إضاءة (شعرية) على الخطة الخمسية الحادية عشرة
قبل أن تقرأ:
قدم رئيس هيئة تخطيط الدولة (السابق) في إطار ندوة الثلاثاء الاقتصادية، التي تقيمها جمعية العلوم الاقتصادية، محاضرة في 4/1/2010، بعنوان (إضاءات على الخطة الخمسية العاشرة 2011- 2015).. وبعد أن استعرض بعض مؤشرات تحليل الوضع الراهن، أشار إلى استراتيجية الاقتصاد الكلي التي تهدف إلى تحقيق التنمية من جهة، ومواجهة الأزمات والتقلبات الاقتصادية من جهة أخرى. ثم حدد أهم التحديات التي تواجه الخطة الخمسية الحادية عشرة، وحصرها في سبعة تحديات، هي:
(تزايد الطلب على العمل وقصور النشاط الاقتصادي وتدهور الموارد المائية، والطلب المتزايد على الطاقة والتفاوت التنموي والتنمية اللامتوازنة، وعدم كفاءة النظام التعليمي واستمرار الأمية، وضعف القطاع العام والضعف الإداري والمؤسساتي، أما التحدي الأكبر فهو معالجة البطالة وإيجاد العمل للأعداد المتزايدة من الشباب).
لم أكن أرغب في التعقيب، لكن الواجب والمسؤولية الأدبية تجاه الوطن واقتصاده، والعبث الذي ازداد في الآونة الأخيرة في قوت الشعب ومستقبل الأجيال، كل هذا دفعني لمداخلة قصيرة، تركزت حول سؤالين وقضية.
أما السؤالان فكانا حول:
1- ما هي الخلفية النظرية التي ستعتمد في الخطة الخمسية الحادية عشرة؟ فالخطة الخمسية العاشرة، اعتمدت كما ذكر، اقتصاد السوق الاجتماعي، لكنها في التطبيق أخذت الاقتصاد الوطني بعيداً نحو اقتصاد السوق الحر والليبرالية الاقتصادية الجديدة المتمثلة في توصيات وبرامج المؤسسات الدولية والاتحاد الأوروبي.
2- سمعنا أن هناك تقريراً أعدته هيئة تخطيط الدولة حول تحليل نتائج الخطة الخمسية العاشرة في منتصفها، كما أن هناك تقريراً آخر أعده الفريق الاقتصادي، والتقريران يختلفان ببعض النتائج. ولم يعلنا للجمهور أو الإعلام. ما هي حقيقة هذين التقريرين، ولماذا لم يعلنا؟
أما القضية التي أثرتها فهي التحدي الأهم، الذي لم يذكره رئيس هيئة التخطيط فيما عرضه من تحديات.. إنه تحدي الفقر وتحدي مستوى معيشة الشعب. هذا المستوى الذي تدهور إلى الحد الذي أوصلنا إلى ما دعوته (طوابير الإذلال)، وأقصد بها طوابير الحصول على دعم المازوت.
ولم يرد رئيس هيئة تخطيط الدولة على مداخلتي، سوى بتعقيب مقتضب ختمه (باتهامي) أنني قلت (شعراً).
فهل كان جاداً، أم مازحاً؟ أم أن تصفيق الحضور لما قلته، قد أغاظه؟ أم كان يداري ما لا يريد البوح به؟
على أية حال، لستُ عاتباً، ولا مستاءً، وليتني كنت شاعراً، أليس الشعر نبض القلب، ومتعة السمع، وبهجة الروح؟
لكن في هذا الزمن الذي وصلنا إليه، كم نحتاج إلى الشعر، فلم يبق من سبيل سواه، بعد ما وصلنا إليه. وكما كتب رفيق خوري في ديوانه الأخير (برق الزمان):
«لم يبق إلا القليل من الندم
ليس إلا بقايا من زمان الأمنيات
ما لم يكن، لن يكون، هذا مكان يدور..
هذا زمان يدور..
يقول الحكيم جننت..
يقول المغني مللت..
يقول المحب تعبت..
تعب الوقت من الوقت..
أترك آخر العمر حليف الوهم..
والوهم هو العمر المحال».
التحدي الأهم الذي يواجه الخطة الخمسية الحادية عشرة:
قبل أن يعمم الجنون، والملل، والتعب، وقبل أن يتسرب اليأس والإحباط، دعونا نلقِ بعض الضوء، للمسألة المركزية التي أرى أن على الخطة الخمسية الحادية عشرة أن تركز الجهود حولها، ألا وهي تحدي الفقر ورفع مستوى المعيشة.
لا أريد هنا، العودة إلى ما ورد في الخطة الخمسية العاشرة من نصوص وشعارات، إذ يعرف الجميع أن هذا شيء، وما تم تطبيقه من سياسات، على أرض الواقع، شيء آخر، وما يهمنا الآن، هو السياسات الاقتصادية العملية التي اتبعها الفريق الاقتصادي، والنتائج الواقعية لهذه السياسات.
وعندما نقول إن سياسات الفريق الاقتصادي التي طبقت خلال سنوات الخطة الخمسية العاشرة (2006- 2010)، وما قبل ذلك بقليل، هي السياسات الاقتصادية الموصى بها من المؤسسات الدولية (البنك الدولي- صندوق النقد الدولي- منظمة التجارة العالمية) والاتحاد الأوروبي، لا نقول ذلك على سبيل الاتهام، إنما نقوله تقريراً لواقع، ولتسمية الأمور بمسمياتها.
ماذا تريد برامج المؤسسات الدولية والاتحاد الأوروبي من سورية؟
باختصار شديد، تريد تحويل الاقتصاد السوري إلى اقتصاد تحكمه آليات السوق وقواه الغاشمة، وبالتحديد، هناك ثلاثة أهداف رئيسية، تمثل جوهر الليبرالية الاقتصادية الجديدة، وهي:
- تحرير الأسواق الداخلية (بما في ذلك تحرير الأسعار).
- تحرير التجارة الخارجية (واعتبار ذلك قاطرة للنمو) بما في ذلك الالتحاق بالاقتصاد العالمي.
- حكومة الحد الأدنى، أو الحكومة الصغيرة (بما يعني انسحاب الحكومة من الشأن الاقتصادي والاجتماعي).
وتتضمن هذه الأهداف الخصخصة، وإنهاء القطاع العام، وتسليم مقاليد القرار الاقتصادي للقطاع الخاص.
وقد ترتب على هذه السياسة، تغليب مصالح الأغنياء ومحاباتهم خاصة في السياسات المالية والتجارية، وإقصاء دور القطاع الأوسع من أبناء الشعب، وإعادة هيكلة القطاعات الاقتصادية والهياكل الاجتماعية، بما يخدم تلك الأهداف.
ونجم عن ذلك: الإضرار بمصالح الفئات الواسعة من أبناء الشعب وخاصة الشريحة الوسطى والفئات الفقيرة، لمصلحة فئة محدودة من التجار ورجال (وسيدات) الأعمال الجدد، مع ضمان المصالح الضيقة لرجال الأعمال القدماء الذين تراجعوا على مضض.
وكانت إجراءات وسياسات الفريق الاقتصادي، تلاقي الاستحسان والرضا من ممثلي المؤسسات الدولية والاتحاد الأوروبي، بهدف دفعه إلى المزيد من تلك الإجراءات والسياسات. إذ يقول صندوق النقد الدولي في تقريره للحكومة عام 2008، إنه لم يبق سوى مسألة دعم المشتقات النفطية وإقرار ضريبة القيمة المضافة. ونكون بذلك قد (ختمنا) وأنهينا مسألة التحول إلى اقتصاد السوق، وأرضينا بذلك المؤسسات الدولية، والاتحاد الأوروبي، وحفنة من رجال (وسيدات) الأعمال الجدد، مقابل تهميش القطاعات الواسعة من أبناء الشعب، الذين يعتبرون العماد الأساسي للنظام الاقتصادي السياسي، وهم العمال والفلاحون وصغار الكسبة وجميع أبناء الشعب من أصحاب الدخل المحدود والفقراء. والنتيجة كما ذكر رئيس هيئة تخطيط الدولة، تراجع مؤشرات التنمية البشرية.
لقد راهن الفريق الاقتصادي في سياساته، على مجموعة من الافتراضات الخاطئة، فقد راهن على:
- أن آليات السوق قادرة على تحقيق تخصيص أفضل لموارد.
- وأن القطاع الخاص قادر على حمل أعباء التنمية وقيادة الاقتصاد الوطني.
- وأن الاستثمارات الأجنبية قادرة وراغبة في سد الفجوة التمويلية.
- وأنه بالإمكان جعل سورية سوقاً مالياً إقليمياً.
- وأن سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، والتحول نحو اقتصاد السوق، سوف يحققان لسورية الانضمام إلى العصر والتحول إلى دولة عصرية متقدمة.
- وأنه ليس هناك خيار سوى الالتحاق بالعولمة والاندماج بالاقتصاد العالمي.
وقد نسي الفريق الاقتصادي أمرين أساسيين:
الأول: قانون اقتصاد السوق الأساسي القائم على الربحية، والذي يضرب عرض الحائط بحاجات الناس. ويهدد السلم الاجتماعي.
والثاني: أن هذا النوع من الاقتصاد، يؤدي إلى إضعاف قوة الدولة، عندما يلح على انسحابها من الشأن الاقتصادي، إذ يؤدي إلى تهميش دور الدولة، وإضعاف قوتها التفاوضية تجاه الخارج، في الوقت الذي نحن بأشد الحاجة إلى قوة الدولة، في ظل ظروف الضغط والاحتلال، والتهديد المستمر لأمتنا ووجودنا، فمن جهة جزء عزيز من أرضنا محتلٌ، ومن جهة أخرى، ضغط الولايات المتحدة (والاتحاد الأوروبي) من أجل الانصياع للمطالب الإسرائيلية، ومن جهة ثالثة التهديد العدواني الإسرائيلي المستمر، هذا فضلاً عن متطلبات تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ويأتي انكشاف اقتصادنا الاقتصادي والتجاري (بسبب السياسات الانفتاحية) ليزيد من حدة تداعيات أزمات الاقتصاد العالمي، وزيادة تأثرنا بهذه الأزمات. الأمر الذي يفترض تمكين الاقتصاد الوطني قبل تحريره. وهذا ما لم تحققه السياسات الاقتصادية للفريق الاقتصادي.
من هنا تأتي أهمية إجراء المراجعة لهذه السياسات، ونحن بصدد الإعداد للخطة الخمسية الحادية عشرة، فهل المطلوب المضي في السياسات التي حكمت مسيرة الأعوام السابقة (بما فيها أعوام الخطة الخمسية العاشرة)، أم المطلوب تصحيح هذه المسيرة؟
وتصحيح المسار يتطلب مواجهة التحدي الذي أشرنا إليه، وهو تحدي الفقر ومستوى المعيشة، والأمراض الاقتصادية والاجتماعية التي رتبتها السياسات الاقتصادية للفريق الاقتصادي. في مقدمة التحديات السبعة التي أشار إليها رئيس هيئة تخطيط الدولة السابق.
إن الفقر، ظاهرة متعددة الأبعاد ومتعددة الأسباب، ولا يمكن التعامل مع هذه الظاهرة، إلا من خلال ربطها بقضية التخلف والتبعية من جهة، وبقضية التنمية بوجه عام، من جهة ثانية.
إن الفقر في بلادنا، وإن كان قديماً، إلا أنه ارتبط في السنوات الأخيرة بالسياسات الاقتصادية، ولهذا فإن الإطار التنموي يعتبر الحل المناسب والوحيد لحل مسألة الفقر. والإطار التنموي الذي نوصي به، هو الذي يعالج الاختلالات والأخطاء الناجمة عن توجهات السياسات الاقتصادية الليبرالية الاقتصادي الجديدة التي انتهجها الفريق الاقتصادي من جهة، ويعمل على تصحيح مسار التنمية وإعادته إلى مساره الصحيح، عن طريق إعادة الدور التنموي للدولة، من خلال النموذج السوري البديل الذي أوصينا به في كتابنا الصادر عام 2008 بعنوان «الثقافة الاقتصادية بين السياسات الاقتصادية (المعلبة) والمصالح الوطنية والقومية- نحو خروج نموذج سوري بديل». ويعتمد هذا النموذج على (بوصلة) خاصة في تقرير السياسات هي بوصلة الوطنية، فهي ميزان لا يكذب ويوصل مباشرة إلى الهدف، «يستبعد كل ما يسيء أو يضر الوطن، ويحتضن كل ما يدعم الوطن ويكرس النموذج الذي يقوم على ساقين ثابتتين:
- متطلبات الدفاع والتحرير، ومتطلبات التنمية.
- القطاع العام والقطاع الخاص.
- آليات السوق والتخطيط.
- الزراعة والصناعة.
- العلم والمعرفة.
- مصلحة المجتمع ومصلحة الفرد.
- المصالح الوطنية والمصالح القومية.
- التراث التاريخي والتطلع للمستقبل.
- التنمية والبيئة.
- تلبية احتياجات الحاضر ومتطلبات الأجيال القادمة.
- الإنتاج والإنتاجية.
- الادخار والاستثمار.
- الأسعار والأجور.
- الضريبة العادلة والتوزيع العادل للثروة والدخول.
وختمت، بأن هذا النموذج يحتاج إلى تفصيل أكثر، وإلى إكساء هيكله العام بالمزيد من البحث والإغناء، وعلى الفريق الاقتصادي أن يخرج من وراء السد الذي بناه لنفسه ولسورية، ليتنفس الهواء النظيف، هواء خالياً من سموم الليبرالية الاقتصادية الجديدة، وليتخلص من براثن المؤسسات الدولية، ونفث سموم الغرب، ليعيش بين الناس خارج فنادق «الخمس نجوم» والحفلات المصطنعة، والابتسامات الملغومة التي يوزعها دعاة العولمة ومروجو الالتحاق بالاقتصاد العالمي.
إن النموذج السوري للتنمية الذي اقترحه، هو النموذج الذي يعالج مسألة الفقر والحاجات الإنشائية، ويلغي طوابير الإذلال، وهو يعتمد على نحو أساسي على خمسة مبادئ:
1- استقلالية التنمية والاعتماد على الذات.
2- إعادة الاعتبار لدور الدولة التنموي. وتمكين الاقتصاد وتعزيز قوته دعماً للأمن القومي.
3- المشاركة الديمقراطية والتوزيع العادل للدخل والثروة.
4- ضبط العلاقات الاقتصادية الخارجية انطلاقاً من المصالح الوطنية.
5- الاهتمام بالحاجات الإنسانية الأساسية العاجلة، التي تشكل البؤرة التي تتجمع حولها ظاهرة الفقر. وإعادة الاعتبار للحامل الاجتماعي الحقيقي للنظام السياسي والاقتصادي.
فهل يمكن للإدارة الاقتصادية، ولهيئة تخطيط الدولة، أن يعيدا النظر بالسياسات الاقتصادية، ويضعا المصالح الوطنية فوق كل اعتبار، لتوضع الخطة الخمسية الحادية عشرة على الطريق السليم؟. هذا ما تنتظره جماهير شعبنا.