلها القيمة المأجورة لأي إجراء، أو فحص طبي مهما كان صغيراً، وتحديداً في العيادات الخارجية من المشفى، وإليكم أولاً بعض أسعار المشفى الانتقائية، وفي بعض أقسامه ( 100 ليرة لقاء الدخول إلى العيادات الخارجية، 300 ليرة لقاء تحليل دم عام وعادي، 750 ليرة لقاء أخذ خزعة، 450 ليرة لقاء تحليل الخزعة،600  ليرة تصوير إيكو غراف، 700 ليرة تخطيط قلب،900 ليرة أجرة يوم في العناية المركزة ،100 ليرة أجرة معاينة،  65  ليرة ثمن بطاقة دخول ، ...إلخ ) وكون المشفى، وباعتراف صريح من محاسبي صناديق أقسامه يتقاضى نصف تسعيرة السوق لأي إجراء طبي، فهذا يعني أنه مشفى نصف خاص من الناحية المالية، ولكن خدماته الطبية أردأ من أن تقارن بأي مشفى خاص، يتقاضى كامل القيمة من مرضاه.
يتضافر مع مشفى المجتهد مشفى الأسد الجامعي أيضاً، فحتى القسم العام في مشفى الأسد تحول إلى قسم خاص بامتياز، وأصبحت كل الخدمات الطبية فيه خدمات مأجورة بنسبة محددة، مهما كانت صغيرة، وحتى لو كانت مجرد لاصق طبي، ( كلفة عملية شرايين القلب 70 ألف ليرة لوحدها، دون كلف الفحوصات الطبية الباقية للمريض، ودون كلف التحاليل اللاحقة للعملية أيضاً )، وتحولت بعض الخدمات الأخرى إلى خدمات مأجورة بشكل كامل كما هو حالها في القطاع الخاص، كالصور الشعاعية مثلاً، التي يدفع المريض كامل كلفتها.

وعود حكومية ...لصالح من
إن الذي يحدث في تلك المشافي يتوافق تماماً مع طريقة تفكير الحكومة السورية تجاه قطاع الصحة، تلك الرؤية التي تقول بأنه سيتم تدريجياً تحويل المؤسسات الصحية التابعة للدولة كافة بغض النظر عن حجمها إلى هيئات مستقلة إدارياً ومالياً عن الدولة بينما ستحتفظ الدولة بدور الرقابة على هذه المؤسسات ( منطق اقتصاد سوق وليبرالية ). وستخضع هذه المؤسسات لنفس معايير الجودة ونظم الإعتمادية والأطر التعاقدية التي تنطبق على مؤسسات القطاع الخاص ( وهذا غير مضمون أبداً ). كما ستكون إدارة الخدمات بجوانبها كافة مسؤولية هذه المؤسسات التي ستجني مزايا حسن إدارتها وتتحمل عواقب سوء إدارتها. وسيتم في هذا الإطار تطوير التشريعات والقوانين وتوفير الدعم الفني والتقني اللازم لعملية التحويل والذي يضمن نجاح هذه المؤسسات بعد التحول.
وتعد الحكومة أيضاً بأنه سيتم إنشاء شبكات أمان لتأمين الخدمات الصحية غير المدرجة في حقيبة الخدمات الصحية الأساسية للفقراء والمعوزين وذوي القدرة المحدودة على الدفع. وسيتم في هذا الصدد تطوير معايير وآليات لتحديد هذه الشرائح تضمن وصول الدعم إلى مستحقيه من الفقراء. كما سيتم تطوير شراكات فاعلة مع المجتمع الأهلي للمساهمة في تمويل وإدارة هذه الشبكات مع الدولة. كما سيتم تطوير آليات للتمويل تضمن الكفاءة الإقتصادية وتحافظ على كرامة الفقراء وتحد من التمييز ضدهم عند حصولهم على الخدمات الصحية.
كما سيتم إدخال نظام الدفع مقابل الخدمة في جميع مؤسسات الخدمات الصحية لتغطية كلفة الخدمات الصحية غير المدرجة في حقيبة الخدمات الأساسية لذوي القدرة على الدفع. الجدير بالذكر أن تمويل هذه الخدمات للفقراء وذوي القدرة المحدودة على الدفع سيتم من خلال شبكات الحماية والأمان السابق ذكرها. وسيتم إيجاد آلية وطنية لتحدي أسعار هذه الخدمات بشكل حقيقي يوازن بين الكلفة الحقيقية للخدمات وحاجة مقدمي الخدمات لتحقيق ربحية من جانب وبين جودة هذه الخدمات وحق المواطن في الحصول عليها بأسعار معقولة من جانب آخر. كما سيتم تطوير آليات فاعلة للرقابة على التزام مقدمي الخدمات بهذه التسعيرة وكذلك آلية دورية لمراجعتها.
وسيتم العمل في المديين المتوسط والبعيد على استبدال نظم الدفع مقابل الخدمة السابق ذكرها بنظم تأمين صحي قائمة أساساً على القطاع الخاص. وستكون ملامح نظام التمويل الصحي في المستقبل قائمة على ثلاث قواعد تمويلية: الصندوق الوطني لتمويل الخدمات الصحية لتمول حقيبة الخدمات الأساسية لجميع المواطنين، شبكات الحماية والأمان الصحية بالتشارك مع القطاع الأهلي لتمويل الخدمات الصحية غير الأساسية للفقراء وذوى القدرة المحدودة على الدفع، شركات ومؤسسات تأمين صحي خاصة لتمويل الخدمات الصحية غير الأساسية لغير الفقراء. وتقوم هذه الشركات على أسس تعاقدية مع المواطن في ظل تنافسية حقيقية فيما بينها.

ولكن ماذا حصل؟
إن الذي حصل حتى الآن هو الشق المالي الذي تستفيد منه الدولة لوحدها فقط، فقد تحولت المسشافي العامة إلى مشافي مأجورة لكل الناس ودون تمييز، كما أن شبكات الأمان الاجتماعي التي تتحدث عنها الدولة لم تنشأ، وقد لا تنشأ أبداً، وأنه لا أحد يعرف حتى الآن على أي أساس، ووفق أي آلية يتم تقاضي المبالغ من الناس، ولا أحد يعرف ما هي الكلفة الحقيقية لتك الخدمات، وبالتالي فإن ما تم تحقيقه وتطبيقه فورا هو ما يحقق عوائد لخزينة الدولة، وليس ما يخفف عن المواطن تكاليف المعالجة الصحية، تلك التكاليف التي زادت على الأقل في عام 2005 حوالي 36.5% عما كانت عليه عام 2000، وهي في طريقها للازدياد بفعل السياسات الحكومية المتبعة في قطاع الصحة، والسؤال الآن : هل يستطيع المواطن أن يتحمل أي أعباء مالية إضافية خلال السنوات القادمة، وخاصة إن وضعه المعيشي يتدهور بصورة واضحة؟ وهل هذا هو الدعم الذي يتحدث عنه السيد عبدلله الدردري؟

القطاع الصحي من منظور الخطة الخمسية العاشرة
تقدم الخطة الخمسية العاشرة في الفصل الخاص عن القطاع الصحي وصفاً موجزا ومكثفاً لواقع هذا القطاع، حيث ترى الخطة أنه وبالإضافة إلى تدني مستوى الإنفاق العام على الصحة في سورية - والذي يقدر بحوالي 60 دولار للفرد– وهو أحد أقل مستويات الإنفاق فى المنطقة العربية، يعاني القطاع الصحي من انخفاض الكفاءة الاقتصادية على جميع المستويات ويتسبب فى إهدار واسع للموارد القليلة المتاحة للقطاع بالإضافة إلى تدني الإنتاجية الفعلية للقوى البشرية على جميع مستويات القطاع. ويمثل ازدواج الممارسة فى القطاعيين العام والخاص بواسطة المهنيين الصحيين خصوصا الأطباء وضعف الرقابة على القطاع الخاص سببا رئيسيا فى تدني جودة الخدمات الصحية الحكومية واستغلال القطاع الخاص للبنية التحتية الحكومية في تقديم خدماته المأجورة. وقد أدى ذلك ليس فقط لإهدار الموارد العامة المستثمرة فى القطاع الصحي الحكومي، بل أيضا إلى ضعف استثمارات القطاع الخاص فى الصحة وتدني المردود الضريبي من القطاع الخاص الذي يمارس معظم أنشطته بشكل غير رسمي.
كما يعاني القطاع الصحي من تضخم بيروقراطي يمثل عبئا اقتصاديا على الدولة وحجر عثرة أمام الإصلاح والتحديث. ويتواكب ذلك مع تعدد وتجزئة القنوات التمويلية وضعف التنسيق بين مقدمي الخدمات وغياب مفاهيم ونظم مراقبة الجودة. ويأتي ذلك نتيجة غياب سياسة صحية وطنية واضحة تستند على تحليل واقعي للاحتياجات وتحديد دقيق للأهداف وتمثل الإطار الناظم لعمل القطاع الصحي بكل لاعبيه.
 وتدعو الخطة إلى تطوير نظام تمويل القطاع الصحي ليحقق تغطية شاملة لجميع المواطنين بالخدمات الصحية الأساسية من خلال نظم تمويل تقدمية قائمة على أسس تعاقدية مع مقدمي الخدمات الصحية، وكذلك رفع نصيب المواطن السوري من الإنفاق الإجمالي على الصحة إلى ما يزيد على 120 دولار وتقليص التباينات الاجتماعية والجغرافية فى الإنفاق على الصحة بحيث لا يقل متوسط نصيب أي مواطن سوري من الإنفاق عن 100 دولار بغض النظر عن موقعه الجغرافي أ ووضعه الاقتصادي.  كما تدعو أيضاً إلى تحسين أداء وسوية نظام الخدمات الصحية لزيادة متوسط إنتاجية العامل الصحي إلى حوالي 2500 دولار سنويا وإعادة اعتماد جميع مقدمي الخدمات الصحية على المستويات كافة، طبقا للحد الأدنى من معايير الجودة المتعارف عليها عالميا ورفع مساهمة استثمارات القطاع الخاص والأهلي إلى 50% على الأقل من الاستثمار الصحي العام.
إذا فقطاع الصحة يغص بالمشاكل الكمية والنوعية، والتي تحتاج إلى حل جذري، لكن تلك المشاكل لم تحل واتجهت الحكومة إلى أقرب الحلول، وأسهلها، وبدأت بتحويل قطاع الصحة إلى قطاع تجاري، مع بقاء مشاكله على ما هي عليه.

نقطة نهاية
عند بوابة مشفى المجتهد، ومشفى الأسد الجامعي تتوقف التصريحات الحكومية عن دور الدولة الاجتماعي، بل ويبرز تراجع ذلك الدور بشكل واضح، وتنتفي مقولة نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية عن دعم قطاع الصحة، ويزداد الفقراء فقراً، ويوضع المواطن بين فكي كماشة القطاع العام الصحي المأجور بخدمات سيئة، والقطاع الخاص الباهظ الكلفة بخدمات متوسطة وجيدة.والسؤال الآن: من هي الفئة الاجتماعية التي تزور المشافي العامة لتلقي العلاج؟ أليست الطبقة الفقيرة والتي تتدهور ظروفها الاقتصادية والاجتماعية باستمرار؟ فلماذا تفقد هذه الطبقة آخر مكتسباتها المادية والصحية؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
283