د. قدري جميل في ندوة الثلاثاء الاقتصادية: لانمو ... ولاتنمية.. مادامت الأرباح تلتهم الأجور!!

■ النهب الكبير للاقتصاد الوطني أوصل الفاقد إلى نحو 30% من الدخل الوطني..

■ رفع نسب النمو قضية اجتماعية ـ سياسية من الدرجة الأولى..

■ أصبح مستحيلاً اليوم الحديث عن «نمو بلا تنمية»..

■ نحن بحاجة إلى نموذج اقتصادي جديد ينسف الخلل في معادلة(الأجور ـ الأسعار) (التراكم ـ الاستهلاك) القائمة حالياً..

■ مستوى الأجور الحالي أدنى بمرتين من المطلوب!..

شهدت محاضرة «واقع النمو الاقتصادي وتوزيع الدخل في سورية» التي ألقاها الرفيق د. قدري جميل ضمن فعاليات جمعية العلوم الاقتصادية السورية، حضوراً واسعاً من الاقتصاديين والمهتمين، ولاقت الكثير من الترحيب والاهتمام لما تضمنته من جرأة في التوصيف والتشخيص والمعالجة.

وقد جاءت المحاضرة موضوعية، تحليلية، بينت بالأرقام الدقيقة حقائق وقائع النمو «المتردي» في سورية والأسباب التي أوصلته إلى هذا المستوى، والآفاق المتاحة لتطويره والسير به إلى الأمام.

وقسم د. قدري جميل محاضرته إلى أربعة محاور.

1ـ واقع النمو في سورية:

   إذا كانت التنمية، بشقيها الاقتصادي والاجتماعي المعيار الأساسي لتقييم إنجازات أي نظام اقتصادي ـ اجتماعي، فإن النمو الاقتصادي، هو الشرط الضروري لكل تنمية، وإن كان غير كاف. فالنمو إذا تحقق يمكن أن لا يؤدي إلى تنمية، إذا لم ترافقه إجراءات اجتماعية ملموسة لصالح أكثرية الناس، وبالمقابل فإن التنمية لا يمكن التفكير فيها بدون معدلات نمو معقولة  .

   إن وضع البلدان التي كانت، ومازالت تعتبر متخلفة قياساً للدول الرأسمالية المتقدمة، يبين أنها بحاجة إلى نسب نمو عالية لردم الهوة الكبيرة بينها وبين الدول المتقدمة النمو. وهذا لم يتحقق طبعاً خلال الفترات الماضية وله أسبابه.

وتائر النمو المتحققة

إن نظرة سريعة لوتائر نمو الدخل الوطني في سورية خلال السنين العشر الماضية تبين أن وسطي نمو الدخل سنوياً قد وصل إلى حوالي 4%, وكان يتراوح خلال هذه الفترة من حد أدنى (3.55 ــ %) إلى حد أعلى (7.3%)، وهذه النتيجة  تعني فيما تعنيه أن الزيادة في الدخل الوطني لاتكاد تغطي الزيادات السكانية. فكيف الحال بمعدلات النمو الضرورية للتنمية، وبضرورات تحسين معيشة الناس، وبمواجهة الاستحقاقات التي تفرضها الظروف العالمية والإقليمية المستجدة؟!

إن رفع وتيرة نمو الدخل الوطني إلى أعلى المعدلات الممكنة أصبح ضرورة وطنية واجتماعية قصوى، وهذا لم يتحقق خلال السنوات العشر الماضية، وليس هناك مؤشرات جدية تدل على إمكانية تحقيقه خلال الفترة المنظورة القادمة إذا كان الاعتماد سيبقى قائماً على احتمال تدفق الاستثمارات الخارجية.

سنقارن واقع النمو الحالي واللاحق في سورية مع بلدين، هما: ماليزيا واليونان:

إذا أخذنا أرقام الأمم المتحدة لوجدنا أن معدل النمو السنوي لدخل الفرد في سورية بين عام (1990 ـ 2001) هو 1.9% سنوياً. وإذا افترضنا أننا سنحافظ على هذا المعدل، فإنه سيلزمنا للوصول إلى مستوى ماليزيا بالنسبة لوسطي دخل الفرد (61) عاماً، أي إذا توقف التطور عند النقطة التي وصلت إليها ماليزيا اليوم، فإننا سنستطيع اللحاق بها في عام (2063).

أما اليونان، فإن الأمر سيتطلب للحاق بوسطي دخل الفرد فيها لـ (120) عاماً، أي في عام 2122، حسب معدلات النمو السابقة في بلدنا.

وإذا استندنا إلى مجموعاتنا الإحصائية التي تقدر وسطي النمو بالأسعار الثابتة لعام 1995 استناداً لسنة الأساس 1990 بـ 4.2% سنوياً لتبين أن الوصول إلى مستوى ماليزيا سيتطلب 29 عاماً، أما الوصول إلى مستوى اليونان فسيتطلب (56) عاماً.

وما دمنا في مجال الافتراضات، فإن رفع معدل النمو السوري إلى 10% سنوياً سيسمح باللحاق بماليزيا بعد ثلاثة عشر عاماً، وباليونان بعد 24 عاماً. وإذا كنا أكثر طموحاً وافترضنا أننا سنسير على أساس وتائر النمو القصوى التي عرفها التاريخ الاقتصادي، مثلاً: في الاتحاد السوفييتي في الثلاثينات، أو في الصين اليوم والتي وصلت إلى 15% سنوياً، فإننا سنلحق بماليزيا في عام (2010)، أما اليونان ففي عام (2018).

هذا من حيث وسطي دخل الفرد. أما إذا أخذنا الدخل الوطني بإجماله كوحدة قياس، فإن مضاعفته مرة واحدة ستتطلب (38) عاماً، ومرتين ستتطلب (56) عاماً، على أساس نسبة النمو حوالي 2% حسب أرقام الأمم المتحدة.

وإذا استندنا إلى معدلات النمو الموجودة في المجموعة الإحصائية السورية، أي 4.2%، فإن مضاعفة الدخل الوطني ستتطلب (18) عاماً، ومضاعفته مرتين ستتطلب (29) عاماً.

ومادمنا في العالم الافتراضي فلا بأس من افتراض نمونا بـ 15% سنوياً من الآن فصاعداً، مما سيسمح بمضاعفة الدخل الوطني مرة واحدة بعد (6) سنوات ومرتين بعد (9) سنوات.

وأمام هذا الواقع القاسي لا يبقى إلا حلان نظرياً لزيادة حصة الفرد جدياً من الدخل الوطني، والتي تتطلب على الأرجح مضاعفتها مرتين خلال فترة زمنية قصيرة لكي تتلاءم مع الحدود الدنيا الضرورية للحد الأدنى لمستوى المعيشة:

الحل الأول: إذا أصررنا على إبقاء معدلات النمو الحالية القائمة فإن مضاعفة حصة الفرد مرتين خلال العقد القادم ستتطلب اختصار عدد سكان سورية إلى الثلث. وليس هنالك ضمانة أكيدة في هذه الحالة للوصول إلى الهدف المنشود لصعوبة معرفة تأثير انخفاض عدد السكان على النمو الاقتصادي نفسه في الظروف الحالية.

الحل الثاني: أما إذا أردنا الحديث جدياً، فأمامنا حل وحيد وهو رفع وتائر النمو إلى 15% سنوياً. وهذا ليس ممكناً فقط، بل أصبح أمراً ضرورياً لا مجال للهروب منه. فقضية النمو الاقتصادي أصبحت قضية تمس الأمن الوطني بمعناه السياسي و الاجتماعي والاقتصادي. وهذا يتطلب تعبئة كل الموارد من دون الاعتماد على الديون أو انتظار الاستثمارات الخارجية التي لن تأتي.

 الاستثمار الداخلي هو الحل الوحيد الممكن الذي لن يتم إلا بحال إيقاف النهب البرجوازي الطفيلي والبرجوازي البيروقراطي الذي يقتطع أجزاء هامة  من الدخل الوطني ولا تقل عن 20% منه.

2ـ العوامل المؤثرة في النمو:

هناك ثلاثة عوامل أساسية تؤثر في النمو الاقتصادي وهي:

معدل التراكم في الدخل الوطني:

فالدخل الوطني حين الاستخدام ينقسم إلى تراكم واستهلاك. والتراكم ضروري لعملية إعادة الإنتاج، وتفيد التجربة التاريخية الاقتصادية أن معدل (10%) من الدخل الوطني يسمح فقط بإعادة الإنتاج البسيط، ويؤمن معدل نمو (0%)، و يتضح أن وسطي حجم التراكم خلال العقد الماضي في سورية لم يتجاوز 15%، وهذا يفسر إلى حد كبير ضعف وتائر النمو المحققة.

لقد عرف التاريخ العالمي للتطور الاقتصادي وتائر عالية من التراكم حينما كانت الضرورة تستدعي نمواً انفجارياً، وهي قد تصل إلى 40% من الدخل الوطني الذي يعتبر خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه لأنه حينذاك سيؤثر سلباً على معدلات الاستهلاك مع ما يحمله ذلك من خطر عدم القدرة على إعادة إنتاج قوة العمل. ولكن قوة العمل لدينا تعاني من العلاقة المختلة بين الأجور والأرباح.

لأن هذه العلاقة في ظروف بلادنا هي 25% أجور و75% أرباح. والمعروف أن العلاقة بين الأجور والأرباح في بلد الرأسمالية الأول، الولايات المتحدة الأمريكية، هي 60% أجور و40% أرباح، وهي تزيد أو تنقص بحدود (+ - 20%) حسب كل بلد من البلدان الرأسمالية المتطورة لأن الطبقة المالكة والحاكمة فيها تعي تماماً أن انخفاض مستوى الأجور عن حد معين سيؤدي إلى الإضرار بكل التطور الاقتصادي من خلال تخفيضه للقدرة الشرائية التي ستؤثر سلباً على الطلب، مما لن يسمح لعجلة الإنتاج بالاستمرار. 

إن كتلة الأجور في سورية قد وصلت بعد الزيادات الأخيرة إلى حوالي (170) مليار ليرة سورية، في الدولة وقطاعاتها المختلفة، وإذا أضفنا إليهم العاملين في القطاع الخاص فإنها تصل إلى (250) مليار ليرة سورية من أصل (950) مليار، وهي مجموع الدخل الوطني.

وغني عن الذكر أن هذا التناسب يؤثر سلباً على الاستهلاك العام وعلى التراكم. وإذا أضفنا إلى ذلك:

عائدية رأس المال:

التي لا تصل إلى  أكثر من 20% من مجمل الاقتصاد الوطني، يتضح حجم المشكلة من جهة، والاحتياطات الهائلة الممكنة لحلها. وهذه الاحتياطات هي منطقياً وبالتدرج حسب الأهمية التالية:

■ رفع معدلات التراكم.

■ تغيير العلاقة جذرياً بين الأجور والأرباح.

■ رفع عائدية رأس المال.

إن النموذج الاقتصادي القائم حالياً لم ولن يسمح بتعبئة الإمكانيات والموارد المذكورة أعلاه من أجل تحقيق النمو الاقتصادي المطلوب. لماذا؟

3 ـ الفاقد الاقتصادي، السبب الأساسي في انخفاض معدلات النمو:

تتفق تقديرات الذين هم  ضد قطاع الدولة ومن معه، على أن الفاقد من الدخل الوطني بسبب النهب الكبير الذي يتعرض له الاقتصاد الوطني، وقطاع الدولة خصوصاً، هو سبب أساسي، وتصل التقديرات إلى أن حجم هذا الفاقد يعادل (20%) من الدخل الوطني المنتج سنوياً، ومن نافل القول إن النهب بهذه الحالة قد تحول إلى سبب لقصور النمو، وإلى نتيجة من نتائج النمو القاصر، ويحول دون التراكم  الضروري للاستثمارات التي لابد منها للنمو اللاحق، ونظرة سريعة لمعدل نمو الاستثمارات خلال فترة السنوات العشر الماضية تبين أن المعدل الوسطي لنمو الاستثمارات سنوياً كان بحدود 2.5%، وهي نسبة لايمكن أن تحل المهمة المطلوبة. كما أن  الدراسات تبين أن حجم التراكم للدخل الوطني، رغم ازدياده بحدود (35%) خلال الفترة المدروسة، لم يتجاوز (15%)، وهي نسبة متدنية، فما هي الإشكالات التي يسببها نمو منخفض نسبياً؟!

إشكاليات النمو المنخفض

1. في ظل شكل  توزيع الدخل الوطني المختل بين الأجور والأرباح لصالح الأخيرة لايمكن تأمين متطلبات تحسين مستوى المعيشة. والمعروف أن الدراسات المختلفة قد بينت أن مستوى الأجور الحالي هو أدنى من المطلوب بثلاث مرات، مما يتطلب إصلاحاً اقتصادياً جوهره رفع نسب النمو وتصحيح الخلل بين الأجور والأرباح.

2. إن نمواً بهذا الحجم يراكم مشكلة البطالة من خلال عدم قدرته على تأمين فرص العمل الضرورية لليد العاملة الجديدة التي تدخل سوق العمل سنوياً، والتي هي بحدود (200) ألف شخص.

3. إن النهب الكبير الذي يسبب  تخفيضاً للنمو يؤثر بشكل مباشر على عائدية الرساميل الموظفة في الاقتصاد الوطني ويجعلها في أحسن الأحوال لا تتعدى الـ (20%) أي أن كل خمس ليرات موظفة في الاستثمار تعطي مردوداً قدره ليرة سورية واحدة.

4. كما أن النهب يؤدي بدوره إلى تخفيض نسب التراكم التي يجب أن تصل بحدودها الدنيا في ظروفنا الحالية إلى (25%) من الدخل الوطني، وهذا مالم يتحقق خلال أي سنة من السنوات العشر الماضية.

لذلك يصبح من الواضح أن رفع نسب النمو ليست قضية اقتصادية صرفة، بل هي قضية اجتماعية وسياسية، ولايمكن القول إلا أنها أصبحت قضية وطنية من الدرجة الأولى. فكيف السبيل إلى معالجة هذه القضية؟!

هذا الواقع يتطلب تغييراً جذرياً للنموذج الاقتصادي القائم والانتقال إلى نموذج اقتصادي جديد يؤمن متطلبات النمو العالية، والواضح أن هذا النموذج لايتفق نهائياً مع الرؤى الليبرالية الجديدة التي تحمّل قطاع الدولة مسؤولية الوضع الحالي، وهي أصلاً باقتراحها لنموذجها الجديد، والذي يتطلب التخلي عن دور الدولة في العملية الاقتصادية والاجتماعية، لن تؤدي إلا إلى نتيجة واحدة، وهي انخفاض معدلات النمو إلى ماتحت الصفر.

4 ـ من أجل نمو معدلات النمو:

يحاول مشروع الإصلاح الاقتصادي المعروف، معالجة هذه المشكلة باقتراحه الوصول إلى معدل نمو 6% سنوياً بعد سبع سنوات. أي أنه بكلام آخر يقترح إجمالي النمو خلال سبع سنوات أكثر من 30% بقليل.

يقترح المشروع نسبة نمو سنوية للدخل الوطني 6 % بعد سبع سنوات، إلا أن هذه النسبة غير مؤسسة على رؤية واضحة للضرورات التي يفترضها نمو الدخل الوطني خلال فترة زمنية طويلة، فإن نسبة الـ6% نمو سنوي تعني أن الهدف هو مضاعفة الدخل الوطني مرة واحدة خلال 16 سنة، فهل يمكن انتظار هذه الفترة الزمنية لتحقيق الأهداف المرجوة ؟. من الواضح أن مضاعفة الدخل الوطني هو هدف مشروع وضروري، ولكن ضمن فترة زمنية كهذه يفقد أهميته وضرورته، والأرجح أن واضعي البرنامج كان يجب أن ينطلقوا بالعكس أي من تحديد الإطار الزمني الضروري لمضاعفة الدخل الوطني، وصولاًً إلى تحديد وتائر نموه السنوي. وإذا وضعنا الأمر كذلك، فإن الفترة الزمنية المطلوبة والضرورية لمضاعفة الدخل الوطني قد لا تكون أكثر من (6 ـ 7) سنوات، مما يتطلب معالجة مسألة النمو السنوي على هذا الأساس، والتي ستتطلب حينذاك تحقيق نسبة نمو 10 % سنوياً كحد أدنى.

تحديد معدلات التراكم:

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إن أي نسبة نمو تتطلب تحديد معدلات التراكم في الدخل الوطني، أي تحديد حجم الاستثمار المقتطع من الدخل الوطني لتأمين النمو اللاحق. وتبين التجربة والأرقام أن نسب التراكم السابقة خلال السنين العشر الماضية كانت أقل من 15 %، وقد حققت هذه النسبة نمواً يتراوح بين (0 و 3 %). وإذا استندنا إلى هذه الأرقام فهذا يعني أن  نمو 6 % للدخل الوطني يتطلب لاأقل من 30 % تراكماً مقتطعاً من الدخل الوطني لتوسيع الاستثمار وهذا ما لم تلحظه ولم تعالجه مسودة البرنامج.

عائدية الرأسمال:

ومن الواضح أنه في ظل عائدية الرأسمال في ظروفنا الحالية، والتي تعتبر متدنية، ولايمكن الوصول إلى نسبة نمو 6 % ضمن معدلات التراكم السابق، وإذا افترضنا أن 6 % غير كافية فزيادتها تتطلب رفع نسب التراكم التي تصبح مستحيلة من وجهة النظر الاقتصادية البحتة في ظروفنا الملموسة أكثر من (30 / 40 %)، لذلك فإن الحل الوحيد لرفع نسب النمو والتراكم، هو رفع مستوى أداء الاقتصاد الوطني. وهذا لا يمكن أن يتحقق في ظل الفاقد الكبير الذي ينزف من اقتصادنا الوطني، سواء كان بسبب الفاقد الضريبي أو الجمركي، أو بسبب النهب الكبير.

هل النسب المقترحة جدية؟

يمكن اقتراح نموذج اقتصادي جديد يؤمن النسب العليا الضرورية من النمو، وهذا النموذج يتطلب تأمين المتطلبات التالية:

■ الوصول بالتراكم إلى 40% من الدخل الوطني.

■ تغيير العلاقة بين الأجور والأرباح كي تصبح 40% أجور و 60% أرباح.

■ إن تأمين الشرطين الأوليين سيسمح برفع إنتاجية العمل، مما سيوصلنا في ظروف بلادنا التي تتوفر فيها قدرات بشرية هائلة، وثروات باطنية كبيرة إلى عائدية عالية للرأسمال الموظف يمكن تقديرها حسب الحسابات الأولية إلى 50%.

وتبقى المسألة الأساسية والإشكالية الكبرى هي إيقاف النزيف الكبير الذي يسببه النهب الكبير للاقتصاد الوطني، والذي يقدر بـ 20% من الدخل الوطني بالحد الأدنى، وحتى 40% بحده الأعلى.

■ ففي ظل النموذج القائم 25% أجور، 75% أرباح.

■ وفي ظل 15% تراكم.، 85% استهلاك.

تتكون العلاقة بين هذين النموذجين من المعطيات على الشكل التالي:

تسترجع الدولة من أصحاب الأجور عبر الضرائب المباشرة وغير المباشرة والرسوم 40% من دخولهم التي تبلغ حجم 10% من الدخل الوطني، وهي من حيث الاستخدام تذهب إلى التراكم. مما يعني أن أصحاب الأرباح يساهمون في التراكم فعلياً بـ 5% لكي يبلغ مجموعه 15% من الدخل الوطني. وهذه النسبة (0.7%) من مجموع الأرباح. وبالتالي يستهلك أصحاب الأجور استهلاكاً نهائياً فعلياً 60% من أجورهم. بينما يستهلك أصحاب الأرباح استهلاكاً نهائياً 93% من أرباحهم، وبما أن قدرة السوق المحلية بالنسبة للاستهلاك الفعلي عبر هذه الشريحة محدودة، فمن المفهوم أن يذهب حوالي 30% من الـ 70% المخصصة لاستهلاكهم إلى التراكم، ولكن في الخارج كي تتراكم هذه الثروات ودائع في المصارف الأجنبية تقدرها أكثر المصادر تفاؤلاً بـ (100) مليار دولار، بينما الدخل الوطني السنوي اليوم (20) مليار دولار.

إن كسر هذه الحلقة أصبح ضرورة وطنية لتطور مجمل الاقتصاد الوطني.

إن إيقاف النزيف عبر تحويل هذا الفاقد إلى أجور وتراكم سيسمح بتغيير المعادلة نهائياً وصولاً إلى 40% أجور و 40% تراكم، وغير ذلك فإن المستقبل لايعد بالخير للبلاد والعباد.

أخيراً..

حتى اليوم كان يمكن الحديث عن «نمو بلا تنمية» في بلدان العالم الثالث. ولكن هل يمكن القول بذلك اليوم؟ الأرجح لا يمكن. لماذا؟

■ إذا كان مؤشر النمو هو مؤشر كمي، فالتنمية هي مؤشر نوعي.

■ وإذا كان مؤشر النمو هو مؤشر بسيط، فالتنمية هي مؤشر مركب.

■ وإذا كان مؤشر النمو هو مؤشر اقتصادي بحت، فالتنمية هي مؤشر اقتصادي ـ اجتماعي ـ سياسي.

«لا نمو بلا تنمية»

اليوم في ظل الأزمة العميقة التي تعصف بالنظام الرأسمالي العالمي، والتي تضطره إلى رفع معدلات نهب بلدان العالم الثالث، يمكن القول أن كل احتياطات «النمو بلا تنمية» قد استنفدت، أي أنه إذا كان في السابق من الممكن تأمين معدلات نمو، لو ضعيفة، في ظل سياسات اجتماعية منحازة لأقلية من ذوي الثروة، وفي ظل سياسات داخلية تمنع تطور الديمقراطية للناس، فإن ذلك اليوم أصبح مستحيلاً وأية دولة تريد أن تستمر في أبقاء مبرر وجودها، وهو قدرتها على حل قضايا المجتمع، أصبح غير ممكن بالنسبة لها حل قضايا النمو دون حل حزمة القضايا الاجتماعية ـ السياسية الملازمة للموضوع. وفي ذلك تعبير واضح عن شكل التجلي الحالي لقانون تناسب القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، لذلك فإن الخيار الحالي إما دولة وطنية قادرة على حل مشاكل المجتمع، وإما مجتمع قادر على إيجاد الدولة المناسبة لحل مشاكله ولا مفر من ذلك، ويبقى الخيار الأول هو الخيار الأقل كلفة وزمناً، أما الخيار الثاني فهو خيار وإن كان من المحتم الوصول إليه إذا استحال تحقيق الخيار الأول. إلا أنه خيار أكثر كلفة وزمناً والوصول إليه لن يكون طريقاً مستقيماً.

المناقشات

وعقب انتهاء المحاضرة، قدم بعض الحاضرين مداخلات قصيرة،  أثنت بمعظمها على الجهود الكبيرة التي بذلها المحاضر، من أجل تقديم صورة حقيقية عن واقع النمو في سورية، ووضع النقاط على الحروف في كثير من القضايا التي تقلق الناس، ورأى بعضهم أن المحاضرة قدمت أرقاماً مذهلة حول مسألة النمو، واستطاعت أن تحلل وتشخص مشاكله بصورة علمية دقيقة، كما أشار البعض الآخر إلى ضرورة إيقاف كل أشكال النهب المستمر للاقتصاد الوطني، والحد من الفاقد  المرعب فيه،انطلاقاًُ من الأرقام والنسب التي أكدتها المحاضرة، ومعاقبة المسيئين والمفسدين الذين يكرسون ضعف النمو، ويعرقلون ارتفاع معدلاته، ودعا مداخلون آخرون إلى محاربة البرجوازية الطفيلية التي تهرب الأموال إلى الخارج، وتحرم الوطن من 30% من دخله، فيما وجد أحدهم أن المحاضرة التي تميزت بقدرة تحليلية كبيرة، لم تقترح حلولاً بما يتعلق بمشاكل التنمية، فرد د. قدري أن هذه المشكلة ليست مشكلة اقتصادية بحتة، بل هي أيضاً مشكلة سياسية اجتماعية وحلها يجب أن يكون سياسياً واجتماعياً. 

 

■ إعداد: جهاد محمد