مؤشر مدركات الفساد للعام 2008 اتساع دائرة الفساد مع التحول نحو اقتصاد السوق
تصدر «منظمة الشفافية الدولية» تقريرها السنوي الذي يتضمن مؤشر مدركات الفساد. وشمل تقرير عام 2008 (180) دولة من بينها (20) دولة عربية. وكان تقرير عام 2007 قد صدر في أواخر أيلول من العام الماضي، وقد ضمنت كتابي(1) الذي صدر هذا العام تحليلاً لهذا التقرير فيما يتعلق بمكانة سورية. ومن أجل تعميق الفائدة المرجوة من نشر هذا التقرير وما تضمنه كتابي المشار إليه من تحليل تقرير عام 2007 فيما يتعلق بسورية، أُقدم فيما يلي لمحة عامة عن مؤشر مدركات الفساد للعام 2008 للبلاد العربية (ومن بينها سورية) ثم نلقي بعض الضوء على ما يخص سورية من التقرير.
ويبين الجدول التالي(2) مؤشر مدركات الفساد لعام 2008 في البلاد العربية ولتحقيق الفائدة من قراءته نوضح الآتي:
1- يدرج التقرير الدول في قائمة تتراوح الدرجات فيها من صفر (أعلى درجات فساد) إلى 10 نقاط (أعلى درجة شفافية).
2- يعتمد التقرير على مؤشر تم تجميعه من دراسات قام بإعدادها خبراء، ومن مصادر رجال الأعمال المقيمين خلال العام المنصرم، ومن مصادر يرجع إليها القائمون في إعداد المؤشر، وهي دراسات للبنك الدولي ووحدة الاستخبارات الاقتصادية وبنك التنمية الإفريقي وبنك التنمية الآسيوي.
3- مؤشر إدراك الفساد (للشفافية الدولية) يقيس مستوى إدراك الفساد لا الفساد نفسه. ويركز على العمل في مؤسسات الحكومة والقطاع العام، ويعتمد تعريف معين للفساد، يلخص بـ (إساءة استعمال السلطة الموكلة لتحقيق مصلحة شخصية سواء كانت تلك المصلحة مكاسب إدارية أو مالية أو غير مادية، مثل الأهداف السياسية أو الطموحات المهنية).
ومن المفارقات في هذا التقرير، أن الدول الصناعية الغنية، التي تحظى بترتيب عالٍ من الشفافية، تمارس الفساد (بواسطة شركاتها) خارج أراضيها في الدول النامية. مما يؤدي إلى ارتفاع رقم مدركات الفساد في الدول النامية. الأمر الذي يجعل الانتقادات التي توجه من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة وتتهمها فيها بشيوع ظاهرة الفساد، هذه الانتقادات تبدو في هذه الحالة لا تتمتع بالمصداقية، خاصة عندما تدعوها إلى تحقيق الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية.
4- يتضمن الجدول ترتيب الدول العربية، وفق المرتبة العالمية لعامي2007 و2008. والترتيب العربي الإقليمي لعام 2008 ونتائج مؤشر إدراك الفساد (CPI) التي حازتها كل دولة في عامي 2007 و2008 كما يلي:
ونستخلص من هذا الجدول ما يلي:
1- حصلت قطر على المرتبة الأولى بين الدول العربية، حيث حازت على 6.5 نقطة عام 2008، وكانت أيضاً تحتل هذه المرتبة عام 2007، إذ حصلت على 6 نقاط، مما جعل ترتيبها العالمي ينخفض من 32 عام 2007 إلى 28 عام 2008. وهذه علامة إيجابية.
في حين أن الصومال كانت الأخيرة بين الدول العربية، إذ لم تحصل سوى على نقطة واحدة عام 2008، فكان ترتيبها العربي /20/ وهي أيضاً تحتل المرتبة الأخيرة عالمياً (180)، وقد كان ترتيبها العالمي الأخير أيضاً عام 2007.
2- أما سورية، فقد حازت على 2.1 نقطة عام 2008 مما جعل ترتيبها العالمي 147. وقد تراجع مؤشر مدركات الفساد في هذا العام عن العام السابق حيث كان 2.4 نقطة بترتيب عالمي 138. أنما ترتيبها العربي فهو 17، ويأتي بعدها السودان والعراق والصومال فقط.
ويلاحظ أن ترتيب سورية بدأ بالتراجع قبل ذلك، فقد كان مؤشر إدراك الفساد عام 2006 (2.9) ثم انخفض إلى (2.4) عام 2007 وها هو يصل إلى (2.1) عام 2008 إن انخفاض مدركات الفساد عاماً بعد آخر خلال الأعوام الثلاثة، وهو أصلاً منخفض، يدل على تناقص الشفافية، وتزايد ظاهرة الفساد بالتلازم مع السير قدماً بتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد سوق وتحرير التجارة الخارجية وتحرير الأسعار وفتح الأبواب أمام الاستثمار العربي والأجنبي، مما يجعل أي مراقب يربط ما بين انخفاض الشفافية، واتساع رقعة الفساد والانفتاح الاقتصادي وسياسات اقتصاد السوق التي يصر الفريق الاقتصادي في الحكومة على انتهاجها، ضارباً عرض الحائط بقرار القيادة السياسية القاضي بالتوجه نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، ومتجاوزاً بذلك متطلبات النهوض التي يطمح إليها شعبنا.
إن الفساد هو أحد أركان عملية التحول نحو اقتصاد السوق الحر وانسحاب الدولة من دورها الاقتصادي والاجتماعي، وإن سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، التي ينصح بها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوربي، تنطلق من أهمية الدور الذي يلعبه رأس المال والقطاع الخاص في تحقيق النمو الاقتصادي، ولهذا فإن هذه السياسة تشجع تراكم رأس المال، بصرف النظر عن مصدر هذا الرأسمال، سواء جاء بنتيجة جهد حقيقي ومنتج، أم جاء عن طريق الفساد (بجميع أشكاله) ودعاة الليبرالية الاقتصادية الجديدة، يعترفون أن سياساتهم موالية للطبقة الغنية انطلاقاً من أن هذه الطبقة ستعمل وفق قانون (التساقط) على تعميم الخيرات (مستقبلاً) لتصيب الطبقات الفقيرة.
لقد ثبت أن سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة الموالية للفئات الغنية، سوف تزيد غنى الأغنياء، وتزيد فقر الفقراء في آن واحد. كما أنها بإطلاقها حرية التجارة وتحرير الأسعار وتعظيمها للحرية الفردية، فإنها تطلق بذات الوقت (وحش) الاستغلال والاحتكار وتعمم الفساد وتجعله سلوكاً يومياً يجتاح المجتمع.
وما نود الإشارة إليه، أيضاً، هو أن الفريق الاقتصادي الذي يدعو إلى فتح باب الاستثمار على مصراعيه للرأس المال العربي والأجنبي، ينسى أن هذا الرأسمال يستند في توجيهه إلى أي بلد إلى معطيات ودراسات (خارج إطار ما يقال في مؤتمرات ومحافل الفنادق ذات الخمس نجوم وما فوق) ومن بين هذه المعطيات والدراسات تقارير ومؤشرات منظمة الشفافية الدولية، التي يأتي في مقدمتها مؤشر مدركات الفساد.
والمستثمر العربي والأجنبي من خلال المؤسسات المالية والصناديق الاستثمارية، قبل أن يتخذ قراره بالتوجه للاستثمار في أي بلد، يحتاج إلى معرفة ما إذا كان يترتب عليه أي أكلاف إضافية (على شكل عمولات وسمسرة ورشاوي) ويساعده في اتخاذ قرار مؤشر مدركات الفساد، لا ما تنشره وسائل الإعلام في الدولة المعنية، على أن هذا ينحصر في المستثمرين الذين يضعون أموالهم في مؤسسات وصناديق استثمارية، أما المستثمرين الأفراد الذين يديرون أموالهم مباشرة، فقد يناسبهم انعدام الشفافية، وربما ينخرط بعضهم أيضاً، في دهاليز الفساد مع بعض رجال الأعمال والبيروقراطيين المحليين.
إن تدهور ترتيب سورية في مؤشر مدركات الفساد، يزيدنا قناعة بأهمية ودور المنظمات الشعبية وأجهزة الإعلام النظيفة في الكشف عن مواطن الخلل في النظام الاقتصادي والاجتماعي، الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من الشفافية والعلنية في ممارسة العمل العام، ويشير هذا بوضوح إلى أهمية مواكبة الإصلاح السياسي لأي عملية إصلاح اقتصادي واجتماعي. فالمسألة ولا شك لها جانبها السياسي مما يوحي بأهمية توفير المناخ السياسي الذي تمارس فيه جميع النشاطات الاقتصادية والاجتماعية. وفي هذا رد على من يقول، بأنه لا يجوز إلقاء المسؤولية على سياسات اقتصاد السوق في انتشار الفساد، ويعطون مثلاً على تأكيد وجهة نظرهم بما هو حاصل في ارتفاع مؤشر مدركات الفساد في دول اقتصاد السوق، في أوربا وغيرها. والرد على ذلك هو أن اقتصاد السوق في تلك البلدان يتمتع بشفافية عالية، وقد وصلت مجتمعاتها إلى مستوى متقدم من العلانية والممارسة السياسية. ولهذا لا يمكن مقارنة أوضاعها بأوضاع البلدان النامية المثقلة بمظاهر التخلف المختلفة.
إن أية عملية إصلاح، لن يكتب لها النجاح، ما لم يكن من أهدافها المحافظة على مكتسبات الفئات الأفقر في المجتمع، وتدعيمها والعمل على توسيعها، فضلاً عن التوجه إلى تلبية الاحتياجات الأساسية لجميع فئات الشعب. وعلى أن تستهدف عملية الإصلاح النهوض المجتمعي وتحقيق الاستقرار والسلم الاجتماعي، في مواجهة ما يتعرض له المجتمع من ضغوط وتحديات، ويأتي في مقدمة ما هو مطلوب إعادة الثقة في نفوس فئات الشعب المختلفة بمؤسسات الدولة، واستعادة الدولة لدورها الاقتصادي والاجتماعي. وتغليب مصالح الداخل على مصالح الخارج، ومصالح الأكثرية على مصالح القلة. وإشاعة ثقافة وسلوك النزاهة والإخلاص بدلاً من ثقافة وسلوك الفساد والانحراف.
الهوامش:
(1) د. منير الحمش - الثقافة الاقتصادية بين السياسات الاقتصادية (المعلبة) والمصالح الوطنية والقومية - (ص 223).
(2) نُشر الجدول في جريدة الأخبار اللبنانية العدد الصادر بتاريخ 24/9/2008.