بيع القطاع العام انتهاكٌ للدستور واعتداء على حقوق الشعب السّوري
كان الأمل قبل سنوات تحقيق انطلاقة منظمة ومدروسة ترتكز على إعطاء الأولوية لتصويب وإصلاح القطاع العام أو تشغيل المعامل والأقسام المتوقفة عن العمل، وتأمين مستلزمات ذلك وحصر الطاقات الموجودة، ووضع برامج عملية لاستغلالها بأفضل شكل، والتفتيش عن إمكانات إنتاج منتجات جديدة داخل المنشآت القائمة بإضافة خطوط إنتاجية إليها مع الاعتماد على الأيدي والخبرات الوطنية وحفزها وتطوير مهاراتها، والاهتمام بالصيانة حفاظاً على وسائل الإنتاج، ودراسة إمكانية تخصيص بعض المعامل في إنتاج قطع تبديلية مع التركيز على الصناعات الأساسية، والكف عن منح تراخيص لإقامة صناعات ترفيهية تستنزف موارد وقطعاً أجنبية بأكثر مما تعطي.
هكذا كان الأمل، وليس تطويق القطاع العام وتأجير منشآته أو المشاركة فيها.
لقد استطاعت الدولة عبر عقود أربعة أن تسير بالاقتصاد خطوات جيدة، من خلال الدور المتنامي للقطاع العام، وتمكنت من إنجاز مهمات اقتصادية بالغة الأهمية والتعقيد على طريق التنمية، وفي مقدمتها تحديد طريق التطور الاقتصادي والاجتماعي، وتصفية العلاقات الإقطاعية، وإنشاء وتطوير القاعدة الصناعية، وإعادة تشكيل العلاقات الزراعية وتوفير القاعدة الاقتصادية لتحسين معيشة السكان، وتحقيق مستوى مقبول من العدالة والتوازن الاجتماعيين.
ساهم القطاع العام في توفير فرص عمل لمئات الألوف من العمال والمختصين والمهندسين، وإن كان دوره في هذا المجال قد تحقق في الغالب على حساب فعاليته وربحية المشروع الحكومي، وذلك بسبب أخطاء في سياسة التشغيل الاجتماعي.
كان القطاع العام يستجيب لكل الإجراءات والضوابط التي تضعها الدولة لحل مشكلات المجتمع، وانطلاقاً من هذه الحقائق، فإن المدخل الأساسي لمعالجة الصعوبات التي يعاني منها الاقتصاد الوطني هو المدخل الأساسي نفسه لمعالجة الصعوبات التي يعاني منها القطاع العام.
المطلب اليوم هو حماية القطاع العام من المزاحمة الرأسمالية الداخلية والخارجية، ومن أبرز أشكال الحماية هو ألا يأخذ القطاع الخاص مزايا وتسهيلات تفوق ما يأخذه القطاع العام.
المعادلة صعبة ولكنها أساسية لمستقبل القطاع العام!!
الآن، كما في الماضي القريب، توجهت أموال القطاع الخاص إلى مجالات غير إنتاجية ونزح بعضها إلى الخارج، وجنح آخر إلى توظيف أمواله في نشاطات طفيلية، وتواكب ذلك مع قصور إداري ونهب مبرمج ومنظم لشركات ومؤسسات القطاع العام من خلال المناقصات وطلب العروض، الاستيراد والتصدير، استيراد تكنولوجية متخلفة وعمولات وسمسرة ومحاصصات... نشط السماسرة على أبواب الشركات والمؤسسات بدءاً بمحاولة الحصول على دفتر الشروط وطلب العروض وانتهاء بالدس على القرار.. مئات المديرين بعد أن تركوا مواقعهم في القطاع العام استخدموا خبراتهم للحصول على امتياز السمسرة لمصالح الشركات الأجنبية التي تعرفوا عليها خلال عملهم، وخطورة هذه الظاهرة ليست في هوامش الأرباح والعمولات التي يتلقاها هؤلاء فحسب، وإنما في تخريب قطاع كبير في المجتمع من إدارات وعمال مع تعطيل واضح لدور مؤسسات عديدة كالمؤسسات النوعية الوسيطة التي تضم جيشاً من الإداريين الذين امتهنوا السفر والعلاقات مع الشركات الكبرى وقبض المهمات الكبيرة.. انتشر الفساد، وتم إفساد من لم يفسد.. وقد جرى ما جرى للقطاع العام ضمن منهج التغطية على الأزمات والحقائق.
واستمر القطاع العام بالتردي نتيجة السياسة المالية والإدارية والفساد والمحسوبية والإدارات الفاسدة، ورغم كل هذا الواقع مازال القطاع العام رابحاً حيث وصلت أرباحه في العام 2006 لحدود 10 مليارات ل.س وبلغ معدل العائد على الاستثمار 6 %، وهو معدل قريب من معدل الفائدة المصرفية.
مثلت الأعوام القليلة الماضية في سورية، نقطة انعطاف في تاريخ التطور الاقتصادي والاجتماعي، حيث رافق الانتقال إلى اقتصاد السوق الاجتماعي أزمات حادة سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي، وقد اقترنت هذه الأزمات بتآكل الأجور وانخفاض الإنتاجية وخسارات تعرضت لها شركات ومؤسسات عديدة في القطاع العام مع استشراء الفساد في المؤسسات المختلفة، ويرى البعض بأن أغلب هذه المشاكل والعقد ناتجة عن عوامل خارجية، وهذا هروب من الواقع، والواقع يتطلب المواجهة واتخاذ إجراءات جذرية متعددة وإجراء إصلاح سياسي - إداري - اقتصادي، وهذا لم يحدث، بل تصاعدت الدعوات إلى الليبرالية والاندماج في الاقتصاد العالمي بحجة فشل الدولة عبر القطاع العام في قيادة التنمية، واتخذت إجراءات في هذا الصدد: تراجع الإنفاق الاستثماري مما يعني تراجع دور الدولة، وتحرير التبادل التجاري، وانخفاض الإيرادات لموازنة الدولة، وتحرير أسعار السلع الأساسية..
ومع هذه الإجراءات قدمت مشاريع عديدة لإصلاح القطاع العام الصناعي، وفشلت جميعها وكان آخرها مشروع المرسوم الذي قدمته وزارة الصناعة ووافق عليه الاتحاد العام للعمال بعد إجراء بعض التعديلات عليه، وتم رفعه إلى رئاسة مجلس الوزراء واللجنة الاقتصادية، لكنه لم يصدر.
أيضاً وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل قدمت مشروعاً لتعديل قانون العمل 91 لعام 1959 وهو قانون العمل في القطاع الخاص بعد جلسات عديدة مع قيادة اتحاد العمال، وقد اعترض اتحاد العمال على فقرات عديدة ومكاسب يتضمنها القانون 91 وأرادت السيدة الوزيرة ضرب هذه المكاسب التي أقرها القانون قبل 50 عاماً، كإلغاء لجان قضايا التسريح، والعقد شريعة المتعاقدين، وبنود أخرى عديدة. لكن أمام إصرار الاتحاد العام على موقفه واعتراضه تم تجميد مشروع القانون، فماذا حصل؟
في حين يؤكد اتحاد العمال على استمرار الحوار بين الأطراف الثلاثة، عمال، أرباب عمل، حكومة، حول مشروع القانون وبغية إيجاد القواسم المشتركة المتفق عليها وصياغتها في المشروع بما يتضمن عدم المساس بحقوق العمال المكتسبة، تقوم وزيرة الشؤون الاجتماعية بتمرير مواد القانون التي اعترض عليها اتحاد العمال.
فتحت مكاتب خاصة لاستقدام عمالة من الخارج، وهي تعمل الآن على إلغاء المادة 65 حيث تلغي بموجبها لجان قضايا التسريح، وتعطي رب العمل الحق في تسريح العامل متى يشاء دون تقديم أي مبرر.
أما بالنسبة لمشروع إصلاح القطاع العام فقد تم تجميده أيضاً، وتحاول الجهات الوصائية تمرير هذا المشروع في غفلة عن الحركة النقابية من خلال التلويح باتخاذ قرارات تعلن عن بيع شركات القطاع العام الخاسرة مع بيع عقاراتها، والحديث الدائم أيضاً عن فائض عمالة في القطاع العام الصناعي عدده 15 ألف عامل، يرافق ذلك أيضاً اتهامات إلى القطاع العام بانخفاض الربحية وانخفاض الإنتاجية مع طرح مؤسسات استراتيجية هامة للاستثمار لمرفأي طرطوس واللاذقية وشركة اسمنت طرطوس وغيرها.
وفي ظل هذه الأجواء يستشري الفساد ويتفاقم في غياب المحاسبة والمساءلة وسياسة ليبرالية يقودها ويمارسها الفريق الحكومي الاقتصادي تنفيذاً لتعليمات صندوق النقد والبنك الدولي، وهي انعكاس لما تطالب به الولايات المتحدة الأمريكية.
وهذا يعني أن الحركة النقابية وكل القوى الوطنية الغيورة على سورية مطالبة بوقفة شجاعة أمام التردي العام على الأصعدة كافةً.