(الأهداف النبيلة).. للسياسة الاقتصادية

(الأهداف النبيلة).. للسياسة الاقتصادية

وقف وزير الاقتصاد أمام مجلس الاتحاد العام لنقابات العمال بتاريخ 15-8، وشرح للعمال السياسة الاقتصادية للحكومة، ليوضح لهم ما لم يوضحه سابقوه ونظرائه من (أهداف نبيلة) للسياسة الاقتصادية..

تهدف السياسة الاقتصادية للحكومة، إلى تحقيق النمو الاقتصادي، والنمو بدوره يتطلب توسيع الاستثمار، والاستثمار سيكون استثمار عام بالدرجة الأولى، ولذلك فإن الحكومة تركز على التشاركية باعتبارها توسيع للأموال المستثمرة في المنشآت العامة، بالإضافة إلى تحفيز الاستثمار الخاص.. وعموماً هذا سيؤدي إلى زيادة النمو، وزيادة التشغيل، وزيادة الدخول والاستهلاك، وزيادة الأجور بنهاية المطاف.. كل هذا وفق السلسلة التي شرح فيها وزير الاقتصاد (جوهر سياسة الحكومة)، مطمئناً العمال بأن الفوائد من نجاح هذه السياسة ستصلهم.. ما أن يقلع النمو الاقتصادي، عبر الاستثمار والتشاركية تحديداً.

وباعتبار الحكومة تقدم سياستها بهذا الشكل المختصر والمبسط، فإن علينا أن نطرح مجموعة من الأسئلة، تفيد بالإيضاح..

كيف يتحقق النمو؟!

ليتحقق النمو في سورية اليوم، يجب أن يتوقف التدهور أولاًّ! فسورية منذ خمس سنوات تخسر سنوياً من منشآتها ومعداتها ومساحاته الزراعية ومنتجاتها، ومن الأموال المودعة في مصارفها، التي تشكل بمجموعها رأس المال، فعلى سبيل المثال خسر مخزون رأس المال خلال عام 2015 نسبة 20% من قيمته في عام 2014. وهذه الخسارة ليست بفعل التدمير المباشر فقط، بل بفعل ضعف الجدوى الاقتصادية، وعدم استخدام رؤوس الأموال المتاحة في عمليات إنتاجية.

ونحن منذ عام 2011 نخسر سنوياً من الناتج المحلي الإجمالي قيماً جديدة، والمطلوب اليوم أن نوقف الخسارة، وهذا يتطلب عدا عن توقف التدمير المباشر، توفير الشروط لزيادة الجدوى الاقتصادية.

وأقله لتحقيق نمو صفر أي وقف التراجع، يجب أن يتم استثمار 10% من ناتج 2015، المقدر بحوالي 24 مليار دولار، لتعويض اهتلاك رأس المال، أو تعويض ما تم استخدامه، وهذا المبلغ يقدر بحوالي 2,4 مليار دولار ما يعادل 1270 مليار ليرة استثمار.

الحكومة في موازنتها وضعت خطة استثمارية لا تتجاوز 510 مليار ليرة، أي 4% من الناتج، ليتبقى حوالي 1800 مليار ينبغي أن يستثمرها أصحاب رؤوس الأموال.. فكيف ستدفعهم الحكومة للاستثمار؟!

كيف ستجذب

 الحكومة رؤوس الأموال؟!

لا يوجد في ظروف الحرب، واستمرار تدمير المنشآت والمعدات والأبنية والزراعات، ما قد يجذب رؤوس الأموال الكبيرة، لتقوم بعمليات الاستثمار في سورية حالياً.

فالجدوى الاقتصادية ضعيفة، بدليل خسارة مباشرة في رؤوس الأموال سنوياً، واحتمالات عدم تحقيق الربح جدية، وتحديداً مع تراجع الطلب والقدرة الشرائية بشكل مستمر، حيث تراجع الاستهلاك الإجمالي بمقدار 40% في عام 2015 عن 2014.

ألا يدرك واضعو السياسات الاقتصادية هذه الحقائق؟ بالتأكيد يدركونها، بل يستخدمونها لتبرير سعيهم الجدي لإرضاء رؤوس الأموال، وعدم استهداف الموارد المتراكمة لدى أصحابها، فيتم تقديم كل الحوافز الممكنة، من إعفاءات ضريبية، سواء عبر القوانين مثل قانون الاستثمار القادم، أو عبر ترك التهرب الضريبي يفعل فعله في تحفيز المستثمرين. ويتم تقديم حقوق غير مسبوقة للانتفاع شبه المجاني بالمنشآت الحكومية، وصولاً إلى الحق  في استملاك أراضي الدولة لصالحهم كما في قانون التشاركية الجديد.. وإذا لم يقبل المستثمرون الاستثمار في المنشآت الخاسرة، فإن الحكومة ستعرض عليهم استثمار منشآتها الرابحة، كما حدث في الاسمنت، وبما يفسر الحديث عن التشاركية في شركة كابلات دمشق الرابحة كذلك الأمر..

هل تستهدف الحكومة كل (المستثمرين)؟!

الغريب أن نوعاً خاصاً من المستثمرين لا يلقى هذه الحفاوة الحكومية، نحو الاستثمار! ونعني هنا الصناعيون السوريون، وتحديداً ممن لا يعملون في الصناعة والتجارة سوية، والحرفيون، والمزارعون. أي مجمل المنتجين المحليين الذين يستثمرون في منشآتهم حتى لو انخفضت معدلات ربحهم أو حققوا خسارات متتالية، كونها تشكل مصدر رزقهم وقوتهم الأساسي، فيسعون إلى المحافظة على مصدر دخلهم الوحيد حتى النفس الأخير، وهؤلاء هم من يخرجون من عملية الاستثمار سنوياً نتيجة التدمير الاقتصادي.. 

هؤلاء لا يرون من الحكومة إلا سياسة التقشف، فلا تعويضات لخسائرهم، ولا إقراض لتمويل إقلاع أو توسع إنتاجهم، ولا دعم لتكاليفهم بل رفع مستمر لمستلزمات الإنتاج غير المتوفرة وتحديداً الكهرباء وعناصر الطاقة الأخرى..

ألم نجرب هذا مسبقاً؟

 

إن السياسة الاقتصادية تستهدف تحديداً، أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، من القادرين على الاستثمار في المنشآت العامة، وفي سد الفجوة الكبيرة في العمليات الاستثمارية، والسياسة الاقتصادية الليبرالية هذه المحابية للأغنياء، أي التي تهدف إلى تحقيق نمو عبر دعم المستثمرين الكبار باعتبار أن استثمارهم هو قاطرة النمو، هي ذاتها السياسة المستمرة والمعلنة منذ عام 2005 بشكل واضح.. وهي إن أدت في حينها إلى نمو 5% بحسب الحكومات، فإن هذا النمو قد أتى معظمه من استثمار الأغنياء في العقارات والخدمات والمال والمصارف، ليحصلوا بالمقابل على أكثر من ثلاثة أرباع الدخل الوطني، ويتركوا الربع فقط لأصحاب الأجور..

ما حدث في نهاية مطاف هذه السياسة بين عامي 2005 – 2010 كان توسع الفقر من 11 % إلى 30%، وتوسع البطالة إلى 30% عوضاً عن 8% كانت مستهدفة، وكل هذا حصل عندما كان (يتحقق النمو) كما تدعي الأرقام! 

إن من يضع هذه السياسات ومن يسوق لها، يدرك أنها ليست سياسات جديدة، ولن تكون مجدية في تحقيق النمو في الظرف الحالي، ولن تكون مجدية في تحقيق زيادة دخول وأجور في نهاية المطاف في أي ظرف..

إنها سياسة قائمة على إدارة الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وفق ما تقتضيه مصلحة استمرار ظروف الفوضى حالياً، لأن كبار المستثمرين حالياً يحققون نتائج هامة من المضاربة والاحتكار والفوضى بأشكالها.. كما أن هذه السياسات تمهد لمصلحة كبار المستثمرين ذاتهم في المرحلة القادمة بعد توقف الحرب، وبدء الإعمار، حيث أنها تؤمن لهم شرطي جذب رئيسيين، الأول: استثمار رخيص بليرة مدمرة، وأجور متهاوية، والثاني: جهاز دولة منسحب من العملية الإنتاجية والتوزيعية والخدمية إلى حد بعيد..