سؤال واحد فقط: كيف يكون الاقتصاد هشا والليرة متينة؟!

بعد أن ألقى حاكم مصرف سورية المركزي أديب ميالة محاضرة أمام طلاب كلية الاقتصاد منذ أشهر مضت، حول مبررات القرارات النقدية الجديدة التي اتخذها مجلس النقد والتسليف، سألت الحاكم سؤالاً محدداً وواضحاً وقلت له إن التحليل النهائي الذي أنجزته هيئة تخطيط الدولة حول الوضع الاقتصادي الراهن لسورية، تبين فيه أن الاقتصاد السوري هو اقتصاد هشّ وفق كل المقاييس والمؤشرات، فهناك معدلات بطالة مرتفعة، ومعدلات نمو منخفضة، وضعف في إنتاجية عوامل الإنتاج، وتراجع في مستويات المعيشة، واعتماد شديد على صادرات المواد الأولية، وتراجع لدور النفط، وتراجع في الإنتاجية الحدية لرأس المال، ووضع إقليمي ودولي غير مستقر، ففي ظل كل هذه العوامل الاقتصادية السلبية، كيف تقولون إن الليرة السورية متينة، وما هو المبرر الاقتصادي لهذه المتانة؟ جاءت إجابة الحاكم هادئة لكنها غير مقنعة" بسبب وجود هذه العوامل التي ذكرتها فإن الليرة وصلت إلى ما هي عليه الآن، ولولا وجود تلك المؤشرات لكانت الليرة أكثر متانة ". 

إجابة حاكم مصرف سورية المركزي التي لم تقنعني، دفعتني لسؤاله سؤالاً آخر فقلت له : لكنك صرّحت ذات مرة أن هناك اقتصاداً متيناً يحمي الليرة، فهل يحمي النفط الليرة وهو مورد ناضب، أم هل تحمي الليرة مليارات الدولارات المجمّدة لديكم في البنك،  وهي التي يمكن خسارتها بأيام قليلة بسبب عمليات مضاربة أو تهريب عملة للخارج مثلا؟ فأجاب " ومن قال لك إننا نعتمد على النفط والاحتياطي الدولاري فقط للحفاظ على قيمة الليرة، فلدينا السياحة والصادرات الأخرى، والتحويلات الخارجية، وكلها عوامل دعم واستقرار لليرة "

أليس النقد ظل الاقتصاد، فكيف يكون الجسم مشوهاً وظله سليم ومعافى؟ هذا هو السؤال المحوري في علاقة الليرة مع الاقتصاد، أما الأسئلة الأخرى فهي كثيرة وحساسة أيضاً مثل: ما هو مستقبل الليرة في مرحلة ما بعد النفط؟ وما هي القيمة الحقيقية لليرة السورية؟ وما هي فعالية المصرف المركزي في إدارة الليرة بوجود اقتصاد غير متماسك؟

الهشاشة الاقتصادية بالدليل القاطع

تتالت في الأشهر الماضية العديد من التصريحات التي تؤكد سلامة الليرة السورية ومتانة قيمتها، لكنّ أحداً ما لم يعط تفسيراً اقتصادياً مقنعاً لتلك المتانة، لا حاكم مصرف سورية المركزي، ولا حتى وزير المالية، ولا وزير الاقتصاد، باعتبارهم رؤوس مثلث الإدارة الاقتصادية في سورية، ولجأ الجميع إلى التفسير التقليدي لهذه المتانة، والذي يقول بوجود احتياطي كبير من العملات الأجنبية ووجود عائدات كبيرة من النفط. ولكن ماذا عن بنية الاقتصاد ككل الذي من المفترض أن تستند متانة الليرة إليه، لا أن تستند إلى قطاع واحد وناضب فيه. فالتعليل الدائم بأن عائدات النفط هي الداعم لوضع الليرة هو تعليل ميكانيكي وآني، ويطرح سؤالاً بدهياً، وهو ماذا بعد أن ينضب النفط؟ متانة الليرة من متانة الاقتصاد بشكل عام، ولكن ما هو الوضع الفعلي للاقتصاد السوري الآن؟ إذا استطعنا الإجابة عن هذا السؤال عندها نستطيع أن نعرف مباشرة إن كانت الليرة متينة أم لا. والمنطق الاقتصادي يقول إن تفاعل كل العوامل الاقتصادية والسياسية مع بعضها بعضاً هو الذي يحدد متانة الليرة، وطالما أن الشعارات والتصريحات الحكومية هي التي تعلن متانة الليرة فدعونا نترك " أهل البيت " يبينون لنا أيضاً ما هو الوضع الحقيقي للاقتصاد لنعرف مقدار التنافر بين الحقائق والشعارات. فها هي هيئة تخطيط الدولة تصف حالة الاقتصاد السوري في عام 2005  بالقول:   

يعاني الاقتصاد السوري من اختلالات ومشاكل جوهرية في مصادر النمو الاقتصادي، فالتراجع كمي في كل من الاستثمار المادي و التشغيل، وكيفي في إنتاجية العامل وكفاءة رأس المال، ومجمل إنتاجية عوامل الإنتاج، الأمر الذي يعكس تدهوراً في رأس المال البشري الذي يُعد المصدر الرئيسي للإنتاجية والتنافسية في عالم الغد، نتيجة تدني المستوى التعليمي للقوى العاملة كماً وكيفاً، وعدم تطوير الجانب المعرفي في العملية الإنتاجية، فضلاً عن تراجع استخدام التقانة، ما انعكس سلباً على العملية الإنتاجية، وجعل إمكانية تحقيق معدلات نمو مستدامة أمراً متعذراً في الظروف الحالية.

من جانب آخر لعبت التشريعات و السياسات الكلية _بالرغم من كل الجهود التي بذلت بداية التسعينات و في الفترة (2000-2004) _ دوراً غير مشجع للنمو و للاستثمار الأمثل للموارد، وتطوير القدرات البشرية من جهة، وغير مركز نحو زيادة العدالة الاجتماعية- بالرغم من سياسات الدعم المكلفة التي تقوم بها الحكومة- من جهة أخرى .وذلك نتيجة ضعف الكفاءة في إدارة السياسات الاقتصادية الكلية، وعدم الوضوح في التوجهات الاقتصادية الاستراتيجية.

إن نتائج هذه العوامل الجوهرية انعكست في معدلات نمو حقيقية متراجعة تقلّ عن معدل نمو  السكان لآخر سبع سنوات، وأدت إلى تشكل اقتصاد يعتمد على النفط و الزراعة بنسب متزايدة، وفيه ضعف في قطاع الصناعة التحويلية، وتضخم في الخدمات ماعدا الخدمات المالية التي بقيت الأضعف في المنطقة.وانعكس ذلك على تنوع ضعيف للصادرات، و قيم مضافة منخفضة، و خسارة أسواق تقليدية للسلع السورية.

إن ضعف استغلال الإمكانيات الكامنة الكبيرة نسبياً في الاقتصاد السوري وخاصة الموارد البشرية، قاد إلى خسائر اقتصادية واجتماعية، من حيث انخفاض العائد الاقتصادي، وبالتالي تراجع رفاهية المجتمع من جهة، و بذل الإنسان لأقل من قدراته الكامنة ما يسبب مشاكل اقتصادية واجتماعية ونفسية.

هذه هي ألف باء اختلالات الاقتصاد السوري، وإذا ما أردنا التعمّق أكثر في هذه الاختلالات، وجدنا الكوارث الرقمية بانتظارنا، وها هو أحد أهم الأمثلة على هشاشة الاقتصاد، وتدهور حالته، أي معدلات النمو الاقتصادي، ومستويات المعيشة، فقد تراجع معدل النمو الاقتصادي الحقيقي من 8.5 % وسطياً خلال أعوام 1990- 1996 إلى  2.4 % خلال أعوام 1997-2003 ، ويعود الانكماش الاقتصادي الذي حصل خلال تلك الفترة إلى تراجع الاستثمار الخاص بسبب عدم توفّر المناخ الاستثماري المناسب من جهة، وبسبب السياسات المالية و النقدية التي اتّبعت كتجميد الرواتب و الأجور، و تخفيض الاعتمادات المخصصة للإنفاق الاستثماري، مع تدني نسب التنفيذ من جهة أخرى. هذا ويعاني الدخل الوطني من خلل في هيكلية التوزيع وخاصة خلال السنوات 1992-2003، إذ ازدادت حصة الأرباح و الريوع، و أجور العاملين لحسابهم الخاص على حساب حصة الأجور، و يتضح ذلك من خلال تراجع القيمة الحقيقية للأجور نتيجة انخفاض القوة الشرائية لليرة السورية،  وثبات الأجور الاسمية خلال تلك الفترة، وقد أثبتت الدراسات أن حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2003 تقارب حصته عام 1980؟

الآن وبعد كل تلك المؤشرات التي لن نعلق عليها أبداً، من سيقتنع بأن الليرة متينة؟ أو أن وراءها اقتصاداً قوياً يحميها؟ أو من يملك الآن المبررات الاقتصادية الحقيقية ليتحدث عن متانة الليرة؟ فهل الليرة متينة بالشعارات مثلما كان الاقتصاد متيناً بالطريقة نفسها؟    

افتعال متانة الليرة

حالة الإغلاق الاقتصادي الذي عايشته وتعيشه سورية، وحالة أسعار الصرف الإدارية، وحالة تكديس العملة الأجنبية دون استثمارها، واصطناع السوق غير النظامية للقطع، كانت من أهم العوامل التي أدت إلى المتانة المفتعلة لليرة السورية، في حين أن العوامل الحقيقية لمتانة الليرة غير متوفرة مثل الصناعة المتطورة والصادرات التكنولوجية، ورأس المال البشري، والإنتاج المادي والفائض في الميزان التجاري مع النفط أو بدونه، وخاصة إذا ما عرفنا أن العجز في الميزان التجاري السوري ـ ورغم وجود النفط ـ وصل في عام 2004 إلى 77 مليار ليرة.

الأستاذ في كلية الاقتصاد أكرم الحوراني يعزو أسباب الاستقرار النسبي في سعر صرف الليرة السورية إلى عدة عوامل، منها وجود فائض في الميزان التجاري مع إدخال عائدات النفط فيه، ووجود احتياطي معقول لدى البنك المركزي، والمصرف التجاري يقدّر بـ20 مليار دولار، واتباع سياسة عدم التدخل لتمويل القطاع الخاص، وجعله يعتمد على مصادره الخاصة سواء عن طريق الصادرات أم التسهيلات الاتئمانية أو التحويلات الخارجية، لكن هذا في النهاية انصب طلباً على السوق غير النظامية، واتباع سياسة الانكماش في الإنفاق الاستثماري في القطاع العام منذ سنوات، يضاف إليها ضآلة حجم طلب السوريين المقيمين على القطع لغايات السفر، والسياحة والاستطباب، والدراسة في الخارج.         

لكن كل تلك العوامل هي مجرد عوامل ثبات مؤقتة لوضع الليرة تخلق لها متانة مؤقتة، أي أنها بمثابة تخدير موضعي لجزء من جسم الاقتصاد لكنه الأهم على الإطلاق. الليرة تعني الثروة، واهتزاز متانة وقيمة الليرة يعني اختلالاً إضافياً في التوزيع الاجتماعي للثروة، وإحداث المزيد من الفجوات الاقتصادية. وإن اقتصاداً مفككاً وريعياً ومتناقضاً لن يكون خط دفاع للعملة الوطنية أبداً.

■ مجلة الاقتصاد والنقل . العدد السابع . تموز 2005

 

■ أيهم أسد