الإصلاحات «الترقيعية» لا تكفي.. المطلوب اعتماد القطاع العام الصناعي كركيزة للاقتصاد الوطني

التراجع الذي يشهده القطاع العام الصناعي لا يحتاج للكثير من العناء لإثباته، وخاصة في قطاع الصناعة التحويلية، فبينما أغلق معمل بردى لإنتاج البرادات، ليخرج بذلك القطاع العام من طريق إنتاج هذه السلعة المعمرة، كان من الملاحظ تغلغل العديد من الماركات الخاصة المشابهة في إنتاج هذا النوع من السلع، لتغزو منتجاته السوق السورية دون إذن من أحد، وهذا الاختلال ليس وليد اليوم طبعاً، وإنما هو حصيلة تراكمات من الأخطاء السابقة المتعمدة في أغلب الأحيان من الإدارات المتعاقبة لإيصال هذا القطاع إلى حافة الميئوس منه، وتحليل الدعوة اللاحقة للتخلص من هذا القطاع..

معادلة متعاكسة!

إذاً، هي معادلة متعاكسة في الاتجاه، قطاع عام صناعي تتراجع إنتاجيته، ليخرج طواعية من السوق، وتغلغل للخاص في السوق ذاتها، وارتفاع في إنتاجه من المواد ذاتها، وهذا أسقط مبرر عدم حاجة السوق المحلية كمسوغ للخروج، فكيف استطاعت ورشات لا يتعدى تمويلها أو عمالتها 10% من معمل مشابه في القطاع العام أن تكتسح السوق الداخلية، بينما عجز هذا الأخير عن الحفاظ على ديمومته واستمراره؟!

الأرقام والدلائل المؤكدة تراجع إنتاجية القطاع العام الصناعي بشركاته كل منها على حدة، أو بالمحصلة الإجمالية كثيرة وعديدة، والإنكار من إدارة هذا القطاع لم يعد ممكناً، فالكتمان غير مجد إذا ما أردنا الحديث عن ضرورة النهوض بهذا القطاع، وأهمية تطويره واعتماده كإحد ركائز الاقتصاد الوطني، والمقارنة بين إنتاجية الخاص والعام هي التي ستعطي صورة دقيقة عن هذا الاختلال الحاصل في الإنتاج بشكل تراكمي في السنوات السابقة بين القطاعين لمصلحة الخاص بالطبع.. 

جريمة بحق العام الصناعي

إنتاج شركات القطاع العام الصناعي من البرادات تراجع بنسبة 26% بين 2005 - 2009، وفي المقابل، ارتفع إنتاج القطاع الخاص من البرادات بنسبة 32.5% بين أعوام 2005 حتى 2008،  كما ان البوتوغازات والأفران كانت جزءاً من عملية التراجع الجارية في الإنتاج، حيث انخفض إنتاج القطاع العام الصناعي بنسبة 65%، بينما ارتفع إنتاج القطاع الخاص من هذه المادة المعمرة بنسبة 39%!.. أما بالنسبة للمحولات الكهربائية، فقد تراجع إنتاج العام الصناعي منها إلى صفر قطعة في العام 2009، وفي المقابل ارتفع إنتاج الخاص بنسبة 21.5% من هذه المحولات، والأنابيب المعدنية لم تكن أفضل حالاً، حيث تراجع إنتاج العام منها إلى صفر قطعة في العام 2009، بينما ارتفع إنتاج الخاص من الأنابيب المعدنية بنسبة 75.5%، والبطاريات الجافة كانت إحدى ضحايا إدارات القطاع العام الصناعي، والتي تراجع إنتاجها إلى صفر قطعة أيضاً في العام 2009، وفي المقابل، ارتفع إنتاج القطاع الخاص من البطاريات الجافة بنسبة 107%، كما تراجع إنتاج القطاع العام الصناعي من الإطارات الداخلية بنسبة 92%.. 

انسحاب «طوعي»

لم يقتصر الأمر على العلاقة العكسية في إنتاج السلع بين العام والخاص، لمصلحة الخاص طبعاً، بل إن هناك سلعاً انفرد الخاص في إنتاجها، مثل الجمادات حيث ارتفع إنتاج القطاع الخاص الصناعي منها بمقدار 58%، كما أنتج القطاع الخاص 150 ألف مروحة في العام 2008، ونحو ستة آلاف سيارة أيضاً، بينما غاب العام الصناعي عن إنتاج هذا النوع من السلع المعمرة..

هذه الأرقام تؤكد انسحاب العام الصناعي من السوق المحلية تاركاً إياها للخاص دون أدنى درجات المنافسة، عبر سلسلة من التراجعات الدراماتيكية المتلاحقة في إنتاج عدد من المواد الأخرى، وهي ليست بالقليلة، لا بل إن هناك خروجاً نهائياً للعام الصناعي من إنتاج بعض السلع، وهذا جريمة تمت ممارستها بحق القطاع العام، ومرت دون أية محاسبة، أو مساءلة حتى!.. 

تشخيص روتيني فقط

تشخيص أسباب الأزمة خطوة مهمة في طريق الحل، إذا ما تم استكمالها بإجراءات عملانية لاحقة، ولكن هذا التشخيص لواقع القطاع العام الصناعي جرى في الماضي، ويجري اليوم بصيغة روتينية محضة، لأنه مع كل قدوم كل وزارة أو وزير جديد يحصل تقييم لوضع القطاع العام الصناعي، وتوضع الخطط لتطوير هذا القطاع، وترصد الميزانيات، ويغدقون علينا، إلا أن واقع هذا القطاع يتجه إلى الوراء، فهذا التشخيص المبدئي لواقع الحال من وزارة الصناعة ما هو إلا ظاهر المشكلة، وأحد مكوناتها، ولكن في الباطن والعمق معوقات أخرى قد لا يجرؤ البعض على البوح بها.. 

تخسيّر مدروس

لا يزال القطاع العام الصناعي يحقق فوائض مالية غير قليلة، إلا أن هذه الفوائض يجري تحويلها إلى الخزينة، ومن ثم تؤمن الخزينة الاستثمارات والاستبدالات اللازمة لهذه المؤسسات، فقطاع الصناعة التحويلية منفرداً رفد الخزينة العامة للدولة بنحو 196 مليار ليرة خلال سنوات الخطة الخمسية العاشرة (2006 – 2010)، بالإضافة إلى دفعه لرواتب 75 ألف أسرة عاملة في هذا القطاع على مدى السنوات السابقة..

فالقطاع العام الصناعي ليس عبئاً على الدولة، والفوائض المالية التي تحققها مؤسسات هذا القطاع قادرة على تجديد آلاته، ولكن هذا يحتاج إلى قرار، فما يجري اليوم لهذا القطاع العام الصناعي هو محاولة للتخسير الممنهج له، لتبرير التصفية اللاحقة، فإذا كان تجديد آلاته هو المشكلة، فإن فوائضه المالية قادرة على سدادها وزيادة، إلا أنه يبدو أن هناك غياباً لقرار توسيع القطاع العام وإصلاحه، هذا القطاع الذي جرى عليه الهجوم الحكومي في السابق لإنهائه بحجة الخسارة التي تشهدها بعض معامله وشركاته..

إصلاحات «ترقيعية»

المطلوب ليس الحفاظ على هذا القطاع بوضعه الحالي، مع بعض الإصلاحات «الترقيعية» لهذا  المعمل أو لخط الإنتاج، وإنما يجب إعادة الاعتبار له، واعتماده كركيزة للاقتصاد الوطني، والسير في دعمه على هذا الأساس، فضخ ما يقارب 38 مليار ليرة في شرايين هذا القطاع كفيل بنقله من حالته السيئة التي يعيشها اليوم إلى قدرة أفضل على الإنتاج، وهذا الرقم لا يتعدى حجم الفائض السنوي المقدم منه في حالته الراهنة للخزينة العامة للدولة، وهذا سيساهم في المحافظة على عمالة هذا القطاع، وتوفير فرص إضافية إذا ما جددت آلاته وخطوط إنتاجه، ومضاعفة إنتاجيته بالضرورة، وهذا يؤكد أنه من المجدي اقتصادياً التفكير بخطة إستراتيجية لإعادة هيكلة هذا القطاع بما يكفل نهوضه من جديد..

آخر تعديل على الإثنين, 17 تشرين1/أكتوير 2016 14:50